د. ياسين سعيد نعمان
سفير اليمن في بريطانيا واول رئيس مجلس النواب بعد الوحدة والامين العام الأسبق للحزب الإشتراكي اليمني
…..
(1)
يستعيد اليمنيون علاقتهم بالثورة في شهري سبتمبر وأكتوبر من كل عام من خلال تزيين مواقع التواصل الاجتماعي ، ومطاهر الاحتفالات الأخرى ، بشعارات الثورة وأناشيدها وكل ما يذكرهم بأن اليمن عاش ثورتين ما كان لأي منهما أن ترى النور أو تنجح لولا الأخرى ؛ فلولا سبتمبر لما كانت أكتوبر ، ولولا أكتوبر لما خرجت سبتمبر من مخالب الإمامة في حرب ضروس امتدت لأكثر من سبعة أعوام .
يحدث هذا منذ عقدٍ من الزمن بعد أن غابت الدولة التي كانت تشكل همزة الوصل بين الثورة والمجتمع ، واختفى الجزء الأكبر من الجغرافيا التي كانت تحتضن تلك الاحتفالات بصورها المختلفة , تحت رداء الإمامة الجديدة في الشمال ، ناهيك عما بات يعتمل من انفعالات ملتبسة من بعض الجنوبيين تجاه ثورة الرابع عشر من اكتوبر .
إن الحديث عن الثورة في مثل هذه الظروف الصعبة يتطلب مكاشفات تتجاوز ما تخفيه البهجة من أوجاع ، حتى لا يبدو وكأن الثورة قد استقرت في ذاكرة محبطة .
العلاقة بين الثورة والدولة :
بتتبعٍ كاشفٍ للعلاقة بين الثورة والدولة ، نجد أن الدولة ، التي أنشأتها الثورة ، لم تكن قد جسدت على الدوام صورة طبق الأصل للمضامين والأهداف الثورية التي وعدت بها الجماهير ، لكنها استطاعت مع ذلك أن تحافظ على قدر من العلاقة بين الدولة والثورة في صور مختلفة من المنجزات التي غالباً ما كانت تجعل الإحتفال بالثورة ، وخاصة من قبل الجماهير ، عملاً متصلاً بتطلعات الجماهير إلى المزيد من المنجزات التي تعزز السير على طريق الثورة مهما كانت الصعوبات .
أما من جانب آخر ، فلأن سلطة الدولة لم تستقر بيد قيادة منتخبة تجسد روح الثورة التي قامت من أجل الشعب ، فقد بدا للحكام الذين تعاقبوا على السلطة بانقلابات متكررة وصراعات دموية أن الاحتفال بالثورة إنما يذكرهم بفضل الثورة عليهم ، وأنهم إنما يدينون لها في بقائهم حكاماً ، كما أن الثورة ، بسعة أفقها ، كانت تقوم باحتواء كل تلك الانقلابات والصراعات طالما أنها تمت تحت ردائها ، حتى ولو على نحو شكلي في كثير من الأحيان . ولهذا السبب كان معظم من يصل إلى سدة القيادة يتمسك بانتمائه للثورة ليضفي على اغتصابه للسلطة شرعية ما ، ولكنه في نفس الوقت يشعر بغيرة من الثورة بسبب هذا الربط الذي يولد لديه شعوراً بأن هناك من يتربص به من ” الثوار” ومن كل من يظهر ولاءً للثورة ، وأن عليه أن يضع حداً لعلاقة سلطته بهذا الماضي الذي يحاصره .
كان هؤلاء “القادة” يعملون على تعظيم “الحدث” الذي أوصلهم إلى سدة الحكم ، وجعله ، من ثم ، رديفاً للثورة ، بل وفي مواجهة مع الثورة في نفس الوقت .
مع الوقت ، أخذت الاحتفالات بذكرى الثورة تركز على المنجز في صورته المادية ، وتتجاهل القيم التي نادت بها الثورة ، وتغض الطرف عن السلوك الذي أصبح يحيط بالمنجز والذي لم يعد معبراً عن روح الثورة وقيمها . وكان أن وظفت الاحتفالات الرسمية لغرض إبراز المنجز المادي للدولة والقائد ، وكذا المحطة التي جاءت به الى السلطة . تجاهلت ، إلى حد كبير ، روح الثورة المتمثل في القيم الثورية التي حلت محلها قيم النظام الحاكم ، والتي راحت تأخذ الدولة بعيداً عن الثورة .
أخذ النظام الحاكم يعيد صياغة الدولة بمضامين تعبر عن طبيعة البنى السياسية والاجتماعية التي آل إليها القرار ، وهي القوى التي جاءت الى السلطة عبر الانقلابات المتكررة ، والتي أخذت عناوين ، تركز في معظمها ، على “اصلاح مسيرة الثورة” ، بينما كانت في حقيقتها إفرازاً لتقاطعات مصالح أخذت تتبلور خارج دائرة المصلحة العامة للدولة التي استهدفت الثورة تحقيقها . وبذلك فقد تحولت هذه المحطات إلى مناسبات كثيراً ما كانت يطغى الإحتفال بها على الاحتفال بذكرى الثورة نفسها .
ولكي لا تبدو منظومة الحكم الجديدة وكأنها قد ابتعدت عن الثورة ، فقد أخذت تعبئ الجماهير على القبول بمصطلح “البراجماتية” أي الواقعية السياسية ، كتعبير ضمني عن أن للدولة شروط مختلفة عن معطيات الثورة .
كان ذلك يعني أن الدولة التي استولدتها الثورة من الصفر قد أخذت تبتعد ، ثم تنفصل عنها تدريجياً في أهم مفاصلها ، وخاصة تلك التي سلبت الدولة صفتها الشعبية والديمقراطية .
والملاحظ أن هذا الابتعاد ، أو الانفصال ، كان غالباً ما يتم بعمليات انقلابية عسكرية ، كما أوردنا أعلاه . ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل تعداه إلى خلق فجوة هائلة مع الجماهير ، ظلت تُملؤ بالأجهزة الأمنية ، والبيروقراطية ، والبوليسية القمعية ، والفساد والافساد ، والاعلام الرسمي البروبوجاندي .. وغيرها من الأجهزة التي راحت تعيد بناء العلاقة على قاعدة السمع والطاعة للقائد الفذ الذي أخذ يحل محل الثورة والدولة .
ومع المدى أخذت الدولة ، بمضامينها الجديدة تعمل على إعادة صياغة الثورة في وعي الناس بمفاهيم حوّلت التمسك بقيم الثورة على أنه “تطرفٌ” يضر بالمصالح الوطنية للدولة ، وأن الثورة إنما هي حالة انتقالية لا تلبث أن تخلي الطريق أمام الدولة ؛ ولكن أي دولة تلك التي تُخلي لها الثورة الطريق !!
إن الانتقال من الثورة إلى الدولة هي مسألة طبيعية ، بل وضرورة حتمية ، حينما يتعلق الأمر بالمركز القانوني والدستوري لمؤسسات الدولة ونظامها المؤسسي ، أي الانتقال من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية ، حيث يتم صياغة مبادئ الثورة وأهدافها في دستور للدولة تظل بموجبه محتفظة بالمضامين السياسية والاجتماعية والقيمية للثورة ، لكنها وقد انفصلت عن هذه المضامين ، وقلبت لها ظهر المجن ، فقد كان من مساوئ هذه الدولة أن أخذت تفقد جذرها السياسي ، والمتمثل في روح الثورة وقيمها وأهدافها ، مما جعلها تتخبط في صراعات وانقلابات خلُصت كلها إلى إنتاج القائد أو الزعيم الأوحد ليحل بعد ذلك محل الدولة ، في عملية انتقالية مشوهة تمثلت حلقاتها في انتقال مشوه من الثورة الى الدولة ، ثم الانتقال الأكثر تشوهاً من الدولة إلى القائد أو الزعيم ، وهو انتقال غاب معه مشروع الوطن ، ويعكس :
١/ طبيعة التحديات الضخمة التي واجهتها الثورة في مراحلها الأولى ، مما جعل قياداتها ، أو ما تبقى من قياداتها ، تقبل بدولة نصف ثورة ، وأحياناً أقل من النصف . ٢/ هشاشة مؤسسات الدولة التي تعرضت في تكوينها لمساومات ونزاعات واستحواذ ، غالباً ما كانت تنتهي إلى “تكوينات” ما دون الوطنية ، تعبر عن مصالح قوى متناقضة متنفذة سياسياً واجتماعياً ، وكان أن سلمت أمرها دون أي مقاومة للزعيم الأوحد .
٣/ رفض النظام السياسي التعددي بدوافع أيديولوجية متنوعة المصادر ، أخذت الدولة إلى حضن الاستبداد .
***
(2)
غياب مشروع إنشاء الوطن :
————————
في الحلقة الأولى رأينا كيف أن عملية الانتقال من الثورة إلى الدولة تمت بطريقة غاب فيها مشروع انشاء ” الوطن” ، باعتباره الهدف الأصيل للثورة والدولة معاً بشقيه المادي والقيمي . ويقصد بمشروع الوطن هو تحويل الانسان من رعوي إلى مواطن بكافة الحقوق السياسية والقانونية والانسانية – الطبيعية ، على قاعدة الشعب هو ماللك السلطة ومصدرها ، بما يتضمنه حقه في انتخاب حكامه وفقاً لنظام مدني تعددي . أما سبب الغياب فهو أن النظام السياسي والاجتماعي للدولة ، والذي تبلور خلال عملية الانتقال من الثورة إلى الدولة بتفعيلات استمدت دينامياتها من معادلات ومساومات القوة والنفوذ للأطراف التي ادعى كل منها تمثيله الحقيقي للثورة ، وكان بطبيعته تسلطياً بحجة حماية الثورة ، وقاوم شروط تحويل الناس من رعية إلى مواطنين بكل الوسائل باتساق مع المنهج الذي يدير به الدولة والأدوات التي يستخدمها في تلك الادارة التي كان يحتاط فيها من الانقلابات الداخلية و” المؤامرات الخارجية” . وكان من الطبيعي ، والحال كذلك ، هو أن يصبح الانتقال من الثورة إلى الدولة انتقالاً مرحلياً وشكلياً ، وبمعنى أوضح انه كان ابتعاداً عن الثورة ،أخذت بعده الدولة ومؤسساتها الهشة تعاني من صراعات الزعامة ، أو تسقط بيد القائد الفرد والزعيم الأوحد في انقلابات متلاحقة . فمشروع الدولة الذي يغيب فيه بناء الوطن ، هو الذي يهيئ شروط الانفصال عن الثورة ، ويعد خطراً على الدولة والثورة معاً .
وبغياب مشروع وفكرة “الوطن” ، تخبطت الدولة بين يدي الزعيم القائد ، وأتون الفوضى ، والحروب ، والانقلابات والصراعات الدموية .
إن الدولة التي تغيب معها فكرة “الوطن” ، أي تلك التي تقوم فقط على إنشاء هياكل مؤسسية فوقية معبرة عن تشابك مصالح قوى اجتماعية وسياسية متنفذة ، متجاوزة ومغيِّبة إرادة الشعب ، تتحول إلى سلطة قمعية يغيب معها مشروع ” الدولة الوطنية ” ويتحدد مصيرها بالمصير الذي ينتظر الزعيم .
كانت الاحتفالات بالثورة مناسبة يجدد فيها القائد الرمز ، الذي وضع الثورة في يمينه والدولة في يساره ، علاقته بالثورة بصورة شكلية لإكساب سلطته شرعية لا غنى عنها والمتمثلة في شرعية دستورية هشة وملتبسة . وفي ظروف الشرعيات الدستورية الملتبسة والهشة ، والتي تأتي عبر الانقلابات العسكرية والانتخابات الشكلية والمزورة ، يصبح الاستنجاد بالشرعية الثورية عملاً لا غنى عنه . وفي هذه التناوبات ، فإنه يلوّح بكل واحدة منهما في وجه الشعب ، حسب ما تقتضيه الحاجة . ففي الوقت الذي تقتضي فيه الحاجة استقطاب مشاعر العامة لأي سبب من الأسباب فإنه يخرج إليهم وفي قبضته “الثورة” ملوحاً بها وكأنه الحارس الامين لها ، وغالباً ما كان يتم ذلك في ذكرى الثورة في احتفالات لا تجسد معاني وقيم الثورة ، بقدر ما تعبر عن نفاق يعكس الصلة الضعيفة للقائد الرمز بالثورة . وعندما تقتضي الحاجة الخروج إليهم وفي قبضته “الدولة” فإنه يكون قد رتب لذلك مناسبة انتخابية أو تعيينات في مناصب قيادية . أما حينما يتعلق الأمر باستعراض قوته ونفوذه فإن ذلك يتم من خلال عروض عسكرية ، مهرجانات جماهيرية ضخمة تمجد القائد ، افتتاح مشاريع اقتصادية ، وجميعها يظهر فيها وكأنه هو الثورة والدولة معاً . وبذلك تعملقت شخصية الزعيم القائد وتضخمت على حساب الثورة والدولة في وعي الناس ، واللتان تراجعتا في الأهمية المجتمعية إلى مستويات لم تعد فيها الثورة سوى ذاكرة وطنية بلا مضامين أو حوافز تستدعي النضال من أجل استعادة قيمها ، كما أن الدولة ، وقد تجسدت في شخصية الزعيم القائد ، لم يعد هناك ما يستدعي الكفاح من أجل استعادة استقلالية مؤسساتها الوطنية والسيادية المعبرة عن إرادة الشعب.
*****
(3)
الجنوب : إرهاق الدولة بالصراع على الزعامة،
الشمال: سقوط الدولة في قبضة الزعيم :
المنحى الذي سار فيه انتقال الثورة إلى
الدولة ، كما شرحناه أعلاه ، يكاد ينطبق في محتواه العام على الشمال وعلى الجنوب معاً بأشكال متفاوته من التشوه ، ومنهما الى القائد الرمز والأوحد .
ففي الجنوب ، على الرغم من أن الدولة في الجانب الاجتماعي ظلت تعبر عن روح وأهداف ثورة أكتوبر من خلال ما حققته من مكاسب اجتماعية واقتصادية للمجتمع عموماً ، وللطبقات الكادحة والفقيرة على وجه خاص ، ناهيك عن إقامة حكم محلي لا مركزي واسع الصلاحيات لحماية الوحدة الوطنية الداخلية التي كانت معرضة لصعوبات كثيرة بسبب أن الدولة كانت حاصل توحيد ٢٣ سلطنة وامارة ومشيخة ومستعمرة عدن ، مع ما أحدثه التفاوت الثقافي والاجتماعي بينها من إشكالات ضخمة في بناء الدولة تم مواجهتها بنجاح في معظم الأحيان ، إلا أنها ، أي الدولة ، في الجانب السياسي لم تستطع أن توجد الصيغ السياسية القادرة على خلق نظام حكم مدني ، تعددي ، متماسك بحيث يصبح معه انتقال الثورة الى الدولة انتقالاً طبيعياً لا يتعسفه القرار الفوقي التحكمي . وقد يكون لذلك أسبابه بمنطق ذلك الوقت ، إلا أنه في سياق تقييم الأسباب التي عطلت ، إلى حد كبير ، الانتقال الناجح من الثورة إلى الدولة يعد سبباً رئيسياً فيما أصاب ذلك الانتقال من تشوه . إن الجانب الموضوعي لهذه المسألة يكمن في أن قوى الانتاج لم تكن بالقوة التي تستطيع فيها أن توفر الشروط الاقتصادية الضرورية لانتقال مرن وطبيعي ، ولذلك فقد استمر التدخل بأدوات سياسية ، خشنة أحياناً ، حيث نتج عن تلك القرارات الارادوية للانتقال من الثورة الى الدولة صراعات استنزفت كثيراً من جهد الدولة والقيادة والمجتمع ككل . وبسبب هذا الانتقال الذي حكمته شروط إرادوية تجاوزت ما كانت قد سمحت به الشروط الموضوعية لقوى وعلاقات الانتاج ، فقد أنتجت القيادة من داخلها نزعة إرادوية موازية أخذت تتجه نحو انتقال تدريجي للدولة ومؤسساتها الى يد القائد الرمز يقفز فوق الحزب “القائد” ويتجاوز مكانته السياسية في سلم قيادة السلطة ، وهو ما أدخل الدولة في صراعات الزعامة ، والذي حسم في نهاية المطاف بتركيز أدوات السلطة كلها بيد أمين عام الحزب ، والذي أصبح يقود الحزب والدولة معاً بعد محطات من الصراع أسهمت في الوصول إلى هذا الحل . غير أن هذا لم يكن سوى محاولة لتفريغ شحنات الدولة لتسقط بكاملها في يد الزعيم . وفي التوسط مابين الدولة من ناحية ، والحاكم أو الزعيم من ناحية أخرى ، كان الحزب يقف حاملاً ميراث الثورة ، ويعمل من موقعه ومكانته في البنية السياسية والثقافية للنظام لخلق ميزان لقياس ابتعاد الدولة عن الثورة ، والتنبيه إلى ذلك بوسائل حزبية . وقاوم بصلابة نزعة إنتاج الزعيم الأوحد بالاستناد إلى القاعدة التي تنص على أن الحزب هو القائد والموجه للنظام السياسي والدولة ، وهذا يعني أن أي تعدّي على هذه القاعدة سيكون بمثابة انتهاك للقاعدة التي يقوم عليها النظام السياسي . غير أن الاستجابة لمثل تلك التنبيهات غالباً ما كانت تصطدم بالتشابك في مواقع السلطة لقيادات الحزب ، وما يرتبه ذلك من نفوذ للكثير من القيادات في مستويات مختلفة من ادارة الدولة ، بما في ذلك الجمع بين قيادة الحزب وقيادة الدولة على المستوى المركزي ، وعلى النحو الذي أخذ يجر الدولة إلى مخاطر الصراعات التي ما كان لتتوقف عند جناح في الحزب وإنما بيد القائد الرمز الذي يقود أياً من هذه الأجنحة . وكان يتم الاستناد إلى هذا الوضع في تكوين تحالفات ، وأجنحة ، استعداداً للمواجهة وتمرير قضايا ذات طابع حاسم في قيادة السلطة . لذلك فقد جرى استقطاب جزء من جهد ودور الحزب في هذه العملية التي تمحورت حول خلق الزعيم والقائد الرمز على النحو الذي تشكلت معه بؤر الصراع في أهم مؤسسات الدولة . ولقد عكس الانقسام الرأسي للحزب في مؤتمره في أكتوبر عام ١٩٨٥ (بنسبة ٥٠٪ إلى ٥٠٪ بين الجناحين المتصارعين ، والذي انعكس بدوره على الدولة وعلى المجتمع لأول مرة بصورة أشد وضوحاً مما كان عليه الأمر في مرات سابقة .
وكان أن جسدت هذه التجربة نموذجاً من التجارب التي أخذت تجر البعد الوطني للعدالة الإجتماعية للنظام السياسي ، بما وفره من شروط لبقاء الدولة في حرم الثورة ، إلى مزالق التفرد بالقرار السياسي من خلال عدد من العوامل التي كان من أبرزها العودة إلى تعبئة البنى الإجتماعية التقليدية لتطويق الحزب ومؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية ، وهو ما شكل خللاً كبير في بنية النظام السياسي والاجتماعي ، وانقساماً وطنياً انعكس على الثورة والدولة ، ولا زالت آثاره توظف حتى اليوم في محاولات لتفكيك الجنوب ، أو تغيير هويته ، لضرب ثورة أكتوبر في الصميم .
أما في الشمال فقد كان ٥ نوفمبر ١٩٦٧ بمثابة إنقلاب حقيقي على سبتمبر ، وهو الانقلاب الذي سُلِّمت فيه الثورة لهجين من القوى التي لم يكن الكثير منها يحمل وداً للثورة ، ومعه فقد كان لا بد أن تأتي الدولة تجسيداً لهذا التركيب الهجين الذي لا يرى الثورة سوى محطة انتقالية بين النظام الملكي والجمهوري دون مضامين ثورية ، سهلت الصراع على السلطة والانتقال بهما معاً إلى يد الزعيم القائد الذي خرج هو الآخر من وسط أنقاض الانقلابات والصراعات الدموية المتكررة ، وانتهى بدوره إلى الاستعانة ، ليس بالقبيلة كما يقال ، ولكن بنظام شبه قبلي متوحش وهجين أفسد القبيلة وقمع قيمها ، لترسيم حدود الدولة في الخارطة السياسية والاجتماعية مع ذلك النظام شبه القبلي وما ترسخ فيه من اعتقاد من أن الثورة ثورته وأن الدولة دولته ، وهو الأمر الذي أفضى بعد عقود من عمر الثورة إلى استكمال تهميش قيم الثورة والدولة معاً في البنية السياسية للدولة بكافة مؤسساتها التي تداخلت بقوة مع ذلك النظام شبه القبلي في أكثر صورها تعصباً لبنى ما قبل الدولة . وزاد من حجم المشكلة أن النظام بركائزه المختلفة وظف تاريخ الصراع السياسي الديني في مسألة الحكم توظيفا انتهازياً ليستقر عند حكم تحكمي يقوم على أن دولة المواطنة المدنية الديمقراطية مخالف للشريعة الاسلامية في تفسير اعتباطي لمفهوم فصل الدين عن الدولة ، وكان الهدف من ذلك تكريس نموذج للحكم يقوم على أيديولوجية إحكام قبضة الحاكم المستبد على الدولة .
***
الحلقة الرابعة والأخيرة من :
الثورة ، الدولة ، غياب مشروع الوطن وحضور القائد الأوحد ، والكارثة.
—————————
-٤-
ما بعد الوحدة : لماذا فشلت دولة الوحدة في تجسيد روح الثورة والانتصار لمشروع بناء الوطن :
جاءت الوحدة في مايو ١٩٩٠ مستعينة بما تبقى من قيم الثورتين في مواجهة التحديات التي نتجت عن الصعوبات التي واجهت “دولة الثورة” في تحقيق “مشروع بناء الوطن” .
كان الوضع العام الناشئ عن إعلان السير في طريق تحقيق الوحدة يوم ٣٠ نوفمبر ١٩٨٩ قد أوجد زخماً شعبيا كبيراً ، أُعتقد ، على نطاق واسع ، أنه سيؤدي إلى تخليق ظروف قادرة على إنتاج قدر من الحوافز الكافية لتحريك عجلة الدولة المرتقبة نحو إحياء “مشروع الوطن” الذي كان ، ولا يزال ، الهدف الحقيقي والأسمى للثورتين .
كان الجنوب قد شهد بعد أحداث يناير ١٩٨٦ محاولات لإعادة بناء فكرة “مشروع الوطن” في جسم دولة جريحة من خلال المراجعات السياسية والفكرية التي تمت على نطاق واسع ، ومعه أخذت مسألة التعددية السياسية والديمقراطية تتصدر نقاشات اللجنة المركزية ومنظمات الحزب وكل مؤسسات المجتمع المدني ، لكن الايديولوجيا الضاغطة بفكرة ” الوطن الأكبر” ، كانت أقرب الخيارات للعقل الجمعي الذي ظل يُحْقن بهذه الفكرة باعتبارها المصير لوطن مشترك إسمه “اليمن الديمقراطي الموحد” .
والحقيقة أن هذه الخطوة ، أي الوحدة السلمية المقترنة بإقامة نظام سياسي تعددي ديمقراطي ، كانت هي آخر الحوافز التي حركتها ما تبقى في الدولتين من علاقة مع الثورتين ، ومعها كان يعتقد أن روح الثورتين التي تجسدت في زخم الانتقال إلى الدولة في الأيام الأولى للوحدة سيستمر ؛ غير أن الأيام كشفت أن مشكلة علاقة الثورة بالدولة كانت قد تعمقت في قلب بنى سياسية واجتماعية واقتصادية كانت قد ابتعدت بالدولة عن الثورتين ، ولم يعد بامكان القوانين الوحدوية التي صيغت في جوانب كثيرة منها بروح الثورتين قادرة على استعادة هذه العلاقة بنخب سياسية مبرمجة على الصراع الذي تتحكم في أسبابه نزعة التسلط ، والارث الثقافي المختل بمفاهيم عملت على مواصلة ليّ عنق التاريخ من خنادق تهيأت فيه للقيام بهذه العملية منذ البداية دون تردد .
لم تستطع روح الثورتين أن تنقذا الوحدة أمام تصلب البنى الجامدة والمتصلبة لمشروع الدولة المكون من مزيج غير متكافئ للدولتين السابقتين ، وكان ما كان من تآمر ، واغتيالات ، وإهدار دم ، ثم حرب واستهتار بذلك المنجز التاريخي وتحويله في نظر الجماهير ، وخاصة في الجنوب ، من “منجز” إلى “تهمة” ظلت تلاحق القيادة الجنوبية حتى اليوم .
بسقوط مشروع “الوحدة” السلمي في فخ الدولة الهشة التي فشلت في خلق مؤسساتها المستقلة عن السلطة الحاكمة ، والنخب المتنفذة بأرديتها السياسية والقبلية والعسكرية والأمنية ، أخذ الابتعاد عن الثورتين يأخذ صورة جديدة من السير في طريق الاعتماد على القوى المنتمية إلى عهد ما قبل الثورتين . كان ذلك لا يتم بهدف تجسيد دولة المواطنة ، لكنه على عكس ذلك تم بهدف الاستعانة بالماضي لكسر دعوات المطالبة بدولة المواطنة . وشكل ذلك العمل أعلى درجات التخلي عن مفاعلات ما تبقى من حوافز الثورة ، والتي أخذت معها الدولة تسقط بيد هذه القوى من مواقعها ، سواءً القريبة من الحاكم ، أو تلك التي عينت فيها رسمياً ، بكل ما شملته من نفوذ سياسي ، وإمكانيات اقتصادية ومنح مالية ، وشركات ، وحصص ريعية لما في باطن الأرض من ثروات ، وقدرات عسكرية ، ووجاهة اجتماعية ، وفتاوى دينية كفرت كل من يدعو الى دولة المواطنة المدنية الديمقراطية .
لم يُسمح للدولة القادرة على استيعاب الجميع على قاعدة المواطنة ، بالتكون ، بل إن مجرد التفكير فيها قد نُظر اليه يومها على أنه تعدٍ على البنى الاجتماعية ونظامها شبه القبلي المتوحش ذي الجذور الضاربة في أعماق “الدولة” . ولذلك لم يكن الاعتماد على هذه القوى ، التي ازدحمت بها مؤسسات “الدولة ” بعد حرب ١٩٩٤ ، سوى بمثابة الراهن الخاسر الذي استهدف ، بدرجة رئيسية وعلى نحو خاطئ ، الاستقواء بها لاسقاط المطالب الوطنية التي نادت بإصلاحات منظومة الدولة لتستعيد علاقتها بقيم الثورة وأهدافها على نحو يمكنها من أن تصبح دولة مواطنة لتجنب المزيد من الانهيارات التي لحقت بها منذ الحرب وضرب مشروع الوحدة السلمي في الصميم .
تسلل الحوثيون من باب إسقاط مشروع الوحدة السلمية ، ومن رغاء المنتصر في الحرب ، والشامتين بالاشتراكي الذي ” باع” ، على حد زعمهم ، دولة الجنوب وهرب إلى الوحدة ، واستحق الهزيمة ، وكونوا قاعدة انطلاقهم من تهميش ، بل ورفْض ، “مشروع الوطن” ، وتوظيف أيديولوجيا دينية تجمدت عند مفهوم ملغوم للعلمانية وفصل الدين عن الدولة وتكفير كل من يدعو إلى دولة المواطنة ، واخترقوا النظام من خلال الفجوات التي كشفت عن بنية النظام السياسي من داخله والحسابات المتصارعة التي أخذت تتمحور وتأتلف حول فكرة التوريث ، وهي الفكرة التي أخذت تهشم الأنظمة الجمهورية في بلاد العرب لتنتقل إلى اليمن ، حيث كان ينتظر البلاد فخ تاريخي كبير كفيل باسقاط الدولة كلها . و إلى جانب ذلك كان الجنوب ، الذي جرت حرب ١٩٩٤ على أرضه وأخمدت روح الوحدة التي كانت تهتف لصنعاء قبل عدن ، يشتعل بمشروع فك الارتباط ، ومعه الهجوم على الدولة الوطنية الجنوبية التي ذهبت الى الوحدة وترديد ما كان قد أطلقه نظام صنعاء بالبيع والهروب ، تصاحبه مطالبات سياسية بمراجعة ” الفخ الثوري الأكتوبري” الذي قيل أنه ” يمنن الجنوب العربي” ، فيما يشبه الاستقواء بهذا الوضع الذي آلت إليه الدولة والثورة على إنتاج أدوات من داخله لدفن الثورة من الذاكرة الجمعية بعد أن دفنت “دولة المواطنة” في أنقاض آخر أهدافها الكبرى ” الوحدة”.
ومثلما دعمت الثورتان بعضهما في المسارات الأولى لقيامهما بخلق الحوافز الوطنية المتبادلة ، فإن نقيضيهما التاريخيين ، اليوم ، ينتجان على نحو تلقائي ديناميات مشتركة تعمل على دفن الثورتين من خلال القضاء على كل ما يذكر المجتمع بهما وبقيمهما وأهدافهما .
إن تمسك الناس ، وخاصة هذا الجيل من الشباب ، بثورتي سبتمبر وأكتوبر يوفر البيئة الوطنية والسياسية والإجتماعية القوية لاستعادة الدولة بالانطلاق من هذه الحقيقة التاريخية التي تقول إن ثورتي ستمبر واكتوبر لم تكونا حدثين طا رئين في حياة اليمن بقدر ما كانتا محطتين لتحول حضاري لا رجعة عنه ، وإن كانتا قد تعرضتا لخيانات ومؤمرات ، من أي نوع كان ، فإن ذلك لا يحط من قيمتهما التاريخية في مواصلة التمسك بهما والاسترشاد بأهدافهما ، والتعلم من الأخطاء التي صاحبت المرحلة الماضية ، وخاصة تلك التي فصلت الدولة عن الثورة بإهمال فكرة بناء الوطن ، الهدف الأسمى لكل ثورة تستحق أن يطلق عليها ثورة .
إن استعادة روح الثورتين لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال :
١- الانتصار في معركة استعادة الجمهورية ، وبناء الدولة القادرة على انتاج “الوطن” بالمفهوم الذي يكون فيه الشعب هو مالك السلطة ومصدرها ، والمعيار الحقيقي للسير الجاد نحو تحقيق ذلك الهدف هو استعادة الدولة من أيدي وكلاء إيران الحوثة بقوة التمسك بالمرجعيات الثلاث الوطنية والاقليمية والدولية .
٢- حق الشعب في تحقيق خياراته السياسية دون تدخل بأيٍّ من الأدوات التسلطية القديمة التي لم تورث البلاد سوى هذه الكارثة .
لقد كان الحوار الوطني ، الذي انتجته حركة التغيير الشعبية السلمية ، هو الطريق الأمثل لتحقيق توافق سياسي يجنب اليمن هذه الكارثة ، لولا أن “مخرجات” الدولة القديمة المتنفذة ، ونظامها التسلطي ، قد أفشلا هذه العملية التاريخية ، ومهدا الطريق للانقلاب عليها بتلك المسرحية الهزيلة التي لعبها الحوثي ، لتصبح في نهاية المطاف أكبر خيانة تتعرض لها الثورة .
لقد شرحت ذلك بالتفصيل في كتاب ” عبور المضيق ” أثناء مؤتمر الحوار ، وخلصت من ذلك الشرح التفصيلي إلى النتيجة التي تلخص هذه العلاقة بين الثورة والدولة وغياب ” مشروع الوطن ” ، وهي موضوع هذه الحلقات :
” لا أحد يستطيع أن يهبنا “وطن”، ما لم تكن الحوافز للوصول إليه أقوى مما في معادلة الحياة من تحديات ، وما لم نكن مستعدين للعمل الجاد والتفاهم والتعايش من أجل الوصول إليه .آباؤنا وهبونا بلاداً – جغرافيا – نعيش عليه ، أما تحويله إلى “وطن”، فقد بقي مهمة نتوارثها ، وجاءت فرصة تحقيقها . هذه الفرصة التي يجب أن لا تهدر فوق ما أهدرنا من فرص ” .
تنتصر الثورة ،أي ثورة ، بإنجاز مشروع الوطن ، وما عداه فإنها تحتاج إلى”ثورة في الثورة” بتعبير ريجيس دوبريه .
….
نقلا عن صفحة الكاتب على فيسبوك