غزة التي “تقول”، هي ذاتها غزة التي “تفعل” الأعاجيب البطولية على الأرض. ولذلك، فإن ما يُنتظر منها، حين تتحدث، يتجاوز بكثير حيّز الكلمات ووزنها وأثرها، ليغدو ملحمة مكتملة. وإنها حقا لفكرة ذات أجنحة، عابرة للحدود والحواجز والحصار المفروض، أن نتصوّر بواقعية وخيال معا: ماذا إذا عزمت غزة الباسلة على أن تنطق بما تشتهي لأحبّائها، وأن تقول كما تشاء للقاصي والداني، وأن تنسج أمام العالم وضميره المتخاذل سرديتها الشعبية والمقدسة، شعرا ونثرا وشهادات ورسائل؟
في قلب القاهرة (وسط البلد، كما يسمّى)، كانت فعالية “ما قالته غزة”، التي نظّمتها وأطلقتها دار “ميريت” للنشر، برعاية صاحبها محمد هاشم، وحضور ستة وعشرين مبدعا مصريّا وعربيّا، انبروا ينوبون عن غزة في القول عنها بمصداقية وحماسة، لأنها ببساطة هم، ولأنهم في الحقيقة هي؛ جسدا ودما وروحا وقلبا وقالبا ونسيجا حيّا.
ولم يكتفِ هؤلاء المبدعون بقراءة ما أنتجوه في وقت قياسي، في الأمسية التي انعقدت في مقر دار ميريت. وإنما تحوّلت هذه النتاجات كلها، في وقت قياسي أيضا، إلى كتاب ورقي بالعنوان نفسه “ما قالته غزة”، كتب مقدمته نبيل عبد الفتاح، الباحث بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية في القاهرة، ليغدو الكتاب وثيقة تعبيرية دالة على قوة صوت غزة، وقدرته على النفاذ إلى سائر الأرجاء ليوصل رسالته، فاضحًا الاحتلال الإسرائيلي البغيض، ومتحدّيا المركزيات المتواطئة والإعلام الغربي الآثم المضلل.
بمصاحبة رسوم الفنان أحمد اللباد، الذي صمم الغلاف أيضًا، تجاورت مجموعة نصوص الكتاب من قصائد الفصحى والعامية المصرية الدارجة والشهادات والرسائل، بأقلام المبدعين العرب من تيارات واتجاهات وصيغ جمالية ودلالية متنوعة، وبلسان حال غزة الذي يعني الصمود والمقاومة والكرامة وبشائر النصر، رغم ما يخلّفه الاعتداء الصهيوني الغاشم من قتل وتشريد وترويع ودمار، خصوصًا بعد الحرب التي اندلعت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
جاءت في المفتتح بضع قصائد للفلسطيني خالد جمعة، ومثّل المشاركات العربية كلٌّ من: حافظ محفوظ (تونس)، فتحي أبو النصر (اليمن)، شمس الدين بوكلوة (الجزائر). أما المصريون الذين أسهموا في مقولات غزة الإبداعية، فهم كل من: زين العابدين فؤاد، أمين حداد، فتحي عبد السميع، ياسر الزيات، صلاح اللقاني، عادل سميح، أحمد المريخي، غادة نبيل، سالم الشهباني، أحمد حداد، منى عبد اللطيف، مصطفى التركي، سعيد شحاتة، محمد الكفراوي، محمد كالابالا، أحمد عبد الحي، رضا أحمد، منتصر حجازي، مصطفى السيد سمير، تامر عبد الحميد، ناصر فرغلي، أحمد دومة.
وأهم ما يبلوره كتاب “ما قالته غزة” أن البكائيات ليست أبدًا من العناوين السائدة في شعر الحالة الفلسطينية الواعي الناضج، إذ “لا يكفي أن يكون البكاء وسيلتنا”، بحد قول الناشر محمد هاشم. وإن شعر اللحظة الراهنة يبدو حريصا دائما على أن يكون مشحونا بالغضب والتحفيز الإيجابي على مواصلة الكفاح والتشبث بالأرض والهوية والجذور، وإضاءة جوهر الوجود الإنساني، والجمع بين مناصرة القضية الفلسطينية/العربية من جهة، وتعرية ممارسات العدو الإسرائيلي القائمة على العنصرية والكراهية والتطهير العرقي والاستعلاء والعنف المفرط، وكشف الانهيار الأخلاقي للقيم الغربية التي تدّعي أنها مبنيّة على العدل والمساواة والحرية، من جهة أخرى.
ولأن الشعر هو “أكثر السرديات والأجناس تعبيرًا عن حدثية اللحظة في أبعادها كافة”، وفق نبيل عبد الفتاح في مقدمته، فإن نصوص “ما قالته غزة”، باستثناء بعض الشهادات والرسائل القليلة إلى أسماء فلسطينية بعينها، هي نصوص شعرية، ومعظمها بالعربية الفصحى، وقليل منها لشعراء العامية المصرية.
وهذه القصائد المنفلتة، إلى جانب تثويرها اللحظة الفلسطينية المتوهجة باليقظة والنضال، تُبرز أيضا في جوانب منها حركة الإبداع العربي المستقل النبيل، بعكس اتجاه الكثير من الأنظمة العربية السلطوية والمطبّعة والانتفاعية، ومؤسساتها الثقافية الرسمية المأفونة.
ومن “قليل مما ستقوله غزة عما قليل”، يرسم الشاعر الفلسطيني خالد جمعة انتفاضة النهار الآتي “سينتفض سيد من رائحة النحل الغاضب، ومن بقايا الصهيل في قصص البطولات”. وتغيّر “البيوت التي هدموها على أهلها” أشكالها، في قصيدة الشاعر التونسي حافظ محفوظ، وتعلو سامقة، ثم “تتحول طائرة كالطيور الأبابيل، وتبني لغزة أحلى القصور”. ويطلع القمر في سماء غزة في نص الشاعر الجزائري شمس الدين بوكلوة، لتقام جنازة للظلمات.
وينتصر الشاعر المصري فتحي عبد السميع للأسلحة البدائية، الفعّالة دائمًا لأنها تدافع عن الحقوق المستباحة، أما قلب الفدائي فإنه أكبر من كتيبة. وفي “حديث سري لنجمة”، تسرق الشاعرة المصرية رضا أحمد من جوعها القديم أملًا يعبر معها إلى الغد.
وتحمل مجموعة من قصائد “ما قالته غزة” في إهداءاتها رسائل وإحالات إلى أسماء وشخصيات فلسطينية. فالشاعر اليمني فتحي أبو النصر يهدي مثلًا قصيدته “الحرب معقّدة كفكاهات كآبتي” إلى الشاعرة الفلسطينية فاتنة الغرة، التي رفضت الخروج من غزة وهي محاصرة تقاوم. كما يهدي أبو النصر قصيدته “كلاكيت سابع مرة” إلى الشاعر الفلسطيني يوسف القدرة، الذي فُجع باستشهاد شقيقته الصغرى، الحامل في الشهر الثامن، وزوجها وابنتها ذات السنوات الأربع، وفيها يقول “سيموت عموديا وأفقيا. سيموت بالقرب من ضحكة عينيه المنتصبتين”.
*نقلا عن المدن اللبنانية