إلى روح عبقري الكتابة، إلياس خوري، الذي جعل من كلماته صرخة تتردد في ضمير كل من قرأ أعماله، لا يمكن أن نودعك كأننا نفارق مجرد كاتب آخر. إلياس خوري كان وما زال جزءا من ذاكرتنا الجماعية، صانع الحكايات التي جسدت ألما مستمراً، وندبة في قلب كل من انتمى لفلسطين وجراحها التي لم تلتئم منذ عقود.
حين أهداني والدي رواية “باب الشمس”، لم أكن أعرف أن تلك الصفحات ستحول مجرى حياتي. كنت أجهل حينها أن تلك الرواية، التي تبدو للوهلة الأولى مجرد سرد لمأساة بعيدة، ستفتح لي أبواب الحقيقة. عبر “باب الشمس”، أصبحت أدرك أن القضية الفلسطينية ليست مجرد حدث مرّ منذ أكثر من سبعين عاما، بل هي جرح مفتوح يرزح تحت أعباء الاحتلال، والمجازر، والتهجير القسري. بين طيات تلك الرواية، استمعت لصوت المنكوبين والمشردين، أولئك الذين هجروا أوطانهم وأحلامهم، وتعلمت أن فلسطين ليست مجرد أرض؛ هي شعب يصارع للبقاء، وهوية تتحدى المحو.
إلياس خوري، الذي عرفناه جميعا كروائي وناقد، لم يكن يكتب لمجرد الإبداع الأدبي، بل كانت كلماته جزءا أصيلا من المقاومة. “باب الشمس” وأعماله الأخرى لم تكن مجرد قصص، بل سردا لواقع قاسٍ تعيشه الشعوب المستضعفة، وتحديدا الشعب الفلسطيني. في كل عمل له، كان خوري يضع بين أيدينا مفتاحا لفهم العذاب الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، وكيف استطاع عبر السنين أن يحتفظ بصموده رغم كل محاولات الطمس والإبادة.
خوري، الذي غادرنا بعد صراع مرير مع المرض، لم يكن مجرد أديب. كان معلما حقيقياً للأجيال. من خلال رواياته، مقالاته، ونقده اللاذع، فتح أعيننا على القضايا التي حاول العالم طمسها. لم يكن يكتب عن فلسطين فقط، بل كان يكتب عن الإنسان، عن الظلم الذي لا يفرق بين شعوب، وعن قوة الروح البشرية في مواجهة الفناء.
كثيرا ما تحدّث عن الفظائع التي عانى منها الشعب الفلسطيني، وخصوصا مجزرة صبرا وشاتيلا، التي بقيت حية في ذاكرته وفي أعماله. “باب الشمس” لم تكن مجرد رواية تتحدث عن الاحتلال والمقاومة، بل كانت مرثية للحب، للوطن، وللحياة التي تُسرق من الشعوب تحت وطأة الظلم. كانت رواية تلخص مسيرة إلياس خوري الأدبية والفكرية، مسيرة مليئة بالتمرد ضد القمع، والصمود أمام كل محاولات الطمس.
إلياس خوري كان يؤمن أن الأدب ليس مجرد كتابة، بل هو فعل مقاومة، مقاومة للنسيان وللتاريخ الذي يكتبه الأقوياء. من خلال كلماته، حاول أن يعيد للفلسطينيين وللمقهورين في العالم هويتهم، حكاياتهم، وكرامتهم. لم يكن خوري يكتب ليتسلى أو لينال الجوائز، بل كان يكتب ليحافظ على الذاكرة. كان يعرف أن الاحتلال لا يستهدف الأرض فقط، بل يستهدف الذاكرة، واللغة، والتاريخ. ومن هنا، كان يرى في الكتابة فعلا مقدسا، ومسؤولية كبيرة.
حتى في أيامه الأخيرة، لم يتوقف خوري عن الكتابة. من سرير المرض، كان يشهد على ما يحدث في العالم من ظلم وانتهاكات، وخصوصا ضد الشعب الفلسطيني. كتب إلياس في آخر أيامه عن وجع لا يمكن تخيله، وجع المرض ووجع فلسطين. “غزة وفلسطين تُضربان بشكل وحشي”، قالها إلياس وهو يعلم أن الزمن يتكرر، وأن النكبة الفلسطينية التي بدأت في 1948 لم تنتهِ بعد.
إلياس خوري كان أكثر من مجرد كاتب فلسطيني الهوى، كان حارسا للذاكرة، مرآة للمعاناة الإنسانية. فقدانه خسارة كبيرة للثقافة العربية والعالمية. رحل عنا وهو يحمل معه حزنا عميقا على ما يجري في فلسطين، على النكسات التي لم تتوقف، وعلى العالم الذي يتفرج بلا حراك.
لكن ما يواسينا في رحيله هو أن أعماله ستبقى. إلياس خوري قد رحل بجسده، لكن كلماته ستظل خالدة، شاهدة على نضال شعب كامل، وعلى نضال كل من حمل القلم ليدافع عن المظلومين والمهمشين. ستظل رواياته، مقالاته، ومسرحياته جزءًا من ذاكرة الأمة، وصدى لروح لا تنحني.
أتمنى من وزارة الثقافة في فلسطين إعادة طباعة روايات وكتابات هذا المعلم الفذ. بإعادة طباعة رواياته وكتاباته من قبل وزارة الثقافة في فلسطين ستكون خطوة مهمة للحفاظ على ارثه الثمين وذاكرة فلسطين وتاريخها، التي دافع عنها بقلمه وصوته طوال حياته. خوري لم يكن مجرد كاتب، بل كان نصيرا للقضية الفلسطينية، وكلماته ستظل نبراسا للأجيال القادمة.
إلى إلياس خوري، الذي صنع لنا “باب الشمس”، سنظل نعود إلى بابك المفتوح كلما أردنا أن نتذكر ما يحدث هناك في فلسطين، وفي كل مكان يواجه فيه الإنسان قمعا وظلما. ستظل كلماتك شمعة تضيء لنا الطريق في زمن الظلمات.
رحمك الله يا إلياس، وعزاؤنا أنك لم ترحل بالكامل، فما تركته لنا سيظل نبراسا لكل من يؤمن بالعدل والحرية.