تحيي الحركة الحوثية ذكرى المولد النبوي في مناطق سيطرتهم بطريقة لم يعتدها اليمنيون من قبل. بالألون الخضراء التي تطلى بها الأماكن والأشخاص والتجمهر العريض والخطب السياسية والتغطية الإعلامية الضخمة، تتخذ ذكرى المولد النبوي طابعا إحيائيا أشبه بتلك الفعاليات الإحيائية التي تقوم بها الشيعة الاثني عشرية مثل عاشوراء والزيارات الكبرى للأضرحة. ويشبه الحوثيون في احتفالهم بالمولد النبوي تلك الاحتفالات التي تقوم بها الحركات الشيعية في العراق وايران.
يؤكد تلك الغرابة ما كتبه الكثيرون من الباحثين والأكاديميين عن أن الزيدية التقليدية لا تحتوي على “مناسبات ذات طابع إحيائي” كتلك الموجودة في المذهب الشيعي الإثنا عشري. الحوثيون، الذين ينتمون إلى الزيدية ، بدأوا في تبني وإحياء الفعاليات مثل المولد النبوي وعيد الغدير بشكل أكبر، وإعطائها طابعًا احتفاليًا وسياسيًا. هذا التبني قد يكون ناتجًا عن أغراض سياسية ودينية لتعزيز شرعيتهم أمام أتباعهم.
الاحتفال بالمولد النبوي شائع في العديد من الدول العربية والإسلامية، لكن طريقة الاحتفال تختلف من بلد إلى آخر بناءً على السياق الثقافي والديني والسياسي. فمصر والجزائر وتونس مثلا يحتفلون بالمولد النبوي بطريقة شعبية ودينية. تُقام احتفالات تشمل المدائح النبوية، توزيع الحلوى، والاحتفالات الدينية في المساجد. تلك الاحتفالات تركز على الجانب الروحي والديني أكثر من السياسي. في المغرب أيضا يُحتفل بالمولد النبوي بقراءة القرآن، وإقامة الحضرات الصوفية، والأنشطة الدينية في الزوايا والمساجد. ويشبه طابع الاحتفالات الروحي والثقافي المرتبط بالتقاليد الصوفية في المغرب تلك نظيره في السودان لتي تتميز أيضا بالتجمعات الشعبية والإنشاد الديني.
غير أن طريقة الحوثيين في الاحتفال بالمولد النبوي تتسم بطابع سياسي ودعائي كبير، حيث تُستخدم المناسبة لتعزيز شرعية الحركة والتأكيد على الارتباط بأهل البيت والهوية الشيعية، إلى جانب تنظيم تجمعات جماهيرية كبيرة تُظهر قوتهم السياسية والعسكرية. يشبهها في ذلك لبنان والعراق، وخاصة في المناطق التي يسكنها الشيعة الإمامية، حيث يُحتفل بالمولد النبوي بطريقة مشابهة نسبيًا لما يقوم به الحوثيون. هذه الاحتفالات تتضمن تجمعات جماهيرية وخطب سياسية مرتبطة بالهوية الشيعية، ولكن مع اختلافات ترتبط بالسياق المحلي.
ولكن لمذا يحتفل الحوثيين بالمولد النبوي بهذا الشكل المكلف والضخم حتى رغم الظروف الاقتصادية السيئة بما في ذلك نص رواتب الموظفين في المناطق الواقعة تحت سيطرتهم؟
يستطيع القارئ للأحداث ولطبيعة وأساليب الحركة الحوثية أن يرى أن الاحتفالات بالمناسبات الدينية الكبرى مثل المولد النبوي تُعتبر أولوية سياسية واستراتيجية، حتى في ظل الأزمات الاقتصادية والمعيشية التي يعاني منها المواطنون في مناطق سيطرتهم. بالنسبة لهم، هذه الاحتفالات قد تكون أكثر أهمية من دفع الرواتب لأسباب سياسية واجتماعية، وذلك بناءً على عدة اعتبارات:
تعزيز السيطرة والشرعية:
الحوثيون يرون أن الاحتفالات الجماهيرية الكبرى مثل المولد النبوي تساهم في تعزيز شرعيتهم الدينية والسياسية. نظرًا لأنهم يعتمدون في حكمهم على خطاب ديني شيعي زيدي يرتبط بأهل البيت، فمثل هذه الاحتفالات تعد أدوات قوية لترسيخ هويتهم وتعزيز دعمهم الشعبي. فبمجرد أن ترى لوحاتهم المكتوب عليها “لبيك يا رسول الله” مع تليق صورة زعيم الحركة عبدالملك الحوثي بجوارها تستنتج ذلك الربط المقصود.
وتستخدم الاحتفالات كوسيلة لإظهار التماسك الاجتماعي والسياسي الذي يقصدونه وسط الحرب والفوضى، ما يرون أنه يعطيهم مزيدًا من القوة والسيطرة. في ظل النزاعات والحروب، يرون أن الحفاظ على هذا التماسك أكثر أهمية من الاهتمام بالتحديات الاقتصادية المباشرة. فالرمزية الديني هنا تستخدم كأداة تحكم.
التعبئة الجماهيرية:
الحوثيون يستخدمون هذه المناسبات كفرصة لحشد أتباعهم ودعوتهم إلى التضحية والصبر في مواجهة التحديات. في خطبهم، يعمدون إلى تعزيز روح المقاومة ورفض التنازل أمام خصومهم، مما يُصور الأزمة الاقتصادية على أنها جزء من الحرب المفروضة عليهم، وبالتالي تُغلف عدم دفع الرواتب بشكل مبرر ديني وسياسي. هذا النوع من المناسبات يوفر فرصة لجذب الحشود وتحفيزهم للانخراط في صفوفهم أو دعمهم، وهو ما يُعتبر حيويًا لاستمرار الحركة، أكثر من محاولة توفير حلول للأزمة المالية بشكل مباشر.
إدارة الأولويات في ظل الحرب:
في ظل الحرب والحصار، الحوثيون يرون أن الأولويات تتمحور حول الحفاظ على السلطة واستمراريتها. بالنسبة لهم، احتفالات المولد النبوي ليست مجرد طقوس دينية، بل هي وسيلة لإظهار التحدي والاستمرارية في وجه خصومهم الداخليين والخارجيين. دفع الرواتب قد يكون مهمًا للموظفين، لكنه يُعد أقل أهمية من الحفاظ على السيطرة السياسية والشعبية وسط الحرب. من وجهة نظرهم، الاحتفالات الكبرى تعزز مكانتهم السياسية والعسكرية، في حين أن الرواتب هي مشكلة يمكن تأجيلها أو تبريرها بظروف الحرب.
الرمزية الدينية مقابل الاحتياجات الاقتصادية:
الحوثيون يعتمدون بشكل كبير على الرمزية الدينية لتعزيز مكانتهم كحركة دينية تمثل “الإسلام الصحيح”، بحسب رؤيتهم. الاحتفال بالمولد النبوي يعطيهم فرصة للتمييز عن خصومهم، خاصة في ظل الصراع الطائفي. هذه الرمزية الدينية ربما تُعتبر بالنسبة لهم أكثر أهمية من تلبية الاحتياجات الاقتصادية الآنية، حيث أن الاستثمار في الهوية الدينية يساعدهم على كسب الولاء الشعبي والاستمرار في تجنيد الأتباع، بينما الأزمات الاقتصادية يمكن تجاوزها مؤقتًا عبر أساليب أخرى مثل تقديم الدعم المادي المحدود أو توزيع المساعدات الغذائية في بعض المناسبات.
استغلال الاحتفالات لتوجيه اللوم للخارج (إدارة الاستياء الداخلي) :
الحوثيون يستغلون هذه المناسبات لتوجيه اللوم على الأزمة الاقتصادية إلى التحالف العربي والأمريكي البريطاني، مما يتيح لهم التهرب من مسؤولية عدم دفع الرواتب. يتم تصوير الأزمة الاقتصادية على أنها نتيجة مباشرة للحرب والحصار، وليس نتيجة لسياساتهم. بدلاً من التركيز على حل المشكلات الاقتصادية الداخلية مثل الرواتب، يقومون باستخدام الاحتفالات الدينية كمنصة لتوجيه رسائلهم السياسية وإظهار أن الأزمة خارجة عن إرادتهم.
جباية الموارد لتمويل الاحتفالات:
الحوثيون قد يستخدمون بعض الموارد والمساعدات الدولية أو تلك التي يتم جمعها من المناطق الخاضعة لسيطرتهم لتمويل هذه الاحتفالات، حتى لو كانت على حساب الاحتياجات المعيشية الأساسية للسكان. بالنسبة لهم، هذا الاستثمار في الاحتفالات يُعتبر ضروريًا لاستمرار السيطرة.
الحفاظ على الهيبة والظهور بمظهر القوة:
الاحتفالات الكبرى مثل المولد النبوي تُستخدم لإظهار أن الحوثيين أقوياء ومستقرون، رغم الحصار والمعاناة الاقتصادية. من منظورهم، إظهار القدرة على تنظيم فعاليات ضخمة يُعطي صورة للخصوم بأنهم ما زالوا متماسكين وقادرين على السيطرة. هذا الظهور القوي يمكن أن يُعتبر أهم من حل مشكلة الرواتب، التي قد يروها مسألة يمكن إدارتها عبر الأساليب الدعائية أو تحويل اللوم إلى أطراف أخرى.
……..
والحقيقة أن تقديم الحوثيين لأهمية الاحتفال بالمولد النبوي عن أهمية تلبية الاحتياجات الاقتصادية يبعث على التساؤل في مواضيع أخرى من قبيل: إلى أي مدى تضبح اولوية الرمزية الدينية مقدمة على الاحتياجات الاقتصادية بالنسبة لأعضاء الجماعة الحوثية أنفسهم، ام أن ذلك فقط جهاد بالشعب؟ وبالنظر إلى قتال الحوثيين منذ خروجهم من صعدة وانضمام جماعات القبائل ورجال الدين الزيدية وحتى السنية لهم والآخرين من المنتفعين، كيف تتم إدارة والسيطرة على الموارد في ظل “الجهاد”؟ لم يكتب الكثير من التحليل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المنظم لفهم جميع البنى والفئات في هذا السياق بشكل كبير، عوضا عن المناكفات السياسية بين الحوثيين وخصومهم. ذلك مهم جدا لفهم سلوك وطبيعة تلك الحركة وكيفية التعامل معها.