كتابات

أنا لا أتهكم!

أنا لا أتهكم
أنا لا أتهكم

أنا لا أتهكم، أنا أفعل فقط ما أرى أنه من اللائق فعله، لذا فهو ببساطة الشيء الذي ينبغي أن يحدث. صحيح أنني أتشبث بالإشارات التي تتولد فجأة والتي تدل على فرصة ما ينبغي استغلالها لتوظيف مكونات معينة من خبرة الضحك النشطة في ذاكرتي والتي يمكن أن تؤدي في النهاية إلى إنتاج لحظة مرح مشحونة بطاقاتها الساخرة، ولكن لدي في المقابل ما يدعم فكرة أن هذا الناتج سيكون دفاعًا عما أعرفه أنا عن التهكم أكثر من أي شيء آخر.

أعرف أنه ربما توجد أرضية هائلة مشتركة بين البشر تتجاوز حدود المكان والزمان واللغة والثقافة تتسق فيها أفكارهم عن الدعابة، ولكنني لست متأكدًا من أنه من الصحيح التورط في الإيمان بأن التهكم الحق ينبغي أن يحقق انتماءه لهذا المنجز. بالعكس، قد تؤدي المبالغة في اليقين به إلى تفريغه من عناصر الدهشة والتوتر بل والحساسية المتوهجة للصدم المربك والممتع، وعلى هذا لا أجد مانعًا من القول بأن الهاجس المتجدد والمتواصل لتفادي الانحياز لتجارب التهكم الإنسانية السابقة هو الأساس البديهي الذي يضمن للسخرية أن تواصل تشييد وجودها كمطلق أزلي لا يواجه مشكلة ما تتعلق بخلوده.

التهكم لا وجود له كالجدية تمامًا، وهذا ليس لشيء أكثر من أنني وأنا مغمض العينين لا أستطيع فرض قناعاتي على الكون باعتبارها قانونًا. هذه القناعة هي محض أنا، وهي بالتالي تستحق عدم احتياجها لمبرر، لكن في نفس الوقت هذا ما ينطبق على الآخر الذي من الوارد طبعًا ألا أعترف بتهكمه أو بجديته مثلما يستطيع أن يمارس هو نفس الأمر بدقة. هل ما أكتبه الآن يعد رغبة في تخطي التعريف؟ بالفعل، ولكن لأؤكد على أنني أفعل فقط ما أرى أنه من اللائق فعله، كما كتبت في الجملة الأولى، وبصرف النظر عن الخانة التي على هذا التصرف أن يوضع فيها.

أتحدث عن المنطق الشخصي الذي لا يمكن إخضاع قراراته لشروط مسبقة، والذي يعبر في كل حالة من حالاته المختلفة عن حقائق محتملة ومعقدة للذات وعلاقتها بالعالم ويمثل أفكارها ومشاعرها المتغيرة والملتبسة طوال مسيرة وعيها بالحياة والموت. على هذا، فحينما يخاطب (ريتسوس) أبانا الذي في السماء كي يقل لابنة عمه أن تأتي لنزهة قصيرة في الغابة، ويشعر (كيركيجور) كأن تاجر رقيق أتى به إلى الدنيا، ويتساءل (بودلير) عن الشيء الذي يبحث عنه العميان في السماء، وحينما يخبرنا (باسكال) برعبه من الصمت الأبدي للآماد اللانهائية، ويقرر (شوبنهاور) أن يتأمل للحياة لأنها محزنة جدًا، ويتحدث (فوكو) عن الحافة التي يصل إليها الإنسان والتي لا يجول فيها إلا الموت، وحينما يؤكد (كافكا) أن بداخل كل إنسان غرفة يستطيع سماع مرآتها غير المثبتة جيدًا حين ينصت السمع، ويبلغك (رامبو) أنه دائمًا يوجد أحد يطردك حين يكون بك جوع وعطش، ويخبرنا (ميللر) بأننا نتوسل بالكتابة لنحصل على عذاب جديد، وحينما يعرفنا (كامو) بأن العقل السخيف هو ما يجعله متضادًا مع كل الموجودات، ويحدثك (نيتشه) عن اليد التي تقتل برفق، ويخبرك (بيسوا) بإخوة الوداع التي تجمعه بالأشياء، لماذا لا أعتبر كل هذا تنويعات على التهكم وبنفس الفهم الذي يجعلني أعتبره تنويعات على الجدية، مما يقودني بالضرورة لتجاوز علاقتي وبل وعلاقات الآخرين بهما لصالح الرهان الجمالي نفسه الذي سينجح هنا ويخفق هناك دون أن يكون لأحد ذنب في شيء.

أنا لا أتهكم. أنا فقط يمكنني التفكير والإحساس بطرق مضادة وبدافع من هذا أواجه ما قد أعتبره جرائم محمية بمبرراتها السادية ومتخمة بالمهازل السافلة لليقين العادي، ليس تحت وطأة الشبق للجرأة وحاجتي لرفاهية النقد ـ رغم أن الأمر لا يخلو طبعًا ـ وإنما لأنني أريد أن أفعل الصحيح بالتلقائية التي يتطلبها، وهو ما يعني أن سخريتي هي محاولة للاختباء أو لإنقاذ نفسي من سخرية أكبر وأكثر عنفًا وقسوة. محاولة للنجاة من اللامعرفة التي يمتد جرحها العميق منذ بداية وجودي في الدنيا وحتى اللحظة التي أزيد فيها بتهكمي ـ أو هكذا يبدو لي ـ هذا الجرح عمقًا إضافيًا. السخرية ـ كالجدية تمامًا ـ اعتراف ضمني بأنك مقهور لأنك أثبت حالًا وجود سؤال لم يُعثر له على إجابة مقنعة، بل وأضأت زاوية جديدة من زواياه الحادة، وبالتالي فأنت تؤكد قدرك الذي وفر لك القدرة على التخلي عن الحكمة بكل زيفها كي يبقى عجزك عن النجاة أشد عريًا ووضوحًا أمام عينيك.

لا تروقني كثيرًا اللافتات الشعاراتية التي تلصق المتهكم برفض الإذعان والاستلاب والاضطهاد بالضبط مثلما اعتبرت مقولة (كونديرا) في خيانة الوصايا (الدعابة: الومضة الإلهية التي تكشف العالم في وضعه الأخلاقي المبهم وعجز الإنسان الكامل عن محاكمة الآخرين؛ الدعابة: هذه النسبية الثملة للأشياء الإنسانية: المتعة الغريبة المتأنية من غياب أي يقين قطعي) اعتبرتها بيانًا متخمًا بالمبالغات الانفعالية الزاعقة وغارقًا حتى أذنيه في رومانتيكية فجة تريد إرغامك بشكل هزلي على الاعتقاد بأن الدعابة هي الومضة الإلهية الوحيدة التي تكشف العالم في … إلخ وأنها وحدها هي النسبية الثملة … إلخ وأنها وحدها المتعة الغريبة … إلخ.

هذه اللافتات تأخذ الكاتب من هامش التأمل واللعب الجمالي إلى متن نضالي كاريكاتيري ومغلف بوجاهة ثورية أرى أنها معنية بالأساس بالتعتيم على ما وراء الهراء الدعائي الذي يفرض هذا الالتصاق بين التهكم ورفض القيود الأخلاقية والتحرر من سلطة المحظور، وأيضًا على اللاقصدية في عمل الكاتب باعتباره يستجيب لإلحاح أقوى من تعمد الدعابة؛ كذلك التعتيم على النسبية التي تحكم ما هو ساخر وما هو جاد والتي تجعل الفروق بينهما لا يمكن أن تكون وصفة جاهزة يمكن الرجوع إليها، لذا فهي بالضرورة لا تترك لنا من تعريف التهكم ومن تعريف الجدية إلا أفكارنا عنها فحسب كما سبق وذكرت.

ليس هذا فقط ما كرست وساهمت في تحقيقه لافتات الدعابة، وعلى رأسها لافتة (كونديرا). كانت أيضًا تعبيرًا صادقًا عن أنه كان ينبغي ـ غريزيًا ربما ـ على أي نقاش عن التهكم أن يخلو من طرح الأسئلة الضرورية التي يجب أن يسألها كل كاتب في تصوره لنفسه والمتعلقة بحساباته الخاصة التي على أساسها يمكنه أن يعطي إلهامًا ما عن ما تعنيه السخرية والدعابة بالنسبة له وعن الفروق بينهما التي تقنعه شخصيًا وكيف يضمن ـ وهذا سؤال مهم للغاية ـ عدم وقوع التهكم والدعابة في شرك الاستظراف والمزاح البارد.

ليس من أجل الحصول على اعتراف الآخرين المرصع بالتقدير بأنني متهكم عظيم عليّ تصديق الموضة التي تنسيني أن مكاني هو الهامش. البصيرة الجانبية المنزوية بما يجعلها تتمكن بحساسيتها الاستثنائية النقر على زجاج المتن المضاد للرصاص بكل خراءه المقدس. تصديقي للموضة لن يجعلني متنا في كافة الأحوال بل سيجعلني بطلًا أسطوريًا لفيلم يبدو أحيانًا قصة وأحيانًا يبدو مناظر.

* شاعر وقاص مصري

العدد الثاني في انزياحات