منذ أن سيطر الحوثيون على العاصمة صنعاء وعدد من المحافظات، بدعم من أطراف محلية وخارجية؛ هدفوا حينها إلى تقويض المكاسب السياسية والاجتماعية الرفيعة للتغيير الذي أنتجه ربيع اليمن، هيمنت على المحافظات الأكثر كثافة سكانية في شمال غرب البلاد، طقوسٌ تمزجُ بين التصوف والاستعلاء، وتسعى بوضوح إلى توسل المكانة النبوية الشريفة في تمرير المشروع السلطوي (الثيوقراطي) القائم على فكرة الاستحقاق السلالي للحكم.
الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بات مناسبة لبناء مشهد عام (كاريكاتوري) بائس يقوم على فكرة تعميم اللون الأخضر، وفرضه كلون رسمي على واجهة المنازل والمحلات والمقار الحكومية، والأضواء الملابس الرجالية والنسائية، وتحويله إلى مساحيق لطلاء الأجساد طيلة فترة الاحتفال بهذه المناسبة التي تصادف الثاني عشر من ربيع الأول من كل عام هجري.
تمثل عودة هذه المناسبة السنوية سببا في استثارة مخاوف الناس، بسبب ما يفرضه الحوثيون على اليمنيين من إتاوات مرهقة، إذ تقوم هذه المناسبة على تمويلاتهم القسرية من موارد شحيحة، فالأمر لا يتوقف على دعم المظاهر المبالغ فيها، ولكن أيضا تتحول إلى مناسبة لإثراء العناصر المسلحة، التي تطوف بإيعاز من الطغمة المتسلطة في صنعاء، على المحلات والبيوت والشركات لأخذ الأموال تحت طائلة التهديد.
وفي حين يصر الحوثيون على إضفاء البعد الديني للمناسبة، يزداد وعي الناس بالأهداف السياسية النهائية لتشبثهم بإحيائها على هذا النحو المبالغ فيه، والمرهق والمستنزف لأرزاق الناس، ما أدى إلى أن تتحول هذه المناسبة من احتفال تذكاري طوعي بالمولد النبوي، كما كان يفعل اليمنيون عشية ذكرى المولد في بعض مساجد المدن، إلى حدث يتصادم مع القناعات السياسية والوطنية للشعب اليمني، وهم يرون هذه الموجة الشيعية الجديدة، تعيدهم إلى عهد سياسي مظلم وحالك السواد، كانوا قد دفنوه في السادس والعشرين من أيلول/ سبتمبر1962.
في الفترة الممتدة من 1918 وحتى 1962، والتي حكمت فيه الدولة المتوكلية الزيدية (الشيعية) شمال اليمن، عانى اليمنيون ما عانوا من بؤس شديد، لا يمكن قياسه بأي عهد من عهود الانحطاط السابقة، بل يصح أن تكون تلك الفترة أنموذجا شديد السوء، تقاس عليه الفترات والعهود التي يعاني منها الناس -في أي مكان من العالم- من شظف العيش والتخلف الحضاري والعمراني، والجهل والأمراض، خصوصا أن اليمنيين عانوا من عانوه فيما كان الناس من حولهم يشهدون تطورات متسارعة في كل مجالات الحياة خلال النصف الأول وشطرٍ من النصف الثاني من القرن العشرين.
ومنذ أواخر القرن الثالث الهجري ثمة نماذج سيئة، كرسها الأئمة الزيدون في المناطق التي كانت تقع تحت أيديهم على فترات متقطعة. فقد كانت المذابح وهدم المنازل ومصادرة الأرزاق وفرض الحرمان المعيشي، من العوارض الجانبية المعتادة لانتصار أحد الأئمة أو اتساع نفوذه. ومرد ذلك إلى أن الحكم الذي يضع الأئمة أيديهم عليه، لم يكن يحمل تصورا إيجابيا حول ما ينبغي أن يقدمه الإمام للناس، بل على ما سوف يسلبه منهم، في سياق عملية انتقامية لا تكاد تتوقف من العرب (الأعراب)، وتعبيرا عن الانتصار في معركة استرداد “الحق الإلهي” المزعوم في الحكم الذي “سُلب” من علي ابن أبي طالب (رضي الله عنه) وأبنائه من بعده منذ عهد السقيفة.
إن الطغيان السياسي لمناسبة المولد النبوي بفعل السطوة الحوثية على الناس، أفقد هذه المناسبة الدينية مذاقها الروحي التي اعتاد عليها اليمنيون طيلة قرون طويلة من الزمن. إذ أن بلدهم كان أحد أهم ساحات التصوف على مستوى الوطن العربي، إلى فترة متأخرة من القرن المنصرم، وكانت الطرق الصوفية التقليدية الست: القادرية، والشاذلية، والرفاعية، والمغربية، السهروردية، والنقشبندية، بمثابة ملاذات روحية ومدارس للنشاط العام والتحشيد الاجتماعي، وكان معظم هذه الطرق يكرس الزعامة الروحية للرموز الهاشمية السنية، فتحولت بالنسبة لهم سلطة موازية على الناس تجلب لهم الكثير من المنافع المادية والمعنوية.
وقد انتشرت هذه الطرق في المناطق الغربية والجنوبية والشرقية من البلاد، التي تضم العدد الأكبر من سكان اليمن من معتنقي المذهب الشافعي، واكتسبت نفوذا متزايدا في عهد الدولة الرسولية التي كانت تحكم من مدينة تعز.
وقد شاب الممارسات الصوفية بعض التجاوزات المسيئة للدين الحنيف، لكن لم تتعمد هذه الطرق توسل المولد النبوي للحشد السياسي المباشر، ولم تمس الناس في أرزاقهم وكرامتهم، كما يحدث اليوم في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، بقدر ما عملت بوعي أو بدون وعي إلى تحويل الاحتفالات بالمولد النبوي إلى بهجة اجتماعية يتشاركها الناس دون كلف أو إرهاق.
نقلا عن عربي21