“والغَدِير: القطعة من الماء يُغادِرُها السيل أَي يتركها”.. لسان العرب لابن منظور
منذ أن اجتاحت الحوثيّة العاصمة في سبتمبر 2014، شرعت في رَقْمِ تقويم اليمنيين بالمناسبات الطائفية، وأهمها يوم الغَديْر الذي لم تستطع الحوثية أن تمنع نفسها عن الاحتفال به بعد ثلاثة أسابيع فحسب من غزوها صنعاء بمساعدة صالح. ومنذ ذلك الحين يتفاقم بذخ الاحتفال حتى وصلنا إلى مشهد الاحتفال الأخير قبل أيام حيث اشتعلت سماء العاصمة بالألعاب النارية فوق رؤوس مواطنين لا يسلمهم الحوثي معاشاتهم قرابة عقد. بذاءة الاحتفال يواكبها نقاش وجدل عنيف حول يوم الغدير وأغلبه يدور حول نظريات الإمامة والولاية عند الزيدية والشيعة.
بعض مقاصد النقاش طيّبة، ولكنه عمومًا يجيب على الأسئلة الخطأ؛ فتناول الموضوع لا يخرج عن نقاش المسائل المذهبيّة وتفاسير الفقهاء وعلماء العقيدة. ولكن الإمامة تخص مذاهب وفِرَقًا منتشرة في مختلف دول العالم الإسلامي ولها أتباع بعشرات الملايين ولم يُشتَق من إيمانها الديني بالإمامة نظامٌ سياسي أو حركات سياسيّة بالضرورة. النقاش المذهبي لا يخاطب الإشكال اليمني الذي يطرحه احتفال الحوثيّة بيوم الغدير، والبداية الموفقة ليست في تفنيد أيديولوجيا الحوثية دينيًا بل في اعتبارها حالة تخضع للفحص. من هذه البداية سنرى أن السؤال الصحيح ليس ما أصل الاحتفال بالغدير بل لماذا كان هذا الاحتفال ممكنًا؟ ما الذي جعل الحوثيّة بفكرها هذا قادرة على الوجود أصلًا؟ لماذا هذا الاحتفال المذهبي ليس مثل باقي الاحتفالات عند مذاهب وفِرق شتى تُقام دون فَلْقِ المجتمع والدولة؟
****
الحوثيّة، حركةَ تمرد مسلّح، ناتج أزمة التحديث في اليمن: تخلّف الرّيف وتدهور المدينة نتيجة فشل التنمية، وأزمة شرعية نظام حُكم وصل به الاستهتار إلى دعم حركات غير وطنيّة ليستخدمها في صراعاته ملغّمًا بذلك المجتمع والدولة معًا، وأزمة قوى سياسيّة تقزّمت وترهلت أيديولوجيًا. هذا بخصوص الهيكل، ولكن ما سبق لا يفسّر الشكل؛ أي لماذا أخذت حركة التمرد شكلَ أيديولوجيا إسلاميّة (طائفيّة-عرقيّة)؟ لماذا لم ينخرط الريف هذه المرة في حركات تمرد شيوعية ويسارية مثلما حدث في أرياف الصين وفيتنام وروسيا القيصرية، أو في ريف عُمان في الستينيّات، أو حتى في الريف اليمني نفسه قبل ستين سنّة؟
حدث هذا لأن التيار المُسيّد في الثقافة الاجتماعيّة في اليمن منذ الثمانينيات وحتى لحظة ظهور الحوثيّة كان ثقافة التنظيمات الإسلاميّة؛ لقد فلحت الحركات الإسلامية في اليمن -وعلى رأسها الإخوان المسلمون- تربة الثقافة لاستقبال البذرة الحوثيّة.
الحركات الإسلامية الكبيرة في اليمن ترى الحُكم والدولة الحديثة شأنًا دينيًا (بدرجات وتأويلات متفاوتة)، وهذا جعل منطق الحوثيّة المبدئي -منطق مقاربة الدولة دينيًا- متسقًا مع التيار الثقافي المهيمن في البلاد، والفارق هو أن الحوثيّة عبّأت قوالب منطقها بمضمون محلي-مذهبي كونها خرجت من مدينة صعدة مهد الزيديّة في اليمن، عاقدةً بذلك جلسة تحضير أرواح وأشباح الماضي التي دفع اليمنيُّون في تاريخهم الحديث ثمنًا باهظًا لطردها.
في كلام آخر، يمكن أن نعد ظهور الحركة الحوثيّة من علامات انتصار الإخوان المسلمين ونظام صالح في حسم معركة الهيمنة الثقافية في اليمن في الخمسين عامًا الماضية.
هذا الانتصار الثقافي فتك بآبائه بعد ذلك (صالح-التجمع اليمني للإصلاح) وكرث اليمن كلها، ولكن هذه المفارقة التاريخية لا تثلم صواب التحليل. هذه الملاحظة ليست حكرًا على الحوثيّة، وبالإمكان النظر إلى المكوّن السلفي داخل خطاب المجلس الانتقالي الجنوبي من ذات الزاوية أيضًا؛ كل خطاب تمرّد أو رفض للواقع يعمّد بأيديولوجيا إسلامية لأن هذه هي الثقافة المهيمنة في المجال العام، وإلى جوار هذا المبدأ توضع باقي الأفكار الخاصة بكل حركة (إمامة، عنصريّة، جهويّة، انفصال، خلافة، الخضوع للنظام الحاكم.. إلخ).
****
مدى تسيُّد التيار الإسلامي في ثقافة الدولة والمجتمع يقاس بشكلٍ أفضل في تأمل التفصيلي والعادي قبل السياسي والنخبوي. لقد كاد خطاب التيار الإسلامي في ذروته أن يغمر حياة اليمنيين تمامًا وبلغ أشد الجوانب خصوصية مثل العلاقة الحميمة بين الرجل وزوجته؛ كان من “الطبيعي” مثلًا أن يتحدث الشيوخ ووعّاظ في خُطبهم ودروسهم وبرامجهم عن أدق تفاصيل الحياة الجنسية للزوجين وما يجب عليهما فعله أو الامتناع عنه في فراشهما!
لا يزال يرى المرء سطوة الصحوة الإسلامية في اليمن وهي في غروبها المتوهّج إذا قرأ فحسب يوميات الناس وأخبارها؛ مثلًا بينما كان الحوثيُّون يحتفلون بيوم الغدير، حدث أمر هامشي آخر على بعد مئات الكيلومترات من صنعاء وخارج سيطرة الحوثيين والتجمع للإصلاح، وهو القبض على رجل وامرأته في محافظة حضرموت بسبب نشرهما صور شخصية لهما في ثياب الزفاف، ومحاسبة للفتاة على عملها عارضة للأزياء. إن منطق قسم شرطة في المُكلا هو منطق يوم الغدير الحوثي مع فارق ناتج عن الموقع لا التفكير: عند الحوثي الحُكم مسألة دينية، أما عند شرطة المُكلّا فعلى السلطة واجبات ضبط ديني؛ فلم تكتفِ بالقبض عليهما بل وأخضعت الزوجين قبل الإفراج عنهما لجلسة “مناصحة” على يد شيوخ دين. لا أتبنى هنا سخافة اعتبار الإسلاميين، حوثيين وإخوانًا وسلفيين، شيئًا واحدًا؛ ثمة فوارق كبيرة بينها، ليست فقهية أو مذهبية فقط بل وتاريخية وسياسية وتكوينيّة وفي البنية الاجتماعيّة والعلاقة مع المجتمع (قبل الحرب) وحتى فهم الوطنيّة. لكنها تشترك في المنطق الذي تُفكر داخله بالدولة وبالعلاقات القائمة بين زوايا مثلث الدين والسلطة والمجتمع.
هذا ما يجعل أي رد ديني أو فقهي غير زيدي على الاحتفاء الحوثي بيوم الغدير بلا مفعول يتجاوز الدعاية؛ بل ويقذِّر قضيّة بناء أمّة وإنقاذ دولة بتحويلها إلى اختلافات في التأويل داخل نفس المنطق الشرعي (من الشرعية لا الشريعة)؛ أي إلى شأن مذهبي أصبح سياسيًا. في هذه الحالة تفوز الحوثية بالنقاط وإن لم تنتصر بالقاضية؛ فالزيديّة مذهب عريق في اليمن وله تراث ومتون وتيارات وأعلام، ويسهل على الحوثية -التي تمارس الطائفية والتمييز العرقي- أن تصوّر عداء الآخرين لها عداءً طائفيًا ولسان حالها يقول: إذا كان الحُكم مسألة دينيّة، لماذا تأويلي هو الذي يُرفَض وتأويل الآخرين هو الذي يُقبل؟ وهذا السؤال الافتراضي هو في رأيي جوهر حديث الحوثيّة عن “مظلوميّة الزيدية” في العهد الجمهوري.
لا يمكن الرّد بجديّة على هذا السؤال ردًا فقهيًا بالطبع إلا إن كان من داخل الزيديّة؛ أي ناتج حركة إصلاح داخل الزيدية. علينا أن نعي أن أي نقد مذهبي جماهيري (أي ليس نقاشًا حصريًا بين نخب العلماء والفقهاء) في مجتمع متعدد المذاهب يحوّل الخطاب السياسي إلى شحن طائفي، حتى وإن لم يقصد من يمارسوه ذلك.
وإذا حاول البعض الإجابة على السؤال الحوثي المنطقي بدعوى أن أتباع الزيدية أقليّة فهذا تعميد لرؤية الحوثي الطائفية، علاوة على أنه نسف لفكرة الأمّة أصلًا.
ثم ماذا يتوقّع من يحاججون الحوثي مذهبيًا في تأويل حديث الغدير؟ هل يتوقعون أنهم بالإقناع والمحاججة سيغيرون فكرةً مؤصل لها منذ أكثر من ألف عام ومصادرها التي يُختَلَف على تأويلها موجودة في مراجع مختلف الفرق الإسلامية، وصارت أصلًا عقيديًا للمذهب في القرن العاشر الميلادي؟! المذاهب لا تفنى بالنقاش ولا بالقتال، والزيديّة جزءٌ أصيل من هوية اليمن الثقافيّة يجب الدفاع عنه والحفاظ عليه، والمسألة ليست مسألة مذاهب بالأصل؛ إنها مسألة تخص عالمنا وعصرنا؛ مسألة الالتباس بين الدين والحكم في الدولة الحديثة.
****
كسر الحوثيّة ثقافيًا يبدأ بكسر منطقها. هناك لبرلة ضرورية يجب أن تُنجَز داخل الزيديّة وداخل أكبر الحركات الإسلامية في اليمن -أي التجمع اليمني للإصلاح- حتى يتحقق هدف ضرب الحوثيّة وإضعاف تعبئته لقواعده طائفيًا. المقصود هنا ليس أن يتحدث الإسلاميون عن أن الديمقراطية مباحة؛ هذه لبرلة قشرية ورأينا نتائجها في مصر بعد 2011، بل أن ينتجوا تنظيرًا إسلاميًا على أساس قيم ليبراليّة إزاء الدولة؛ أي أن تصدر عنهم قناعة بأن الحكم ليس مسألة دينية، وأن المواطنة هي حجر أساس التعامل بين الفرد والدولة، وأن صون حريّاته -وعلى رأسها تلك التي تخالف تأويلاتهم الدينية- واحترام كرامته من مهام الدولة ومن بدهيات المجال العام. يجب هنا التأكيد على أن المقصود ليس أن ينبذوا فكرهم المُحافظ. المقصود أن ضرب الحوثية يتطلب أن تشترط القوى الإسلامية المحافظة قيمَ الليبرالية في بناء الدولة وتحييد مسألة الحكم عن الدين، وأن تبقى محافظة ومتدينة وتدافع عن موقفها المحافظ وتبني برامجها على أساس قيمها المُحافظة-الإسلاميّة؛ الأهم أن تكون قيم الدولة ليبرالية، وأن شرعية الحُكم في الدولة لا تأتي من الدين بشكل مباشر.
هذا التغيير للمنطق يُمهّد لقفزة مهمة: يوم الغدير وتأويله الزيدي-الشيعي بعد ذلك يعود ليصبح مجرد رأي في أحقية الخلافة قبل ألف وأربعمائة عام؛ يُحجّم إلى شأن عند مذاهب دينية بخصوص أحداث تاريخيّة-دينية أو حوادث آخر الزمان؛ أيْ شأنٌ خارج زمننا الدنيوي. إنه يمكّننا -بسلاسة واتساق- من رفض الاستنتاجات السياسيّة ليوم الغدير دون رفض قيمته الدينية عند المؤمنين به، بل ويمكننا من الدعوة إلى اعتبار أي استنتاج سياسي منه خطابًا عنصريًا يعاقب عليه القانون، لأن الأمر لم يعد المذهب ولا الإيمان؛ بل مسألة عيش مشترك ومنطق في رؤية الدولة يَحكم الجميع بالتساوي دون امتيازات لأيديولوجية أو تأويل ديني.
حدوث التحوّل داخل الزيدية من الناحية النظرية ممكن لأن تركيبية المذهب وتنوع تياراته الناتج عنها تسمح بذلك، ولكن هذا أمر من الصعب تخيُّل حدوثه اليوم، ليس فقط لأن نخبة علماء الزيدية هرولت إلى التحالف مع الحوثية حين بدأ نجمها في الصعود كما ظهر في وثيقة الزيدية عام 2012، وأنها مثل غيرها ناتج صيرورة اليمن وواقعها الطبقي والاجتماعي، ويحكمها ذات المنطق في مقاربة موضوع الدولة_ ليس لذلك فحسب، بل وكذلك لأن الحوثية بقبضتها الأمنية وعنفها ووجودها أمرًا واقعًا تصعّب الأمر حتى وإن كان تيار في النخبة العلمائيّة الزيدية تضرر من تغوّل الحوثيين واحتكاره للزيديّة وغير راضٍ عن سوقِهم المذهبَ نحو تيار متطرّف، بل وربما غير راضية عن تقزيم مكانة علماء الزيدية وتميزهم الاجتماعي بعد أن توحّدت في شخصية عبد الملك الحوثي بشكل غير ممأسس بعدُ القيادتان الدينية والسياسية. ستحتاج النخبة العلمائية الزيديّة إلى عملٍ كثير حتى تستطيع تجاوز الحوثيّة وما أحدثته من كوارث، ولكن هذا يصعب تخيله قبل كسر الحوثيّة. لم يبقَ من أمل في تغيير هذا المنطق إلا أكبر حركة إسلامية في اليمن وهي التجمع اليمني للإصلاح.
التجمع للإصلاح، مثل كل حزب واسع القواعد، يمور بتيارات وتناقضات. وبقراءة ما يظهر على السطح يبدو أن رد تياره الأكثر ليبراليّة على يوم الغدير لا يركز كثيرا على الدحض العقائدي بل باستبطان قيم أخرى كالقول إن التأويل الحوثي عنصريّ ولا يمكن القبول بسلطة على أساس عرقي، خاصة وأن التجمع للإصلاح لا يحمل أيديولوجية عرقيّة، وبدخوله الانتخابات ونجاحاته نفى منذ زمن ربطه السلطة بعرق أو بمنطقة. هذا الرد يتغافل عن حقيقة أن عنصريّة الحركة الحوثيّة وإن كانت حديثة -أي تنتمي لعالم الحداثة- فهي ليست علمانيّة؛ أي أنها لا تبرر نفسها تبريرًا علمانيًا مثل الأيديولوجيات الأوروبيّة تجاه الأعراق في القرن التاسع عشر أو النازية في القرن العشرين. الحوثيّة تؤسس عرقيّتها على تأويلٍ ديني، ولا يمكن تجاهل هذه الحقيقة إذا أرادت أية تيارات إسلامية متفتحة تجاوز هذا الإشكال؛ لأن تجاهلها سيقوّي موقف التيار الأكثر يمينيّة ويدفعه إلى استصواب تفنيده نظرية الإمامة الزيدية دينيًا وهكذا نعود إلى المربع الأول الذي حاول المقال تبيين محدودية أثره النافع ومخاطره.
ولكن هذا التيّار الذي يرى الموضوع من زاوية رفض العنصريّة، إذا واجه حقيقة التأسيس الديني لعنصرية الحوثية، يمكنه أن يمد الخطوط على استقامتها والسير أشواطًا أبعد في التفكير: إذا كنا سنرفض تأويلًا دينيًا ونقبل تأويلًا آخر باستخدام قيمة مثل المساواة؛ فهذا يعني أن هناك أولوية قيميّة على التأويل الديني، وهكذا يمكن أن نصل إلى الوسيلة الفضلى لاقتلاع الجذر الفكري للأيديولوجيا الحوثيّة وهي أن الدين ينتمي إلى المجال العام، ومن مكوّنات الهويّة وأعمدة الحضارة التي ننتمي إليها، ولكن إقامة الدولة وشرعية النظام لا تشتق من الدين بل من قيمٍ لها الأولويّة. أما الوقوف عند رفض عنصرية الحوثي قيميًا دون تطبيق نفس المبدأ على مجمل نقاش مسألة الدولة والحريات والمواطنة فيبدو تكتيكًا مرحليًا مكشوفًا أكثر منه رؤية وقناعة أيديولوجيّة.
هذا التحوّل لن يقضي على الحوثية، ولكنه يجعل المعركة أكثر وضوحًا، ويجنب المجتمع جروحًا طائفيّة، وسيحمي المستقبل الذي يبدو الآن بعيدًا.
لا أقول إن هذا تحول سهل، ولست متفائلًا بقدرة التجمع للإصلاح العملية على إنجاز تحوّل فكري بهذا الحجم في ظرفه الراهن، رغم أن حركات إسلامية عريقة عربية وغير عربية أنجزت هذا التحوّل منذ زمن. ولكن مع غياب قوى ليبرالية ويسارية ديمقراطية صلبة العود قادرة على الدخول في صراعات ثقافية لكي تفرض تصورها الديمقراطي المواطني في المجال العام، ليس أمام المرء إلا أن يفكّر بالمقاربات الأكثر واقعيّة لهذه المحنة العنيفة التي تعتور اليمن ويذكّرنا الحوثي بها في يوم الغدير، وفي كل يوم.