في مكان ما، بين العتمة والضوء، وُلدت فراشة. لم تكن فراشة كغيرها، بل كانت تنسج أجنحتها من خيوط الليل، وتطرزها بألوان من الحلم المستحيل. هذه الفراشة عاشت في عالم لا يعرف الحدود بين الظاهر والمخفي، حيث تتداخل الخطوط وتذوب الأشياء في بحر من الأحلام والكوابيس. كان اسمها نور، لكن الضوء لم يكن أبداً رفيقها، فقد ولدت في ظلال العتمة، وفي ضلال البُعد القاسي.
نور القحطاني لم تكن مجرد فتاة تقاوم المرض؛ كانت خيالاً هائماً في فضاءات اللامرئي. كانت كما لو أن السماء خافت أن تمنحها الكثير من النور، فاختارت أن تحيطها بالعتمة كي لا يُحرق قلبها. كانت نور تجيد العيش في الحدود الهشة بين الحياة والموت، في تلك المنطقة الرمادية حيث يلتقي الأمل بالحزن، ويختلط الفرح بالحسرة. هي التي كانت تقول: “أنا المشكولة بالضم والمنسدلة كإغماضة وافرة”، وكأنها تلخص حياتها في جملة واحدة، تنسج فيها مصيرها بحرفية الشعراء.
كانت الفراشة تدور حول النور، لكنها كانت تدرك، رغم جمال الضوء، أن العتمة هي موطنها. لم يكن جسدها يعينها على التحليق؛ كان يثقلها بأوجاعه، يسحبها نحو الأرض، نحو أعمق طبقات الألم. ومع ذلك، لم تخضع لقيود الجسد. كانت روحها تحلق في عوالم بعيدة، تكتب الشعر كما لو أنها تستمده من السماء ذاتها. وفي كل مرة كان الحزن يقترب منها ليضمها في أحضانه، كانت تصدّه بابتسامة هادئة، وكأنها تقول: “لن تفوز بي”.
في مدينة صغيرة على هدب طفل، كانت نور تبني عالماً آخر. كانت تؤسس لمدينة لا تعرف السكون، حيث الكلمات تنساب كالنهر، والأحلام تتجسد في قصائد وخواطر واشكاليات يشارك فيها نخبة كتاب وشعراء الألفية الجديدة من كل أصقاع العالم العربي.. لم تكن المدينة مجرد منتدى أدبي؛ كانت محاولة منها لخلق واقع بديل، واقع تستطيع فيه أن تعيش حرة، بعيدة عن قيود الجسد وظلال المرض. كانت تكتب، تنظم، تدير، ولكنها كانت تفعل كل ذلك بنعومة الفراشات التي لا تترك أثراً يُرى، لكنها تترك في القلوب صدى وموال.
المرض؟ لا، لم يكن المرض هو رفيقها الدائم. كانت الأوجاع تجلس إلى جانبها، لكنهما كانا أصدقاء غير مرئيين. لم تكن تشكو، لم تكن تشتكي من هذا العالم الذي منحها جسداً يرفض الانصياع لرغبات روحها. بل كانت تضحك، بتلك الضحكة الهمسة التي تحمل فيها قوة غير مفهومة. كانت تضحك على الحياة، على الموت، وعلى كل ما بينهما. كانت تعرف أن العالم لا يستطيع فهمها، ولكنها لم تكن بحاجة لأن تُفهم. كانت تعيش في عوالمها الخاصة، عوالم لا تُرى بالعين المجردة، ولكنها محسوسة بقلوب من عرفوها.
في تلك العوالم، كانت تكتب قصائد عن العتمة المبصرة، عن الظلال التي تحرس الفرح، عن خيول تنطلق في براري الحلم، وعن أبواب تفتح على عتبات الأمل. كانت نور شاعرة الروح، لا تهتم كثيراً بما يقال عن الشعر، بل كانت تكتب ما تشعر به، وما تراه بداخلها. كانت تعرف أن الكلمات لديها قدرة على تغيير العالم، ولكنها كانت تفضل أن تغير عوالم من حولها، أولئك الذين يعرفون كيف يقرأون ما وراء السطور.
لقد أثرت نور القحطاني في عالم الأدب العربي بشكلٍ لا يُنسى، حيث كانت رمزاً للإبداع والمثابرة رغم الظروف الصحية الصعبة التي واجهتها. نور، التي ساهمت في تأسيس المنتدى الأدبي الأشهر “مدينة على هدب طفل” بالتعاون مع الروائية الكويتية الصديقة بثينة العيسى، خلقت مساحة للأدباء العرب للتفاعل وتبادل الأفكار. كما كانت فعّالة في الإشراف على موقع “جهة الشعر” تحت قيادة الشاعر البحريني الكبير قاسم حداد، وساهمت في مواقع ثقافية أخرى أبرزها” جسد الثقافة”.
رغم آلامها الجسدية المستمرة، لم تفقد نور روحها المشرقة وإبداعها. قصيدتها “عتمة مبصرة” كانت ترجمةً دقيقة لحياتها ولروحها العصامية، وهي التي فضلت الانغماس في الأدب على نشر أعمالها الشخصية على نطاق واسع. وفاتها تعد خسارة كبيرة للمشهد الثقافي العربي، وذكراها ستظل حية في قلوب من تأثروا بإبداعها وإسهاماتها في تعزيز الثقافة العربية.
ثم، فجأة، قررت نور أن تغلق عينيها. لم تكن إغماضةً عادية؛ كانت إغماضة وافية، كاملة. كأنها عرفت أن رحلتها وصلت إلى نهايتها، فاختارت اللحظة المناسبة لتوديع هذا العالم. وكأنها قالت لنفسها: “كفى”. لم تعد بحاجة إلى التحليق بعد الآن، فقد عاشت الحياة كما ينبغي أن تُعاش، في أقصى حدود الحلم والواقع.
لكن نور لم تمت. لا، هي لم تتركنا. لا يمكن لفراشة الضوء أن تموت. هي الآن تحلق في مكان آخر، في عوالم لا يعرفها إلا من يحلمون ويؤمنون بأن الروح لا تفنى، بل تتحول. قد تكون تحولت إلى قصيدة، إلى أغنية، إلى نجمة في سماء بعيدة. قد تكون الآن تجلس على عتبة قمر، تنظر إلينا وتبتسم بتلك الابتسامة الهمسة التي لطالما كانت تميزها.
في غيابها، يبقى نورها، ويبقى شعرها، وتبقى روحها التي لم تعرف السكون. كلما قرأنا قصيدةً لها، كلما سمعنا صوتها الهمس في أعماقنا، سنتذكر أن هناك فراشة ضوء كانت هنا، وأنها رغم كل شيء، لم تخضع للعتمة. بل عاشت، في أوجاعها وفرحها، كأنها في حلم أبدي لا نهاية له.
كنت أتشاجر معها مراراً حول عديد من القضايا الثقافية ، نتناقش بحدة وكأن كل منا يمسك بطرف العالم ويحاول سحبه إلى جانبه. كنت عنيداً في آرائي، متسرعاً في أحكامي، ولم أكن أتحمل أن تُناقشني أو تخالفني. لكن نور، برغم كل ذلك لم تكن تحمل ضغينة، بل كانت تبتسم بتلك الابتسامة الهامسة التي تخفف من وطأة الخلاف وتعيد الأمور إلى مجراها الطبيعي. كانت تعرف كيف تحتوي حماستي المندفعة، وكيف تجعلني أشعر بالراحة رغم اختلافاتنا. لم تكن تبحث عن الانتصار في جدالاتنا، بل عن الفهم العميق. كل مرة كنت أظن أننا لن نتحدث مجدداً، كانت تعود بابتسامة هادئة، وكأن شيئاً لم يكن، متسامحة بروحها الكبيرة.
نور لم تكن مجرد شاعرة أو مثقفة عابرة، كانت ضوءاً يتسلل إلى عتمة الحوارات، فتجعل من كل نقاش، مهما كان حاداً أو مشحوناً، مساحة للاحترام المتبادل والتقدير.
علمت برحيلها الفجائي البارحة تصوروا بينما كنت أتذكرها في حوار عميق مع صديقي التاريخي، الشاعر السعودي محمد خضر الغامدي. كنا نستعيد ذكريات النقاشات الطويلة التي جمعتنا بنور، ونتأمل في حضورها الذي لم يكن يغيب عن حياتنا حتى وإن ابتعدت جسدياً. كانت تلك اللحظات مشبعة بالحنين والدفء، إلى أن جاءني الخبر الذي قطع الحكاية وجعل للحوار نهاية لم أتوقعها.
لم أعلم برحيلها إلا عبر خبر رثاء صادم، نقلته صحيفة العربي الجديد القطرية بقلم شاعرة الكويت المعروفة سعدية مفرح. كان الخبر كأنه صاعقة، فقد أحسست فجأة بأن شيئاً ما انكسر في عالمي. نور التي كانت جزءاً من ذاكرتنا الثقافية، وصاحبة القلب الكبير الذي لم يتوقف عن العطاء، غابت فجأة كما تغيب النجوم في الليلة الأخيرة من الشتاء، تاركة وراءها فراغاً لا يُملأ.
رحم الله الشاعرة الكويتية الفذة نور القحطاني وأسكنها فسيح جناته.