بمناسبة استضافة منتدى حوار للشاعر فتحي أبو النصر في مارس 2007.
أعترف بعلاقة ضرورية أقمتها مع نصوص فتحي ومع فتحي ككائن شعري يشعل الحيرة ويمضي كعادته في إصرار عجيب على أن يظل هو .. مهما احتشدت الاتفاقات على اختراع مراوغة جماعية مصطنعة للبحث عن نمط انفعالي يساير موضة أو يمشي في زفة كلام يروق مزاج من يفكر في تزعم شلة ما، لوضع خرائط لطرق متقلبة للوصول إلى لحظة صفاء مع اللغة والذات والعالم، العالم الذي مهما بدا كبيرا ومتعدداً ومتناهيا .. إلاَّ أنَّه في وعي فتحي يظل عالما متصلاً بلحظة أزلية تبدأ من محبة كل الكائنات اللعينة كما تبدأ من أول كلمة تطبعها أنامل فتحي على حروف (كيبوردات) درداء في مقاه محايدة تفاعلت بدخان سجائره فصارت جدرانها منقوشة بقصائد حنين وأنغام أغانٍ عديدة يحفظها فتحي وحده، ويحاول الحشد أن يجاريه في الترنُّم بها من الخارج دون المقدرة على الإمساك بلحظات تشكلها الأولى في روح خالقها الأول الذي يمكن أن نسميه أيضا فتحي.
من أين أنتهي.. عندما أقرر أن أكون جباناً وأهجر الكتابة بحثاً عن حرفة أخرى مسلية أتذكر أن فتحي أبو النصر يكتب منذ زمن بساق وردة غير مرئية لا تجف ولا تذبل.
تتبدل الرؤى ويعم القلق في نفوس الشعراء حول مدخل القصيدة ورعب التشابه، ويظل فتحي شبيها بذاته.
الشهادة هنا معنية بتأمل صورة إبي النصر وتحولاتها داخلي أنا بمعزل عن تحولات فتحي نفسه..
بدأنا على شكل جماعات معزولة عن بعضها البعض تفصلنا شوارع ومقاهٍ وأصنام نعبدها بشراسة ونطمح أن نحتل مكانها يوماً ما ولو على طريقة التماثيل العائلية التي تلتصق ببعضها في المنحوتات الإغريقية لتشكل تمثالاً واحداً بمؤخرات عديدة لكنها تحمل نفس النظرة البلهاء إلى فضاء الساحة الخالي من الجمهور.
مجموعة خرجت من تحت أشجار كلية الآداب بجامعة صنعاء وظلت تتغزل بطالبات يوشكن على التخرج والتسبب بجفاف الشعر وموت الإلهام..
مجموعة أخرى حاولت ان تكون (مقالحية) باعتبار الأب أنموذج إعلامي مؤثر دون أن يحاول أحد أن يكشط الطبقة السلطوية والهالة المصنوعة من باب ضرورة أن يكون هناك زعيم شعري مواز لمنجزات الثورة في مراكمة الزعامات.
مجموعة أخرى يرثى لها حاولت أن تكون (بردونية) فيما البردوني نفسه كان يسخر منها لأنه يعرف ان الواحد لا يتكرر.
مجموعة هجينة فرحت بالميكرفونات واعتلاء المنصات (أحياناً بدل فاقد) كما ابتهجت برؤية أسمائها مطبوعة على صفحات القعود واليوسفي .. فيما تطور الامر وأصبحت جليسة لمقائل الصكوك التي كانت تمنح لمتناقضات غريبة كانت بتسامح غريب تسمى قصائد.
وسط هذا الهراء الذي ضعنا فيه لسنوات منذ 17 عاما يظهر فتحي أبو النصر كجماعة شعرية مكونة من شاعر واحد.
حاول و نجح في أن يحب الجميع وأن يجعل المشترك الأول بينه وبينهم عبارات موجزة أعجبته في قصائد محشوَّة بكلام كثير فارغ، و ثمة مشترك آخر لا يخلو من السهر والنيكوتين حتَّى وإن كان تقاسم هذه البهجة الإنسانية الصادقة مع مداحين ومشعوذين كانوا وما زالوا يكتبون قصائد تشبه برنامجا قديما ٱسمه (صور من بلادي) .. البلاد التي لم يعثر عليها فتحي إلا داخله.
ذات مرة حاول فتحي أن يلتمس العذر لمحبة كائنات عديدة لمجرد أنها تحب الشعر وتحاول أن تكتبه..
كنت واحداً منهم بالطبع، و وجدت ٱسمي محشوراً ضمن أسماء كانت في الأصل جزر معزولة ، لكن فتحي جعلها تركب موجة واحدة تتراقص في مخيلته.. موجة من الحُبّ والأمل في أن يستيقظ من كل جزيرة كائن شعري واحد يبحث لنفسه عن معنى ولقصيدته عن لغة.
عندما قابلت فتحي لأول مرة سمعته يتحدث عن عمر الجاوي وعبد الله البردَّوني و عبد اللَّه قاضي، نبيل السروري .. التبس علي الأمر فظننته كهلا على هيئة صبي و صبي على هيئة كهل، لكن الجهات اعتدلت في بوصلتي فرأيته فيما بعد على هيئة ناسك في صومعة شريرة تنتقي أسماء مجانين لهم علاقة بالمستقبل.
كانت الغيرة تدب في نفوس أصدقاء أجمعوا على أن الطمأنينة التي في لغة فتحي تجاه جوهر الشعر طمأنينة مبكرة وحكيمة لدرجة تجعل مجايليه يشعرون بامتلاكه لأسرار العلاقة بين اللعنات وبين الابتسامة الصادقة وبين القصيدة التي تنمو في دفاتره بثقة العارف..حاولنا ان نهتم بالخارج وبالتصفيق وبما حولنا و كان يحاول أن يركز على الداخل وبما يحيط بالداخل من عذابات ومسرات.
لو أحصى فتحي أسماء أصدقائه وملامح وجوههم سيكون من بينهم أطفالا شاركهم العبث بالرمل على الساحل الذهبي في عدن.
كل تلك العصابات التي تمترست حول رغبة مجنونة في أن تكتب ما يقترب من الشعر .. كل تلك الأسماء التي مارست النميمة .. كلنا جميعا .. لم نستطع ان نبتسم بمودة لأنفسنا أما المرايا إلا بعد زمن طويل من تكشير الانياب .. في حين كان فتحي يبتسم لنا ولنفسه وللأغاني الغفيرة التي يجمعها في ذاكرته منذ زمن طويل.
بعد فترة من الزمن قرأت أن ” الحداثة تسامح” فاكتشفت أننا لم نكن حداثيين، وأننا حتى لم نحدث شيئا يستحق أن نطمئن لخلوده.
بعد فترة كان فتحي يعبر الحدود ويتجول في مدن عديدة وهو يجلس على كرسي في مقهى الانترنت، في حين كنا ما نزال نتجول في ميادين بيع الكتب المستعملة ؟
بعد فترة وجدت في مدن عربية من يقول لي:
– هل أنت من اليمن .. هل تعرف فتحي أبو النصر؟
لهذا السبب عندما نشر فتحي على الأنترنت نصوصه الخرافية “الممرات” جمعتها ورقة ورقة وصنعت منها كتابا يزدحم بأسئلة وتعرجات لغوية حادة وشفيفة في آن واحد .. ممرات تشبه مكابدات كاهن بوذي يقول لنا: ابحثوا عن ممراتكم بمحبة وألم وستجدونها.
وقبلها كانت (نسياناته) كمجموعة أولى ناضجة تفضح ارتباكات وبدايات باهتة شارك الجميع في اقترافها لمجرد العبور، ودون التفكير حتى في الهدف من مراكمة الكتب في المخازن وعلى الرفوف الوهمية..
هناك أيضاً فتحي الصحافي وكاتب العمود المشاكس في صحيفة التجمع ومحرر الصفحات الثقافية الانيقة، وكاتب الأخبار في واجهات الصحف.
فتحي أيضاً هو الحزين الذي تقابله في شتاء صنعاء وقبل أن يلوح مغادراً ينصحك بأن تبتسم، فتحي هو الذي لا يعبأ بحضور الفعاليات المتشابهة، ولا يفكر في أن يخوض الانتخابات في اتحاد الادباء.
وهو الذي يختفي فجأة عن الأعين ليغتنم فرصة مؤقتة للعزلة مع روايات ورسائل sms حميمة من أصدقاء يضجرهم غيابه عن النت وعن الماسنجر.
هو الذي يسخر من شاعر خليجي يحتضن (اللاب توب) على سرير وثير ويدردش في الماسنجر مع فتحي عن الملل من شوارع لندن وإجازات باريس..
فتحي أيضاً هو الذي يجعلك تنتبه إلى أن أغلب الشعراء رجال آليين وموظفين تافهين طوال اليوم، يدعون أرواحهم الشعرية في ثلاجات ويخرجون إلى الشارع كأشخاص عاديين واحيانا كهمجيين؟
****
تجربة فتحي تجعله غير محسوب على جيل شعري محلي .. بل إنها تجعله يحسب على جيل شعري عربي لا يؤمن بالكتلة الواحدة أو التشابه..
قد تسحقني لغته في القصيدة وأنا أحاول أن أكيفها أو أعود بها إلى اشتغال قطيع معين
هناك العديد من الذين يشتغلون على اللغة الميتة التي لا تقول في نهاية الامر شيئا
لكن فتحي يشتغل على اللغة بمزاج شخصي مستيقظ تماما .. مزاج يجعل الجملة في النص تمضي باتجاه الزفرة التي تلعن بفرح غامض كل السواد الذي يحيط بنا.
إستعادة