كتابات

الدعم المصري للثورة اليمنية: أسرار وتحديات (ذاكرة العرفان الكبير)

منصة انزياحات
يمني يقبل العلم المصري في بوابة مقبرة الشهداء المصريين بصنعاء
يمني يقبل العلم المصري في بوابة مقبرة الشهداء المصريين بصنعاء

يعتبر وقوف مصر الى جانب الثورة اليمنية الخالدة 26 سبتمبر 1962، و14 أكتوبر 1963، علامة فارقة يتذكرها اليمنيون بامتنان كبير. حيث امتزجب دماء المصريين بدماء اليمنيين في ملحمة تاريخية، لم تجد بعد، التثمين اللائق بها.

 

وبحسب شهادات مدوّنة عن تلك الفترة، فإن قرار القاهرة دعم ثوّار شمال اليمن ضد النظام الكهنوتي، وثوّار الجنوب ضد المستعمر البريطاني، تبلور قبيل ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962 التي أعلنت قيام نظام جمهوري، وتحقّق عبر تواصلٍ (مباشر) تمّ بين الضابط اليمني علي عبدالمغني (العقل المدبّر للثورة)، والرئيس المصري جمال عبد الناصر.

 

مصر التي كانت حينها تدعم حركات التحرّر، قررت مساندة اليمنيين في التحرّر من الإمامة والاستعمار، مدفوعة بنجاح تجربتها في دعم ثورة الجزائر. وقد اختير عبدالحكيم عامر ليكون مسؤولاً عن المجهود الحربي، ومحمد أنور السادات مسؤولاً عن المجهود السياسي، بينما تم اختيار ضابط مصري من أصل يمني، هو اللواء طلعت حسن، قائداً للقوات المصرية في اليمن.

 

وتدفّق الدعم العسكري المصري لثوار اليمن منذ الأيام الأولى للثورة، وكان متواضعاً في البداية، حيث تم إرسال ثلاث طائرات حربية وفرقة صاعقة وسرية من مائة جندي، لاعتقاد القاهرة أن مهمة تثبيت النظام الجديد ستكون سهلة، لكن عوامل محلية وإقليمية ودولية متعدّدة تضافرت لتعقيد المهمة، وليرتفع عدد الجنود المصريين تدريجياً حتى يصل في نهاية عام 1965 إلى نحو 55 ألف جندي، موزعين على 13 لواء مشاة، ومسنودين بفرقة مدفعية، وفرقة دبابات وتشكيلات من قوات الصاعقة والمظلات.

 

استنفار الجوار

 

لاقت الجمهورية الوليدة بقيادة المشير عبدالله السلال، والإسناد المصري المؤيد لها، تحدياتٍ كبيرة، أهمها وقوف أطراف إقليمية ودولية في صفّ الإماميين، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، التي جاء موقفها باعتبارها مملكة خشية “المد الناصري”، وقد تركت ثورة اليمن أثرها على الداخل السعودي بشكل ملحوظ، إذ هناك من يربط بينها وانقلاب الملك فيصل بن عبدالعزيز على أخيه سعود في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 1964، خصوصاً أن الملك سعود انتقل إلى القاهرة عام 1966 لاجئا سياسيا، ثم زار صنعاء في 23 إبريل/ نيسان 1967 واستقبله الرئيس السلال، وانتقد من هناك سياسات أخيه فيصل ودعمه الإماميين.

 

جسر بريطاني إيراني

 

إلى ذلك، وقفت بريطانيا التي كانت تحتل جنوب اليمن، إلى جانب فلول الإمامة في الشمال، ردّاً على دعم مصر الكفاح المسلح ضدها في الجنوب، وقد خصّصت قاعدتها العسكرية في عدن لتزويد الطائرات المساندة لفلول الإماميين بالوقود والسلاح، ونصبت مراكز في المناطق القريبة من الشمال، لمداواة جرحى الموالين للإمامة.

 

كما وقفت دول أخرى ضد النظام الجديد في صنعاء، منها إيران والأردن، وقد تمّت الاستعانة بطيارين أردنيين، بعد رفض طيارين سعوديين ضرب مواقع للقوات المصرية في اليمن، ولجوئهم إلى القاهرة.

 

إسرائيل ومرتزقة

 

ولقد تعقدت الأوضاع بشكل أكبر، بعد دخول الكيان الإسرائيلي على خط المعارك لمساعدة المجاميع الإمامية، إذ وجدتها فرصة “لمراقبة وتقييم التكتيكات الحربية المصرية وقدرتها على التكيف مع ظروف المعارك”، وفقاً للكاتب محمد حسنين هيكل.

 

كما عملت تل أبيب على دعم فلول نظام الإمامة العنصري لإنهاك الجيش المصري، وأعطت شحنات من الأسلحة، وأنشأت جسرا جويا سريا بين جيبوتي وشمال اليمن، إضافةً إلى قيامها بـ”اتصالات مع مئات من المرتزقة الأوروبيين الذين يقاتلون بجانب الملكيين في اليمن”.

 

وحسب تقارير متطابقة، فإن الإماميين استجلبوا مرتزقة من فرنسا، بلجيكا، إنكلترا، ألمانيا وأميركا، عددهم 15 ألف مرتزق، ومنهم جيم جونسون، زعيم المرتزقة الأوروبيين، والمرتزق الفرنسي الشهير، بوب دينار، الذي زار صنعاء لاحقاً، قبل نحو عقدين، التقى خلال تلك الزيارة الرئيس السابق علي عبدالله صالح، وأخرج له العديد من أسرار تلك المرحلة.

 

وقد اعترف الكيان الإسرائيلي مؤخرا، بدخول تل أبيب على خط الحرب في اليمن في الستينيات، إذ نقلت مطبوعة سلاح الجو الإسرائيلي في مايو/ أيار 2008، عن طيارين إسرائيليين، قولهم إنهم شاركوا في مساعدة المجاميع الموالية لنظام الإمام محمد البدر (آخر أئمة بيت حميد الدين)، موضحةً أن سلاح الجو الإسرائيلي نفّذ 14 طلعة جوية أسقطت في أثنائها أسلحة وعتادا عسكريا وأغذية ومواد طبية لمساعدة مجاميع البدر.

 

معلومات أخرى تذكر أن إسرائيل سعت أثناء دعمها لفلول الإمامة، لتجنيد أعداد من يهود اليمن الذين هاجروا إلى الأراضي المحتلة عام 1950، بلغ عددهم 75 ألف في العامين 1963-1964، للقتال ضد القوات المصرية. وقد تم تنظيم عملية التطوع في عدة مراكز في رأس العين وفي كيرم هينتميائيم وفي هعيمن يزرائيل، وفي مناطق أخرى من الأراضي المحتلة.

 

وكانت حملة التطوع تتم بإشراف عدة جهات في مقدمتها وزارة الدفاع التي كان يتولاها رئيس الوزراء الأسبق “دافيد بن غوريون” والذي وصف اليهود اليمنيين بأنهم “متخلفون وليست لديهم أدنى فكرة عن الحضارة”، ولذا فإن مكانهم الطبيعي، من وجهة نظره، أن يكونوا على الأطراف الشمالية لليمن ليقاتلوا القوات المصرية هناك.

 

وفي إفصاحه عن تجنيد اليهود اليمنيين الذين تم تنظيمهم في لواء كامل، يشير “فيجدور کهلاني” الذي كان ضمن قادة ذلك اللواء، إلى أن الولايات المتحدة مولت عملية تجنيد أفراد المخابرات المركزية وقامت بإرسال أسلحة إسرائيلية تحت إشراف وكالة المخابرات المركزية إلى إيران، باعتبار أن الشاه كان طرفا أساسيا في الحرب ضد الثورة اليمنية والقوات المصرية. وقد شملت هذه الأسلحة الأنواع التالية: (2000 رشاش عوزي إسرائيلي الصنع، 200 رشاش براونج، 100 مدفع هاون عيارات مختلفة، ومعدات عسكرية وتجهيزات أخرى).

 

مهمة معقدة

 

رغم الدور الحاسم الذي لعبه الجيش العربي المصري في دعم الثورة اليمنية 26 سبتمبر، إلا أنه لم يخلُ بطبيعة الحال، من بعض الأخطاء التي لا تقلل من قيمة ذلك الدعم، ولعل أبرزها احتجاز رئيس وأعضاء الحكومة اليمنية في القاهرة لمدة تقترب من عام. على أن الآلة الدعائية الإمامية قد عملت طيلة عقود على تضخيم تلك الأخطاء في محاولة للنيل من مصر وتضحياتها العظيمة في اليمن.

 

وعطفاً على ما سبق ذكره من صعوبات، وأبرزها الدعم الإسرائيلي البريطاني لجيوب الإماميين، فقد أسهمت عوامل محلية في تعقيد مهمة الجيش المصري في اليمن، لعل أبرزها وعورة التضاريس وانعدام الخرائط الطبوغرافية لأرض المواجهات، إضافة إلى الولاء المزدوج لبعض القبائل التي كانت تقدّم دعماً للجمهوريين والملكيين في الوقت نفسه.

 

فاقمت تلك العوامل من تضحيات الجيش المصري، وضاعفت خسائره. وتتباين المصادر بشأن حجم تلك الخسائر، إذ يذهب مؤلف كتاب “الزهور تدفن في اليمن”، وجيه أبو ذكري، إلى أن شهداء مصر في اليمن كانوا عشرين ألفاً، بينما تذهب مصادر أخرى إلى أنهم ما بين عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف جندي. ما دفع مؤرخين إسرائيليين إلى وصف اليمن بأنها “فيتنام مصر”.

 

وتضاف إلى الخسائر البشرية خسائر مادية كبيرة، أثّرت على الاقتصاد المصري، ورفعت من ديونه الخارجية. وقد جيء على هذه الخسائر نفسها في النقاشات في القنوات المصرية إبّان دخول القاهرة في التحالف العربي الذي تقوده السعودية منذ سنوات، حيث ذهب بعضها إلى عدم التورّط بقوات برّية مجدداً في اليمن.

 

والمؤكد أن الدعم المصري لثورة سبتمبر لم يقتصر يومها على التدخل البري والمجهود العسكري، بل رمت القاهرة بكل ثقلها في المعركة عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. كما أنه أُنتجت أفلام وأغان داعمة للثورة، فضلاً عن الدور الإعلامي الكبير الذي قامت به إذاعة “صوت العرب”.

 

وشمل الدعم المصري جوانب أخرى، منها تأسيس أجهزة الدولة الوليدة، وسدّ العجز في الكادر الوظيفي، إذ بعد مغادرة موظفي الإمامة، على قلّة عددهم، لم يكن بين اليمنيين من يسدّ النقص، لأن الشعب كان يعاني أمية واسعة، بسبب طوق العزلة الذي ضربته الإمامة على اليمن. وهو أيضاً ما فرض على المصريين خوض معركةٍ تعليمية، تمثلت في فتح المدارس وإيفاد المدرسين وطباعة المناهج. وبهذا، كان من نتائج الدعم المصري للثورة أن صبغت الأجهزة الحكومية واللوائح الإدارية والنظم التعليمية والتشكيلات العسكرية اليمنية كلها بطابع مصري، لايزال أثره ماثلاً.

 

طريق المصالحة

 

وعلى الرغم من التضحيات الكبيرة التي قدموها في اليمن، إلا أن المصريين لم يتراجعوا ولم يتعبوا، واستمروا على الوتيرة نفسها إلى أن شنّت إسرائيل عدوانها على مصر في يونيو/ حزيران 1967، الأمر الذي سحب نفسه على الوضع في اليمن، إذ استدعى الرئيس جمال عبد الناصر، في أغسطس/ آب من العام نفسه، 15 ألف جندي، لتعويض الجنود الذين فُقدوا في تلك الحرب، ثم عقد اتفاقية مع الملك فيصل بن عبدالعزيز في مؤتمر القمة العربية بالخُرطوم، تنصّ على سحب القوات المصرية من اليمن، ووقف المساعدات السعودية لفلول الإمامة، وإرسال مراقبين من ثلاث دول عربية محايدة، هي العراق والسودان والمغرب.

 

وبعد مغادرة الجنود المصريين، قام مجموعة من الضباط والمشائخ بينهم القاضي عبد الرحمن الإرياني (ثاني رؤساء الجمهورية في الشمال) بانقلاب على المشير عبدالله السلال في الخامس من نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، وبعد أسابيع، وتحديداً في 28 من الشهر نفسه، أحكمت قوات الإمامة حصار السبعين يوماً على صنعاء، واستبسل الجمهوريون في الدفاع عن العاصمة، بقيادة الفريق حسن العَمْري، الذي استقبله الزعيم عبدالناصر بعدها في القاهرة، وقال له: “أنت، يا حسن، لم تدافع عن صنعاء، وإنما دافعت عن تاريخ مصر”، في إشارة إلى أن الهزيمة كانت تعني ذهاب كل التضحيات التي قدمتها مصر هباء.

 

وبعد عامين (في 1970)، عُقدت مصالحة بين الجمهوريين والملكيين، وبموجبها عاد مؤيدو الإمامة إلى اليمن، باستثناء بيت حميد الدين، وبالمصالحة، تم حفظ ماء وجه مصر والسعودية على السواء. في حين يعتبر العديد من اليمنيين اليوم أن تلك المصالحة كانت البوابة التي ولج منها الإماميون لتخريب العهود الجمهورية والتهيئة للعودة.

 

وعلى الرغم من انتقاداتٍ يسوقها بعضهم للدور المصري في اليمن، فقد ظل اليمن يثمّن ذلك الدور طوال العقود الماضية، مع التأكيد الدائم أنه لولا دعم مصر ما نجحت ثورة اليمن.

 

وقد خُصص لشهداء مصر نصب تذكاري غربي العاصمة صنعاء، وخُصصت صالة في المتحف الحربي تضمّ صوراً لمجموعة من أبرز الضباط المصريين الذين قضوا في اليمن. وعشية الاحتفال بعيد الثورة يشارك وفد عسكري مصري في إيقاد الشعلة في ميدان التحرير، كما يضع الرئيس اليمني، أو أحد معاونيه، يوم العيد، إكليل زهور على النصب التذكاري لشهداء مصر. وقد توقف هذا التقليد منذ انقلاب الحوثيين في 2014، وهو أمر طبيعي باعتبار الحوثيين من مخلفات نظام الإمامة الذي أسقطه اليمنيون في ٢٦ سبتمبر ١٩٢٦ بدعم مصري. وغني عن التأكيد أن أي تهاون في عودتهم يعد خيانة وتفريطا بكل تضحيات أبناء اليمن ومصر منذ السادس والعشرين من سبتمبر، وحتى اليوم.

 

ولعل أحد الجوانب المضيئة في هذا السياق أن حكومات العهد الجمهوري أثبتت أنها بوابة الرخاء لليمن والسلام لكل جيرانه، الأمر الذي جعل المملكة العربية السعودية تتصدر اليوم جهود الأشقاء في الدفاع عن نظام وقفت ضده بالأمس، بعد أن أكدت العقود الستة الماضية أن جوهر نظام الحكم هو الأساس وليس شكله، وأن النظام الجمهوري في صنعاء أقرب لها من نظام الإمامة الملكي الذي ساعدته بالأمس.

 

ومثلما ثمّن أبناء اليمن دور القاهرة بالأمس، سيثمنون دور الرياض اليوم، وكلٌّ على قدر إسهامه. لكن الأهم من كل ذلك، أن يستوعب اليمنيون الدرس جيدا، وألا يسمحوا للإمامة، بعد دحر الحوثية، أن تطل برأسها من جديد، تأميناً للحاضر والمستقبل، ووفاء لكل الدماء الزكية التي سكبت فداء لهذا الوطن العزيز.

 

. الصورة: يمني يقبل العلم المصري في بوابة مقبرة الشهداء المصريين بصنعاء