كتابات

الوعل رمزية الوجود اليمني

الصحفي محمد المياحي المعتقل لدى الحوثيين - ريشة رقمية
منصة انزياحات

مازال محمد دبوان المياحي يستطيع التحدث

نحن اليمنيين، قرون الوعل شعارنا منذ الأزل، نقول هذا دون حرج. توحيديون نعبد الله من قبل تنزل الأديان؛ لكننا نرفع شعار الوعل عالياً،، ولا نشعر بالتناقض. لقد انتخبناه من بين سائر المخلوقات، كرمزية للوجود اليمني، ونصبناه ملكاً للغابة، نحميه من شرور الإنسان ونحتمي به من هجمات الدهر وتقلبات الزمان.

الوعل: رمزية تاريخية
تقول الآثار اليمنية إن أجدادنا العظماء اتخذوا الوعل رمزاً للقوة والخير والجمال والعفة والوفاء، وخلدوه في نقوشهم وأثرياتهم.

من ذا الذي يستطيع أن يشرح هذه المهابة في صورته، تلك البطولة التي تُطل من قرون الوعل، وتحرس ملوك حِمير دونما طلقة واحدة. يقال: لا تُحكَم الشعوب بالقوة، لا تَحكُم الدولة مواطنيها بالنار، بل بالمهابة. فالشعب أكبر قوة من الدولة، لكن قوة الدولة نابعة هيبتها. وهيبتها تقاس بتلك الرعدة، التي تسري في نفوس البشر حين يكونون في حضرة الشعار. أظن هيبة مملكة حِمير كانت قادمة من مهابة هذا الحيوان الخارق، من قرون الوعل الجبار، وما يوحي به من بطولة وجسارة. إنه دائم التأهب للذود عن حياض المملكة. جدير بالقداسة ومثبِّت للكفاءة.

حين اختار اليمني الأول رمزية الوعل؛ كي يتخذه شعاراً له، لم يكن تائهاً يتخبط في عقديته أو ملحداً يكفر بالله. بل كان يمارس فلسفة توحيدية من نوع متقدّم. ففي ذلك الزمن، كانت الحياة ما تزال قطعة موحّدة، سديم أولي، تجربة وجودية حرة وبريئة. لم يكن هناك أي انفصال بين الحياة – كما تسري بشكل عفوي- وبين روح الإيمان بقوة عليا خالقة لهذه الحياة. كان التدين متناغماً مع الحياة وليس شيئاً منفصلاً عنها. أن تحيا معناه أن تؤمن، وأن تؤمن معناه أن تختار شكلا تعبدياً حراً، وتتخذ من أي عنصر في الحياة رمزيتك المقدسة.

بطريقة لا واعية اختار اليمني الوعل، مثلما اختار رمزيات أخرى كثيرة غيره، أراد أن يفصح عن هذا التلاحم بين الإنسان والطبيعة، بين مخلوقات الأرض جميعها وبين الكائن الواعي” الإنسان”. حينها، لم تكن النزعة الفوقية للبشر قد تعززت بهذا الشكل الذي يرى فيها الإنسان ذاته كمخلوق منفصل عن باقي موجودات الحياة. كان يمارس سيادته على الطبيعة كعضو فيها، صديق للحيوانات والطيور، يشعر بحميمية روحية تجاهها، وليس كمخلوق غريب وافد عليها.

هكذا كانت الحياة، وهكذا تشكلت العقائد. كان الإيمان سلوك عضوي شديد الصلة بجوهر الحياة، كانت الطبيعة أشبه بفضاء تعبدي حر، أن ترفع شعار الوعل أو تفرش سجادتك أمامه، في الحالتين أنت تؤمن بخالق للوجود وتتعبده. هذا ما يفسر صداقة اليمني بالوعل وانتخابه كرمزية مقدسة تؤشر إلى نشاطاته في هذه الأرض. وهذه هي دلالة فعله، بعيدا عن فتاوى الرهبان المتأخرين، وهم يجردون أنصار الوعل من توحيدهم أو يمارسون ابتزازا دينيا يبخس الوعل قيمته. إنهم لا يشككون بإيمان الرافعين لشعار “الوعل”؛ بل يمارسون ترهيباً دينياً ويجردون أجدادهم من فضيلة التوحيد. الأمر يعكس تقعراً دينياً ممزوجاً برغبة في ممارسة دور إرشادي في مكان لا يحتمل أي وعظ.

لسنا بحاجة إلى الدفاع عن إيمان المؤمنين بشعار الوعل، العكس هو الصحيح. من يُكفِّرون أنصار الوعل، هم الذين يحتاجون إلى إثبات تطورهم التوحيدي السليم، وما إذا كانوا توصلوا للإيمان بتسلسل متناغم منذ وجودهم الأول أم لا. بمعنى أن أنصار الوعل هم مؤمنون مروا منذ أجدادهم بكل أطوار التوحيد. عاشوا الحيرة الأولى أمام سؤال أصل الوجود، خاضوا الرحلة بشكل طبيعي، وصولا لهذه اللحظة. فيما الطارئون على عقيدة التوحيد، أولئك الذين آمنوا دون وعي بجذورهم؛ لديهم شكوكية بقوة انتمائهم للقوة الغيبية، لذلك يحاولون تعويض نقص ولائهم؛ بالتشكيك في عقائد الآخرين. يلمزون الوعل؛ لكونهم يؤمنون ببلاهة ويعتقدون أن الوجود كله بدأ منذ لحظة ميلادهم. أيهم بالحاجة إلى التحقيق في سلامة بنيانه العقدي..؟

حسناً، ما كنا بحاجة إلى نقاش ديني لو أن المولعين بالتكفير قد فهموا ماذا يعني بعث شعار الوعل. إنهم يلوثون أي نشاط حضاري وقومي باستدعاء المقدس الديني، ومحاكمة كل شيء إليه. هذه محنة بدائية يتوجب تجاوزها.

حيث الاحتفاء بالوعل ليس نشاطاً لبعث طقوس الجاهلية، بل إحياء لجذر ثقافي مشترك، استدعاء لشعار أولي يرمز إلينا جميعاً. “الوعل” عنوان هوية -يا قوم- وإشارة تثبت وجودنا الحق، هنا وقبل آلاف السنين. نحتاج اليوم إلى الوعل؛ لمقاومة التهديد الوجودي الذي تتعرض له الأمة اليمنية. لكأن أنصار الوعل يقولون لمن يحاول اجتثاثهم: لقد كنا هنا من قبل أن نولد، شققنا الجبال، وعشنا في البراري، وسنقاتل كالوحوش لتثبيت حقنا في الوجود، وصناعة مصيرنا مجددا. رفع أجدادنا شعار الوعل وحملوا وجودهم عالياً. وسنواصل مشوارهم، ولو اضطررنا إلى استخدام قرون الوعل؛ كي نذود عن كيان البلاد. الوعل رمزية للوجود اليمني، للمؤمنين والملحدين، وكل بشر سكن هذه البلاد. هذه الفكرة على بساطتها، نحتاج إلى تكرارها كثيرا، حتى يقتنعوا بها.

هذا فيما يخص الوعل، ما يتعرض له من هجوم معنوي وملابسات إيمان أنصاره أو شركهم. أما فيما يخص الجانب الآخر من التهديد، أو ما يتعرض له الوعل من هجوم يهدد وجوده المادي، فتلك جريمة واقعية أخرى، اعتداء على الطبيعة، واستخفاف بدائي بالشعار. نحتاج إلى مقاومة الطرفين؛ من يُحمِّل “أنصار الوعل” دلالات عقائدية جاحدة بخالق الوجود، ومن ينتهك حقه بالوجود المباشر. مقاومة من يُكفِّرون الأقيال، ومن يصطاد رمزهم، نشاطان على بُعدهما المنطقي هما متقاربان في الأهمية.

 

حسنا ننتقل إلى النقطة الثانية:

 

اصطياد الوعول: بطولة جبانة، حين ترديه قتيلاً، فنصرك أشد مرارة من الهزيمة، إنك لا تفتك بحيوان عابر، بل تضع الرصاصة في جبينك أنت. لكأنك تنحر ذاتك، وتدمي صفحة التاريخ، تؤذي كبرياء أجدادك، وتستخف برمزيتهم العالية. كمن يمزق وصية ثمينة، يهتك أسرار الماضي، ويُقطِّع روابطه مع الزمن الذاهب.

الوعل ليس هدفاً نبيلاً لبندقية صياد بليد، الوعل رمز للملوك، رمزية منتقاة بعناية، شعاراً اختاره بشر كانوا هنا قبل آلاف السنين، من بين مئات الكائنات انتخبوا الوعل، كي يرفعوه شعاراً يمثلهم، عنواناً يرمز لهويتهم، وشارة للسيادة. أشبه بقدسية العلم الوطني، لكنه أشد دلالة من تفاصيل العلم، شعاراً منتخباً من قلب الطبيعة، ومثلما ترفع علم بلادك، وتحرسه من السقوط، يتوجب أن تحرس الوعل من أي رصاصة شاردة في الغابة.

 

موت الوعول كانتصار الرذيلة على الفضيلة، تفوق الجبن على الشجاعة… يموت الوعل، ليس لكونه ضعيفاً؛ بل لأن من يبارزه جباناً وغادرا، كانتصار الإمامة على الجمهورية. حين يموت وعل ما تحزن الغابة، تفقد الطبيعة حارسها الأمين، تغدو البراري موحشة، وتفقد رمز عرشها الكبير.

 

أخيرا: الإيمان برمزية الوعل أو حماية وجوده، كلا الأمرين يعتبران سلوكا ثقافيا رفيعا، نشاطا يكشف وعيك بالجذور، وحيلة ذكية لحماية حق اليمني بالوجود. أن تؤمن بفاعلية هذا الشعار فأنت تقف على أرضية صلبة. تتملّك سرديتك الكاملة، قصة وجودك في هذه الأرض، وتقف في مواجهة الطارئين على هذا الوجود، تترجح كفتك عليهم، وتؤكد أنك لصيق بهذه الأرض منذ بدأت عليها الحياة.

 

بالمقابل أن تحمي الوعل من أي تهديد، فأنت تصون الطبيعة بأعلى تجلياتها، تحافظ على تناغمك معها، وترفض أن تخل بتوازنك الحيوي في هذه الأرض. ترغب أن تعيش دورتك في الحياة دون أن تؤثر على مستقبل الأجيال بعدك، لا تتعامل مع الطبيعة كأنك وافد جاء يغزوها، يقتل بقية الموجودات، ويحيا بمفرده. يقول القيل اليماني: لقد جئت هنا بعد قرون طويلة عاشها من سبقوني، رفعوا شعار الوعل، سأنتهج طريقهم. وحافظوا على الطبيعة دون تخريب وجدير بي أن أحرسها مثلهم. أعيشها وأهيئها لمن سيأتي بعدي. هكذا سأحيا قصتي وهذا هو ناموس الوجود الحق لكل يمني يرفع شعار الوعل، وينشد العدالة للجميع.

 

*المقال نقلا عن قناة بلقيس

استعادة