حين يصل خراب أمّة ما إلى أقصى مستوى، تكون اللحظة مبشّرة بولادة جديدة لهذه الأمّة، تكاد هذه الفكرة المبدئية تكون ناموسا في حياة الأمم، والأمر هنا ليس محاولة رومانسية لتحشيد الناس ومنع انهيارهم؛ بل تذكير بأحد قوانين التاريخ المستخلصة من تجارب مشابهة، وثمة شرح يطول للفكرة.
في تشريحه للتاريخ، تحدث هيجل قائلًا: إن الحروب بقدر ما تخلفه من مآسي، تكون بمثابة محرِّض باطني عنيف للشعوب؛ لإعادة تصحيح المسار وإبصار الطريق مجددا.
في الحالة اليمنية: إن كان هناك من خيط لهذا المسار المنبعث من قلب الحطام، فهو خيط الفكرة القادمة من جذورنا، فكرة القومية اليمنية، ولافتتها العريضة “الأقيال”، وبعيدا عن التصورات النمطية والمشوشة للفكرة، سأحاول هنا أن أتحدث عن ما تنطوي عليه الفكرة من دلالة حيوية ومتجاوزة لكل المعاني المسبقة أو المشاعة عنها.
أول ما يتبادر إلى الذهن حين أسمع مفردة الأقيال أو فكرة القومية، هو مفهوم “الوعي بالذات”، حيث ظلال المعنى الذي يتولد من فكرة القومية يوحي بسؤال الهوية: من نحن، ما هي ذواتنا، وماذا نريد، أي أننا أمام مشروع لإعادة تعريف الذات العميقة لهذه الأمة التائهة. والذات هنا ليست مفهوما خشبيا أو مفردة عائمة المعنى.
إن ما نعنيه حين نتحدث عن ذات الأمّة، ليس تلك العروض الفلكلورية المرتبطة بماضي الأمم فحسب، أو ميراثها المندثر، بل الذات بدلالتها الأعمق. ذات اليمني أي عناصر تكوينه الأولى، ما بدونها تفقد الأمة ملامحها الأصلية، ذات الأمة: ذاكرتها المعنوية، ذلك الخليط من الأفكار والمشاعر والتصورات الراسخة عن الحياة وتقاليدها وأعرافها، ميراثها النضالي والثقافي ورموزها، وما تركته من أثر عميق في عقل الشخصية اليمنية ووجدانها.
الذات اليمنية : “تلك المعاني التي تغذت من ذاكرة الأمة وشعورها ووجدانها على مر الزمان، إلى أن وصلت إلى عصرنا هذا، وانعكست على مشاعر الأمة وأفكارها ولسانها وتصوراتها الفنية وتمثلت فيها، وعشناها في أعرافنا وعاداتنا وتقاليدنا، باعتبارها أهم عمق من أعماق الحياة في كل أوان”.
ليست الفكرة القومية دعوة إلى الانكفاء على الذات أو الحنين للماضي، كنوع من التعبير عن فقدان زمام الحاضر، بل صحوة واعية، تتخذ من الميراث الثقافي والحضاري للأمة أرضية للتفاعل مع العالم، تعيد ترميم التصدعات التي حدثت في مسار الأمة، وتجذير شخصيتها؛ كي تتمكن من الصعود بثبات، وقد أعادت وصل الأجيال بمنابعهم الأصلية وبما يمنع من اختطاف الراية منهم، أو حرف مسارهم من أي طرف دخيل أو مقطوع الصلة بميراثهم الضابط للمسير.
لكل أمة شفرتها الخاصة بالنهوض وإني أرى فكرة “الأقيال” هي كلمة السّر لخلاص اليمني من الشتات وتجاذبات الأفكار الطارئة على نسيجه الثقافي العميق.
حسنا، بمثل هذه الأفكار التأسيسية تستعيد الأمم علاقتها بالحضارة، تكتشف ذاتها المطمورة، وتعاود التدفق في التاريخ الحديث.
على مدار التاريخ تتعرض الأمم للتمزق وتفقد بوصلتها في المسير، تُشوَّش ملامحها الأصلية، وتُغيِّب عناصر قوتها، ثم تسطو عليها قوة مفارقة لجوهرها الحقيقي، وفي زمن التيه هذا تسير الجموع في طرق لا توصل إلى شيء، تتجاذبهم قوى شتى، كل طرف يرفع شعار خاص به، محدود ومقتصر عليه، يعدهم بكل شيء ولا ينجز شيئا.
في لحظة كهذه، يبدو للبعض أن الشعوب استبدلت هويتها، وأن فصلا جديدا من مسار التاريخ قد بدأ فصلًا ذا توجه مناقض لمسار الأمة العميق؛ لكن المبصر يعلم أن ما يحدث ليس انقلابا نابعا من أعماق الكينونة الحضارية للشعب، وأن هذا التحول الظاهري يظل سمة قشوريًّة، ارتجاجا مؤقتا لا يمثل عمق هذه الأمه ولا يسد جوعها الكبير للمجد والنبوغ.
وكمثال عملي، تبدو الردة السياسية الراهنة في الواقع اليمني، تحديدا تلك التي يتزعمها تيار الإماميين الجدد، تجليّا عابرا في مسار الأمة اليمنية، على أن صفة “عابر” هنا لا تقلل من خطورته ولا ترسخ وهما بإمكانية زواله دون مدافعة؛ لكن المقصد أن ما يمثله تيار الإمامة، هو مجرد طفح تاريخي مهما بلغت ضراوته، يظل مقطوع الصلة بالجذور العميقة للذات اليمنية الحضارية، وبكثير من اليقظة يمكن لليمني دحره واستعادة المسار الصحيح لحركة التاريخ اليمني لهذا البلد العريق.
تواصل الأمم التفتيش عن حكاية جديدة تمثلها، ولافتة كبيرة تستظل تحتها، وسط حالة التيه هذه تتخلق سردية جديدة، تعيد ضبط التاريخ وربط الشعوب بينابيعها الأولى.. وهذا هو ما تمثله فكرة “الأقيال” كصرخة تلوح في سماء اللحظة الشاردة، إنها نداء لإصلاح العطب الذي لحق بالروح اليمنية، نافذة تطل بك نحو ذاتك وترشدك نحو دروب جديدة.
في كتاب “التاريخ واليوتوبيا” لسيوران، يتحدث عن فكرة مهمة، يقول فيما معناه: إن الأمم حين تزداد قوة يرتفع وعيها بجذورها، وكلما ارتفع وعيها بجذورها تكون أكثر قدرة على فتح ذهنها على الأفكار الجديدة، وتتمكن من هضمها دون أن تفقد هويتها. والهوية القومية هنا ليست ميراثا مغلقا بل مشروع مفتوح على الجميع، صيرورة قابلة للتشكل على الدوام.
إنها (الأمم)، وقد اكتشفت الجذر، تمتلك القدرة لتصهر كل الأيديولوجيات داخل وعيها الخاص بها، هكذا تصبغ الأمم الحية كل الأفكار الوافدة والمستحدثة بعبقريتها الخاصة، وتحولها إلى وقود ذاتية لمواصلة الحراك والنمو.
من هذا المنطلق، يبدو لي أن فكرة “الأقيال” هي الفكرة الوحيدة القادرة على هضم كل الأيديولوجيات الفرعية داخلها، الصيغة الجامعة لتذويب كافة التناقضات الداخلية في البلاد، فهي ليست أيديولوجيا تعرف نفسها كنقيض للآخر، ولا جماعة محصورة في نطاق معين، أو حزباً يتبنى برنامجاً محدداً ويعجز عن احتواء من يناهض فكرته، بل مشروع عمومي ينطلق من الذات اليمنية الأولى، ويوفر مساحة حرة لاحتواء الجميع، إنها بمثابة الوحدة العضوية لمختلف مكونات الأمة اليمنية، بذرة البذور وجذع الشجرة بكامل تفرعاتها.