من المهم إعادة قراءة الأحداث التي شكلت هذا التاريخ/النكبة بشكل أكثر عمقًا وشمولية. الكارثة التي حدثت، بتقديري، لا يمكن فهمها من خلال عدسة الخلافات السياسية السطحية أو مجرد إلقاء اللوم على شخصيات بعينها مثل صالح وهادي، وإن كانوا جزءًا لا يتجزأ مما حدث بالطبع، أو انسحاب حزب الإصلاح من المشهد.
المسألة أعمق.
الواقع أن قوى النفوذ في شمال الشمال، التي تمتد جذورها إلى تاريخ طويل من السيطرة على السلطة في اليمن الشمالي، أرادت إفشال أي مشروع مدني يمكن أن ينشئ دولة قائمة على المساواة والعدالة الاجتماعية.
هذه القوى، التي ظلت لعقود تستمد سطوتها من الهيمنة التاريخية على مفاصل السلطة، رأت في مشروع اليمن الاتحادي تهديدًا وجوديًا لموقعها في الحكم..
ولذلك سعت بكل السبل إلى عرقلة هذا المشروع الذي كان يهدف إلى حل القضايا الوطنية العادلة، بما في ذلك القضية الأهم “قضية الجنوب”، إلى جانب قضايا أخرى منها “بناء الدولة” والعدالة الانتقالية”، وما سُميت حينها بـ”قضية صعدة”، ضمن معالجة شاملة تضمن توزيع السلطة والثروة بطريقة مختلفة لأفضل – ولو نسبيًا كبداية للتحول – عن آلية التفكير السابقة.
مؤتمر الحوار كان جيدًا إلى حد ما، باستثناء ما انتهى إليه في (الكلفتة) التي أدارها هادي نفسه بشأن الأقاليم، والذي قدّم لهذه القوى الذريعة من خلال خطته لتقسيم البلد إلى ستة أقاليم… إذ وضع الإقليم الزيدي كاملًا دون منفذ بحري أو ثروات طبيعية تُذكر، وإن كان استمرار صنعاء مركزًا للحكومة الفيدرالية يقدم بعض التوازن.
غير أن المسألة لم تتوقف عند رفض الخطة من قبل مراكز قوى “أزال”، بل رأت هذه المراكز أن المعادلة السياسية الجديدة برمتها سوف تؤدي في نهاية المطاف إلى تهميشها أو على الأقل إلى بدء انسحاب الهيمنة. وبالتالي، وهذا دأبها، سوف تسعى دومًا إلى تقويض أي فرصة لبناء دولة حديثة تتعارض مع تصورها القديم للسلطة، الذي يعتبر أن الحكم يجب أن يكون حكرًا في “المركز المقدس”.
هذه القوى الحاكمة في شمال الشمال استخدمت أدوات وأساليب متعددة للسيطرة على بقية أجزاء اليمن، سواء في الوسط أو الجنوب لاحقًا، منها التسلق الاجتماعي والتحالفات البرجماتية السياسية والإيديولوجية، بما في ذلك “الهاشمية السياسية” المخترقة لـ”الوسط”، إلى جانب استخدام القوة لإنهاء أي معارضة حقيقية، ويمكن تفصيل هذا بنقاش موسع.
الصراع الجمهوري الملكي، وخلال العقود الجمهورية التالية المفرغة من مضامين 26 سبتمبر، ولاحقًا فشل الوحدة في 94، وصولًا إلى 11 فبراير و2014، كل هذه نتائج هذه الهيمنة التي لا تزال مستمرة، وتحرص قواها المختلفة تمامًا على استمرارها. اتفاقها واختلافها لا يدور إلا حول السلطة وكيفية استمرارها في هذا الإطار، وهي السلطة التي لم تكتفِ بالهيمنة على مفاصل الدولة والجيش فحسب بل سعت إلى تربع هرم أكبر حزبين في البلد أيضًا، داخل بيئة تدير تبايناتها ضمن آلية توزيع الأدوار، المعروفة تاريخيًا.
والعلاقة بين الإطار المذهبي والقبائل التي دخلت ضمنه كانت دائمًا علاقة معقدة. ثمة من يقدم نفسه كإطار شرعي لحكم اليمن للفصل بين نزاعات القبائل، بينما كانت هذه الأخيرة ترى في هذا الجانب فرصة للحفاظ على نفوذها، بشرط أن تستفيد هي أيضًا من مغانم السلطة.
ولذلك نشهد، في إطار النظام الجمهوري، هناك حاشد، وفي ظل مشروع الإمامة هناك بكيل. حاشد وبكيل هما الإطار المكثف لكل هذا البقاء في الدائرة القديمة ذاتها، باستمرار هيمنة القبيلة، بغض النظر عن صيغة الحكم.
والحوثي الآن يتخذ من هاشميته حلًا وسطًا بين هذه القبائل، لحكمها، وبها ومعها إلى حكم بقية اليمن. وهي بيئة منظمة على هذا الأساس أكثر من غيرها، ما يشجعها على المزيد من فرض أجندتها بالقوة إلى أبعد مدى في هذه الجغرافيا.
وهي هنا لا تريد إلا أن تستمر في النفوذ القديم المتجدد في ظل الآلية المتبعة ذاتها داخل الذهنية المحاربة والمؤسسة على الحكم والغزو.
إحدى النقاط المهمة التي يجب تسليط الضوء عليها هي كيفية استغلال “الهاشمية السياسية” الصراع القبلي الدائم في اليمن. تاريخيًا، كانت القبائل اليمنية ترفض الخضوع لحكم قبيلة أخرى، ولهذا استمر الصراع على السلطة بين القبائل الكبرى مثل حاشد وبكيل. وفي هذا السياق، جاءت الهاشمية السياسية كحل وسط يمكن أن يحكم القبائل تحت مبررات دينية وعقائدية، فيما تستند إلى مقاتلي هذه القبائل لتثبيت حكمها.
ومع مرور الزمن، تطورت هذه العلاقة بشكل معقد. قبائل بكيل، على سبيل المثال، تعيش في مناطق فقيرة وغير منتجة، مما جعلها تعتمد على غنائم الحروب والنزاعات للبقاء. هذه القبائل كانت دائمًا تقاتل تحت إمرة الإمام الزيدي، لكنها في الوقت نفسه لم تكن ملزمة بتقديم أي شيء في المقابل، حيث كانت تحصل على نصيبها من النهب والمكاسب التي تأتي من التعدي على أراضي وأموال المعارضين، الذين كانوا في كثير من الأحيان من المذهب الآخر.
ما حدث في 21 سبتمبر كان تجسيدًا لهذه الصراعات التاريخية. لم يكن مجرد انقلاب سياسي، بل كان محاولة من مراكز النفوذ التقليدية في شمال الشمال لإعادة تأكيد هيمنتها على اليمن ككل، وإجهاض أي مشروع يمكن أن يهدد هذه الهيمنة.
وهذه فكرة سريعة للنقاش ربما في هذه الزاوية.
والحديث هنا يشير إلى السمة الغالبة، وليس الهامش المدني الذي وُجد هنا وهناك، واللا أثر له في نهاية المطاف.