كتابات

إنه جسدي” رواية نبيلة الزبير: روحٌ مقطوعة من جسد

إنه جسدي طبعة الهيئة العامة لقصور الثقافه مصر
إنه جسدي طبعة الهيئة العامة لقصور الثقافه مصر
منصة انزياحات

حين فازت رواية نبيلة الزبير ،” إنه جسدي ” بجائزة الاديب المصري العالمي الكبير نجيب محفوظ التي ترعاها الجامعة الأميركية في القاهرة.. كانت تلك الجائزة تعتبر الثالثة على مستوى الوطن العربي، حيث سبقتها اليها الأديبة هدى بركات عن رواية “حارس الماء”، وأحلام مستغانمي عن رواية “ذاكرة الجسد”.

إنه جسدي طبعة الهيئة العامة لقصور الثقافه مصر
إنه جسدي طبعة الهيئة العامة لقصور الثقافه مصر
إذا كان الجسد الأنثوي يطغى في حضوره الاجتماعي على الجانب المعنوي أو الروحي للمرأة فإن ما نجده في رواية الكاتبة اليمنية نبيلة الزبير “إنه جسدي”هو الحضور المعنوي للمرأة، وتغييب جسدها وظهور ساردة الرواية.

هناك ثلاثة مستويات لتحولات الجسد في الرواية تشكل الملمح الفني والمتميز لها؛ المستوى الأول تظهر فيه الراوية (سكينة بنت علي عمر) كأنها روح خرجت من القبر، ترى كل من حولها وتناديهم فيما هم لا يرونها ولا يسمعونها.

وفي المستوى الثاني تظهر فيه سكينة في حال من الحمّى وكوابيسها فتبقى في سرد هذياني تصحو في بعض فواصله لتكتشف الأشياء من حولها، وتحاور الشخوص، ولكن سرعان ما تعود إلى الحالة الهذيانية.

أما المستوى الثالث، فتتحول فيه سكينة إلى المعيش اليومي، فنجدها، على الرغم من التقطع الهذياني السردي، تتحاور مع الشخوص كواقع،لا كذكرى أو تداع حواري من الذاكرة. لكن هذا المستوى نجده، من خلال إحدى مؤشرات أحداثه، عبارة عن رابط صلة مع المستوى الأول، كما سنلاحظ لاحقا.

بداية تصحو الشخصية الرئيسة في الرواية (سكينة بنت علي عمر) فتكتشف أنها وسط حفرة أو قبر في مكان أشبه بمقبرة، أو هو كذلك.

فتتأكد وهي في حالة هذيانية من وجودها الفعلي: “كنت أصحو من لا شيء، لا أظنه النوم، عيناي مغمضتان.. أنا مستيقظة؛ ممدودة.. نعم أنا ممدودة تماما، أسمع كأن مجرفة تسحب أطرافي.. قد لا تكون مجرفة؛ ربما يد.. أين يدي؟ الحمد لله.. هذا رأسي.. بدأت أتحسس جسمي كلّه؛ أتحسسه.. هذا وجهي؛ أنا فوق الطين أم تحته؟ خفت؛ عدت أُطمئن نفسي.. هذا عنقي، هذا كتفاي؛ أوه.. رائع..! أشعر بألم في كتفي…إنني بخير، صدري؛ إنني أتنفس بصورة جيدة”.

شخصية مبتورة

هكذا تَطْمئن سكينة لوجودها، لكن القارئ المتفحص سرعان ما يكتشف أن هذيان الشخصية الرئيسة في الرواية وشعورها بوجودها يشبه شعور الشخص الذي بُترت بعض أعضائه، وما زال يحس بوجودها، أو يظن ذلك. وفي هذه الحالة تظهر شخصية الرواية/ الساردة وكأنها روح مقطوعة من جسد. فهي حين تنادي حفار قبور، لا يراها ولا يسمعها. وكذلك حين تنادي حاملي نعش: «يا إلهي.. إنهم يتهيئون للمغادرة؛ يحملون نعشهم ويمشون.. صرختُ.. لا يزالون يمشون. وأثناء عودة سكينة من المقبرة إلى منزل أسرتها في صنعاء فإن كل ما تواجهه يكشف أنها مجرد روح أو هواء، حسب تعبيرها. حتى أن القارئ غير المتفحص قد لا ينتبه إلى الخدع السردية للكاتبة، فسكينة، مثلا، حين تدق باب منزلها بقوة أثناء عودتها، يخرج أخوها مصادفة، في اللحظة نفسها، ولا يعني ذلك أنه فتح لها الباب لأنه لم يجدها كجسد أصلا، ولم يسمع دقاتها.

ويتلازم هنا الشكل مع مضمون السرد من منطلق أن الساردة سكينة، كونها امرأة يقتصر حضورها في الواقع على الجسد وتُهمّش وتُغيّب معنويا ووعيا، فإنها تقوم بتغييب الجسد وإحضار الوعي. فنجدها، كروح حيّة، تعاين وتشخّص أجسادا تعيش بلا حياة، أو بلا روح: “ما الذي تفعلونه؟ أيها الميتون.. أيها الميتون؟”.

وفي مشهد كابوسي ترى سكينة أثناء عودتها إلى المنزل أن المكان / الزاوية الذي أطلقت عليه اسم (محصنة)، وهو المكان الذي تمضغ فيه (القات) وتأكل فيه وتشرب وتقرأ وتكتب وتنام، قد ازدحم حوله عدد من الأهل والأقارب، وأنهم يقومون بحركات ما، وكأن سكينة تمكث في المكان (محصنة) كعادتها؛ وتسمع من يشخّص حالها: “لا علاقة أبدا بين هذا التقرير وبين الحالة. أين هو الضرب المبرح..؟ لا توجد آثار لضرب تعرّضت له الحالة”.

وتشاهد سكينة الحاضرين وهم يخرجون، كما تشاهد أخاها عبدالرحمن وهو ينفذ قرار نقل المريضة إلى المستشفى، إذْ أنحنى إلى محصنة (المكان)، ونهض مقوسا ذراعيه “كأنه يحمل شيئا”. ثم تسمع أختها سعاد وهي تصرخ نادبة بقولها لابنة سكينة “ما الذي تبقى لك هنا يا رؤى؟ أمك ميتة..ميتة..”.

وهنا تصيح سكينة أنا ميتة؟!!”

انقطاع عن العالم

في المستوى الثاني من السرد لا نجد سكينة، وهي الشخصية الرئيسة في الرواية، في حال انقطاع عن الواقع المادي، كما في المستوى الأول، بل نجدها في حال من التواصل الهذياني المتقطع المرتبط بالحمى وكوابيسها، والتي تصحو في بعض فواصله لتحاور من حولها: «لا أدري كم لبثت.. شعرتُ أن جسمي متخشب.. بل مفكك لا أقوى على تجميعه.. لا ضرورة أن أنادي أحدا.. لن يسمعني أحد».

وتستغرب سكينة من اكتظاظ المنزل بالزائرات من الأهل والجيران، ومن حديثهن عن المستشفى والموت، وكذلك تندهش من تدليل قريباتها لها في تناول الطعام؛ لكنها سرعان ما ترجع إلى حالتها الهذيانية: «جلست بينهن كأنني لست موجودة.. لا أحد تكلم إلي..أصعقني الخاطر: ألا يرينني؟ خاطبتهن واحدة واحدة..أمسكت بهن.. ثرت.. هجت..صرخت: – أريد ابنتي..لا.. لن أحتمل أن تنكرني ابنتي!! هربت..غادرت البيت..الشوارع.. أعدو كالمجنونة..منبوذةً..هاربةً..لا يطاردها أحد».إذا انتقلنا إلى المستوى الثالث من السرد، كما حددناه هنا، فإننا سنجد سكينة تتحاور مع الشخوص وتتعايش مع الأحداث كوقائع لا كذكرى، فنتعرف على شخوص مثل نعمة ورجاء وتقية وأحمد وحسين إلى جانب الكثير من أصحاب المكاتب والموظفين والأقارب وغيرهم. وهنا، على الرغم من التقطع الهذياني السردي لسكينة، نجدها في صميم الهم اليومي والمعيش للمرأة سواء بصفتها أنثى، أو بصفتها واحدة من المجتمع. ولكن هذا المستوى، كما أسلفنا، قد يكون مبررا للمستوى الأول الذي بدت الكاتبة فيه وكأنها تبرهن على فاعلية عبارة رولان بارت أن الرواية موت؛ وأنها تجعل من الحياة مصيرا، ومن الذكرى فعلاً مفيدا.

ويلاحظ قارئ الرواية، على صعيد البناء الفني للسرد، أن هناك صوتين،الأول أساسي وهو صوت الشخصية الرئيسة في الرواية (سكينة) والثاني صوت عدد من الشخوص يأتي أحيانا بعد سياقات أو فقرات سردية لسكينة ليعلّق على ما سبقه من آراء أو وقائع. وتميّز هذا الصوت إما بفصله عن سابقه بالترقيم الهندسي، أو بتمييزه ببنط أو حرف طباعي مختلف.وفي الصوتين نجد أن الشفاهي يتحول إلى كتابة واعية لتمفصلات العبارات والفقرات، أي أن الهذيانات حين تتخذ شكل الكتابة تصبح فعلا واعيا لمدخراته، غير ما هي عليه شفاهيا. وما يمكن قوله،أخيرا، أن نبيلة الزبير أسست في روايتها هذه (صدرت عن هيئة قصور الثقافة في مصر) لأفق جديد في السرد الروائي اليمني تبتعد فيه عن الأساليب السردية التقليدية التي عرفتها الرواية اليمنية منذ بدايتها في ثلاثينيات القرن الماضي وحتى الآن.
——-

 

نقلا عن مجلة العربي الكويتية