لا يمكنك العودة في الزمن لإصلاح بعض الأخطاء، ولكن لحسن الحظ، يمكنك الآن فعل شيء ما لتزييف التاريخ، وبالتالي، قد يكون هذا تعويضا عادلا لعجزك البشري عن التحرك في الزمن ذهاباً وإياباً، وهذا ما فعله تماما الشريف الرضي، من خلال تأليف كتاب نهج البلاغة.
في زمن يتسابق فيه الناس للحصول على جرعة تحفيز يومية من مدربي التنمية البشرية، يعود إلينا الصحابي علي بن أبي طالب رضي الله عنه من خلال كتاب الشريف الرضي “نهج البلاغة” ليقدم لنا دروسا في فن الحياة، ولكن بطريقة قد تفاجئك!
تخيلوا معي علي رضي الله عنه، وهو يلقي خطبة حماسية في إحدى ندوات التنمية البشرية، وهو يردد عبارته الشهيرة: “قيمة كل امرئ ما يحسنه”. وااااو، إنه يتحدث عن أهمية بناء الذات وتطوير المهارات! هل هذا يعني أن الإمام علي كان “لايف كوتش” قبل أن يصبح هذا المصطلح رائجًا بقرون؟ ولكن مالذي كان يحسنه رضي الله عنه؟
حتى لا ننخدع بالكلمات الرنانة، فالصحابي علي رضي الله عنه، حسب الروايات التاريخية، لم يكن قائداً عسكرياً ناجحاً، ولم يحقق نجاحاً يذكر في سياسته الداخلية، بل كان حكمه مليئاً بالاضطرابات والصراعات؛ ومع ذلك، نسجت حوله الأساطير، ونسبت إليه كل حكمة العرب وأقوالهم، سواء تلك التي لم يسمع بها طوال حياته، او حتى التي قيلت بعد وفاته بمئة ومئتيبن وثلاث مئة سنة! وكأن التاريخ قرر أن يمنحه “ترقية” أو “تعويض” بعد وفاته!
الحقيقة أن الترقية والتعويض المقصودة من هذا الكتاب، موجهة لمن يدعون الانتساب إليه، بغض النظر عما إذا كان الانتساب صحيحا أو باطلا، ويطلبون بناء على هذا الانتساب حقا سياسيا في التحكم برقاب الأمة إلى الأبد!
هذا الكتاب الذي يحمل اسمه لم يجمعه هو، ولا أحد من معاصريه، بل تم تأليفه بعد وفاته بقرون! في القرن الرابع الهجري تحديدا، على يد الشريف الرضي الذي منحه العباسيون نقابة الطالبيين؛ ولا تستغرب حين تسمع مصطلح نقابة الطالبيين، فعلى الرغم من اختلاف دلالة المصطلح بين العصرين، إلا أن من سخرية الأقدار وجود هذا الشبه بين دلالاتي المصطلح حيث يمكن القول أن الطالبي يرى في نسبه، مؤهلا كافيا للمهنة، ليس أي مهنة، بل أهم مهنة في عالم البشر، مهنة الحكم والسياسة.
منح العباسيون الشريف الرضي نقابة الطالبيين، وكان في نفسه -مثل كل طالبي- يرى أنه أحق من بني عمه في الخلافة، ويعتقد أن الخلل بدأ من قبل أربعة قرون، فأراد صنع آلة زمن، يعود بها إلى القرن الهجري الأول، ويعيد صناعة وترميم شخصية جده علي ابن أبي طالب، فكان هذا الكتاب هو آلة الزمن.
الكتاب مجرد “بروباغندا” سياسية لتلميع صورة الإمام علي “الجد الأكبر” وتحويله إلى رمز للحكمة والقيادة والذكاء والشجاعة، لا محبة فيه، بعد قرون من موته، بل تسلقا به إلى السلطة لاغير.
تخيلوا معي لو أن الخليفة الرابع علي عاد للحياة واطلع على هذا الكتاب، لربما مات مرة أخرى من الحسرة، وهو يقول: “لو كنت أعرف كل هذه الحكمة لما قضيت حياتي في تعاسة الحروب والفتن!”
شخصيا لا أنكر أن “نهج البلاغة”، بغض النظر عن أصله، يحتوي على حكم ومواعظ قيمة، تخيل نفسك وأنت تجلس أمام مدرب التنمية البشرية المحبط من فشل جمهوره، هو يقول لهم: “يا أشباه الرجال ولا رجال، أجسام الحمير وأحلام العصافير”. هل يمكنك تخيل رد فعل أحدهم لو سمع هذا الوصف في برنامج تلفزيوني؟ ماذا لو كنت انت حاضراً في تلك المحاضرة القيمة، وقد خرجت باكرا، ركبت فرسك وقد اغتسلت وتطيبت، ومايزال على بعض جسدك آثار جراح من معركة دخلتها بالأمس تحت قيادته رضي الله عنه، ثم وصلت المسجد مبكرا في انتظار خطبة أمير المؤمنين، خليفة رسول الله زوج بنته وابن عمه ووليه ووصيه، ثم سمعته يقول لك ولمن حولك: “يا أشباه الرجال… لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم، معرفة والله جرّت ندماً وأعقبت سدماً. قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحاً، وشحنتم صدري غيظاً”. رضي الله عنه. لا تدري هل تتألم من جراحك التي مازالت تنزف، أم من حكمته البليغة عليه السلام ورضي الله عنه وأرضاه.
حِكَمُه ومواعظه، ليست مجرد كلمات ملهمة، بل هي عبارة عن “كوميديا سوداء” ساخرة تعكس تناقضات الحياة، على سبيل المثال، يقول الصحابي علي رضي الله عنه: “أكثر الناس عقلاً أحسنهم تصرفاً عند الغضب” يا له من وصف دقيق لحالنا عندما نفقد أعصابنا! بغض النظر عن ما إذا كان الوصف منطبقاً على سيرته رضي الله عنه عند غضبه، فالكمال لله.
لذا، إذا كنت تبحث عن جرعة من الفلسفة الساخرة والحكمة اللاذعة، فلا تتردد في قراءة “نهج البلاغة”. قد تجد نفسك تضحك بصوتٍ عالٍ، وقد تجد نفسك تفكر بعمق في معاني الحياة، وقد تجد نفسك تتساءل: هل كان علي ابن أبي طالب حقًا بهذه الحكمة، بهذه الجرأة، وأحيانا بهذا الحمق؟ كيف يستطيع رجل واحد أن يجمع هذه التناقضات؟ أم أن هذه السيرة المبالغ فيها مجرد طُعم لتشييع أكبر قدر ممكن من الأسماك الجائعة، وبالتالي فأنا وأنت لسنا بحاجة إلى أي من تلك الحِكم المفخخة بالفصاحة، بقدر حاجتنا لحكمة شديدة البساطة تقول: لا تكن سمكة.
….
عن المصدر أونلاين