كتابات

نصر الله ولي الولي الفقيه على البلدان الناطقة بالعربية

 

أمس في طريقي إلى بروكسل جاء خبر اغتيال حسن نصر الله. فتحت قناة الجزيرة، المعلقون الذين استدعتهم الجزيرة يشككون في الخبر أو ينصحون بالتروي. من وقت لآخر أركن سيارتي وأنزل لأشرب قهوة أو فقط عشان اتحرك شوية. عيني على ما سيصدر من إيران، ولا أتوقع الكثير. إلى أن قرأت خبرين مثيرين، يقول الأول إن المرشد الأعلى للثورة الإيرانية وصف الإسرائيليين بالحقراء، تعليقاً على ما جرى. ثم نقلت رويترز خبراً يقول إنه جرى نقل المرشد الإيراني إلى مكان آمن!

 

حسن نصر الله لم يكن وحسب أبرز القادة العرب في العقود الثلاثة الماضية، يتجاوز تأثيره وأثره الحدود اللبنانية ومنطقة “الهلال الخصيب”. بل كان ولي الولي الفقيه على البلدان الناطقة بالعربية، هو المرشد الأعلى للعالم الشيعي في نسخته العربية. منحته الطبيعة سمات وقدرات – كاريزما- قلما اجتمعت في قائد. فقط قارنوا بينه وبين مقتدى الصدر، بينه وبين عبدالملك الحوتي. يغطي نصر الله الشاشة، يحضر حين يحضر، وبمقدوره أن يتحدث لثلاث ساعات دون أن ينزلق إلى التكرار، أو حتى يصيبك بالملل.. آمنت به جماعته على نحو سيصعب المهمة على من يأتي بعده. في كتابه “الشيخان” يعتقد طه حسين أن عمر بن الخطاب خلق نموذجاً للقائد الحاكم جعل كل نظام ياتي من بعده غير مستقر، وعرضة للتصدع. الشخصية التي تملأ المكان وتكتنز بعناصر الإلهام كلها تحدث إرباكا عظيما في المنظومة بعد رحيلها. على وجه الخصوص حين يكون الرحيل مفاجئاً. وفي الغالب، تاريخيا، تؤسطر تلك النماذج ثم تعبد كآلهة مع توالي الأجيال.

 

كان نصر الله ملهماً، وبمقدوره لا نقل الجبال من أماكنها – كما زعم قبل عامين – بل تغيير أقدار شعوب بأكملها، لصالح ناس وضد آخرين كما فعل في اليمن وسوريا. اتخذته إسرائيل عدواً، واستطاع أن يخلق وهماً إسرائيلياً عن قوته العملاقة. حتى إن إسرائيل، بما لديها من قوة، التزمت بقواعد اشتباك مُرّة. إلى أن أتيحت لها ثغرة كبيرة نفذت من خلالها إلى قاع الحزب وقمته، وحصلت على ال Big Data المعلومة الشاملة عن حقيقة الحزب وبنيته وهياكله. ضربة اللاسلكي/ البيجر تنتمي إلى استراتيجية الصدمة والرعب، ثم انفرطت المسبحة. أدرك نصر الله أن المعركة أفلتت من يده وكان واقعياً في خطابه الأخير، اعترف بالكارثة، ولم يقدم سوى وعد واحد: لن يعود الإسرائيليون في الشمال إلى منازلهم. لم يتحدث عن منازلات كبرى، ولا حتى عن انتقام. غير أن الثغرة كانت من الحجم بمكان حتى إنها دلت إليه شخصياً وأتت عليه.

 

ذهب نصر الله تاركاً خلفه بشراً شامتين لا حصر لهم، وحزانى لا يمكن عدهم. يستغرب الشامتون الحزن، ويستغرب الحزانى الشماتة. كان، على كل ذكائه، الرجل الذي جعل الانقسام الطائفي العربي مرئياً أكثر من قبل، ويوم رحيله بدا حصاده واضحاً.

 

غير أن اغتياله يشير إلى ما لا يقل خطورة عن الانقسام الطائفي: التفوق الإسرائيلي الحاسم. يحمل راية هذا التفوق يمين متطرف يخجل حتى داعموه الغربيون من أفعاله. تهوي إسرائيل إلى اليمين منذ خروج اليسار من الواجهة سنة 1976. إسرائيل التي كان لديها بعض النوايا تجاه السلام، لنقل بعض النوايا، لم تعد توجد سوى في صحيفة يتيمة اسمها هآرتس، أو الأرض. اغتيال نصر الله سيخلق إجماعاً إسرائيلياً حول الأبطال، وفي مقدمتهم سموتيرش وبنغفير. ستعيد الحكومة الحالية – في أغلب التقديرات- إنتاج نفسها، ستضع ثلاثة دروس على الطاولة:

 

– 7 أكتوبر. ستبني على الحدث قرارها النهائي بمنع قيام أي دولة فلسطينية، لأن من شأن كيان فلسطيني مستقل أن يعيد تجربة 7 أكتوبر

 

– اغتيال نصر الله وتحطيم حزبه. ستعلمها التجربة أن الاستخدام المفرط للقوة، حين تتاح الفرصة، سيخدم الوجود الإسرائيلي وليس العكس

 

– الولاء الأميركي غير المشروط. تقف “القبيلة اليهودية” في أميركا خلف ذلك الولاء، وقد أتاحت المواجهة الراهنة لإسرائيل اختبار المدى – السياسي والمالي- الذي وصلت إليه قبيلتها الأميركية.

لنتذكر أن حزب الله تأسس في العام 1982 في لبنان. وهو العام الذي أعلنت فيه إسرائيل تصفية المقاومة الفلسطينية وتأمين جبهتها الشمالية. في ذلك العام احتفلت إسرائيل، رسميا وشعبيا، بمشاهد السفن التي تنقل آخر مقاوم فلسطيني إلى مكان في أفريقيا هو أبعد ما يكون عن شمال إسرائيل. من ركام منظمة التحرير، هناك حيث ترك المقاومون بعض الأحذية والكوفيات، ولدت جبهة مقاومة جديدة، بشخصية جديدة، ومدونة أخرى.

 

إسرائيل هي المشكلة الأم في المنطقة، وستخلق أعداءها على مر الأزمان. خصوصاً وهي تأخذ شكل “حصن غربي” أسفل المتوسط. حزب الله تطور طبيعي حيال تلك المعضلة، إن لم يوجد فسيوجد غيره. وكأي تطور طبيعي فهو يجر معه جملة من التحديات للداخل والخارج.

 

في منطقة عربية تقف، منذ ما بعد الاستقلال، على الحافة، عامرة بتناقضات مدمرة، منقسمة إلى غنى فاحش وفقر مدقع، فإن آخر ما كانت تحتاجه هو أن تخرج منظومة حزب الله من خطوط النار مع إسرائيل وتذهب إلى اليمن وسوريا. كانت لحظة الخروج تلك ربما هي التي نقلت الحزب من كونه استجابة طبيعية للصراع العربي – الإسرائيلي إلى تثوير خطر للصراع الطائفي.

 

ستذهب المنطقة إلى وضع لاهب ولو على مستوى خفيض ولكنه مستدام. فاختيار إسرائيل للتوراتيين لقيادتهم ضد “العماليق”، وهم كل العرب المطالبين بدولة فلسطينية، سيدفع الآخرين إلى خيارات يمينية بطريقة ما. ودائماً هناك فرصة لطريقة ما! وهناك على الضفة الأخرى لنهر الأردن بشر كثيرون على جهوزية نفسية وعقلية كاملة لخوض منازلة تحت لافتة البشارة القائلة “أنتم شرقي النهر وهم غربيه”!

 

عن حساب الكاتب على فيسبوك