كتابات

حين تشبه الإدانة سمة الظلال التي نلبس، وحلة الضوء الذي نكتسي بالافتراض

حين تشبه الإدانة سمة الظلال التي نلبس، وحلة الضوء الذي نكتسي بالافتراض
حين تشبه الإدانة سمة الظلال التي نلبس، وحلة الضوء الذي نكتسي بالافتراض

النظرة قد لا تكفي لمعرفة التهكم كقيمة مضافة إلى حياتنا. لذا نتهكم كثيرًا في خلواتنا. في الخلاء. في الخيال. نمشي خيلاء التهكم. نركب صهوات خيله. نضيء خلانه. نسير فيه ومن خلاله. نتلصص من خلل ثقوبه وثقابه المشتعل في مجاز الصمت الجارح وانزياح المكتوب على جبين المسافة بين الواقع الحربي الذي نعيشه وبين عطالة افتراض الواقع الطبيعي الذهنية. لعل التهكم المحسوب هنا يكون أجمل في بعده الثقافي مثلما هو أمتع في قصد كل ما هو شعر.

مبرأ بالطبع من سُنةِ القتل العمد. الأول يرفع عن صاحبه شبهة الاختلاط/ ليزيح الزحام والثرثرات عن كاهل الدليل المفرد في ذات المساءات المسربلة كليل امرئ القيس الطويل إذ ينجلي تهكمه وتتناءى صوره وفراغ صحرائه وسراب غده وأمره وخمره. فتتغبش آثار دَمون بدمن كثيرة أخرى ويختلط الحابل بالنابل كما تختلط العشوائية ويلتقي ما قبل المدن كالدارات الحديثة بمحال بيع القات البياض. وهكذا لولا التهكم في القول الذي نجيزه بوعي الذات لسئمتنا شوارع الخراب وسجف الوعي البلاستيكي في علاقته اليومية بالأمل.

بهذا المعنى يغدو التهكم صنعة الشاعر وغناء الفنان واندهاش الشاخص إلى الصورة. والبعل الطائف بشاربه تجاه تهكم رجل آلي يتمطى في أروقة شركة “سامبا” أو يقف شاخصًا في فترينة الزجاج المعشق في – شارع القصر – محدقًا في بيئة البداة والخاطفين وعلاقة ذلك بالمولينكس. وعصارات شراب العظام. كما في جبال السراة.

والتهكم هنا مفهوم سلمي ضد كل شيء بما في ذلك عشبة ظلاله فلا يكاد يلمس المرء منا سوى سعيه المؤنث والحثيث لجعل الانتظار تمثالًا ينافس امرأة آلية تتلقى أوامر من متحكمها. أو صراف آلي يسلح نقودًا من صناديق “بنك التضامن الإسلامي” لصاحبه آل “سعيد” وهكذا طوال اليوم بمجرد باسورد – غير الباسور البشري بالطبع. بينما يصطلي المارة بحرماناتهم وجوعهم الشخصي لكل شيء حتى الجوع.
العابرون في ظهيرة لا ترحم إلى فضلات الطعام. والمساكين ممن لا يسيرون إلى الوظائف. أولئك المهمشون والعاطلون والمهشمة جماجم أحلامهم. في دروب الليل اليمني الطويل والذي لا يكاد ينجلي في ظل هذا النهار العالمي بشبكات دعاراته السياسية وفضاءاته الرقمية والتكنولوجية الواسعة… لا “شبكاته” بالمعنى اليمني: الشبكات بالعامية اليمنية تعني: المصائب.؟!!

ولعل الخفة هنا في اختيار نمط التهكم ذاته في سياق تجربة المبدع وفيه تحتمل مسارات وانزياحات عدة وأثيرة القصد والدلالة. فإذ يصير التهكم هوية لوجود ما أو نمط لعيش وجود ما يشبه غواية الغاية تلك التي لا تبررها سوى مسالك اللغة والريح اللعوب. والتهكم الذي أعنيه عبر تقاطعات ذات أنطولوجية: بمعنى يعطي وجودها الحسي أمثولته في قرار الطريق والمعنى وتهكم الاشتغال على النفي الدائم والإثبات والخسارات غير المحسوبة تلك التي نجنيها كل ثانية جراء اللامبالاة والخيال. حين تشبه الإدانة سمة الظلال التي نلبس، وحلة الضوء الذي نكتسي بالافتراض.

وتمامًا كان سقراط في تهكمه صاحب قرار مصيري حينما أوعز له خيار الشفقة على حياته بالتطهير المعرفي أن يختار العزلة بالتهكم الذاتي أيضًا فآثر الزؤام. وبقي كأسه فارغًا من السم إلا من المعرفة ذاتها والتي لم تخلف موتًا بقدر ما أردته في الأبد. بينا خلف هو معنى الصيرورة لتهكمه الفلسفي كحياة للشاربين سمتها العقل وأفكار التلميذ المجاوزة فلسفة العناصر.

أبو نواس كان دينه وديدنه دنُّه. وشعره تهكمه. والتهكم هنا يعني الاختلاف بمعايير اليوم ومفهوم اللحظة الشعرية التي نضيع فيها الآن بلا غداء. وبلا صلةٍ أو بوصلة… سوى تهكم الجهات بنا/ نيتشه بقي “هكذا……..” لكنه لم يتحدث سوى ما قاله زرادشت من تهكمه على العالم بحرية الرؤى والمفاهيم وكسر حاجز النظم والأفكار والأديان والشرائع القانونية والإلهية. غير أنه بقي نصيرًا لحرية ما ولم يهتم. سوى أنه شدد على ضرورة أن لا يكون له أتباع أو طوافون حول كعبة مائه ونار لغته. ولعنته ربما لدى المناوئين له من فلاسفة وسلفيين وسفلة……

وكذلك كيركجور وحسين مردان والبير قصيري هذا المصري الفرنسي إقامة وهجرة وموتًا وغربة: والمنسي في رحيله الغائب عن وعينا والذي ربما لم يسعفه شعبه حتى بتابوت من تراث صنع فرعوني: الناهضة اليوم بكتاب الموت والجوع والسيد حسني تامر تحتمس وخوفو ومن قرع “يقرع”.

أما عزيز نيسين/ والبردوني/ ومحمدات: الماغوط / ومستجاب/ وشكري/ فلكل تجربته التي تختلف تأليفًا وألفة في التهكم والمغايرة في الكتابة وبأشكال وأساليب ومضامين مختلفة يلتقي جلها في معطى وسمة حداثة خطاب التهكم ذاته التي تقاربه لغة وتجربة كل منهم أكان شكل ذلك حداثيًا أم كلاسيًا/ وفي حين أن تهكم عزيز نيسين في قصصه ورواياته السياسية الساخرة حد الموت من الضحك و”شر البلايا” بالطبع. والساخرة بمتنها السردي وطابعها الحكائي الماتع. جاء بسيطًا وعميقًا وممتنعًا في سهولته. تهكم نيسين يكمن في لغته وأسلوبه إذ يُسقِط بأقنعة شتى سخرية الأقدار على شخصيات وطرق تفكير وأحوال والتباسات معيش الشعوب جراء استبداد السياسيين من حكامها بسطوة وتعاقب ممالك و”جملكيات” الشرق القديم والجديد. وهي سطوة لا تزال ممتدة حتى كثير من ساحات الشهداء في غير بلد متخلف اليوم.

كما لا تزال روعة نيسين حتى اللحظة في غنائه السردي وقصته الشهية رغم مباشرة المعطى التهكمي الذي تستهدفه أبعاد وقصدياتها الفنية البديعة أسلوبًا ولغة تترنح ببهجة الاطلاع وتأمل واقع الحال كأنما هي شعار مرحلة ومتوالية من تهكم الجميع على بعضهم البعض. وفيما هي تلامس بلغتها جراح متلقيها وجموع المكابدين مر وقساوة الظرف وويلات الحروب الحارة الباردة وآثام القطائع المعرفية واحتكار الحياة لأشخاص غدا غياب العدالة والديمقراطية واستبدالهما بحب الاستحواذ على الثروة والتكالب على لجان الفرز وتزوير الانتخاب مهنة حفنة من كائنات السياسة القبلية والرجعية الأتاتوركية الشرقية/ بامتداد عسكرتارياتها وجنرالات مماليكها الجدد هنا وهناك.

ويبقى التعريج ضروريًا على أنماط مشرقة في تأويلات تجارب ريادية بعينها جسدت حالات فارقة في الشعرية العربية، وأيضًا كما في كتابة سرد الاختلاء والكشف والمساررة بشفافية الحلم وتوسيع المساحات الخضراء عبر تدوين السيرة والموهبة الطالعة من أمية التجربة و”الغُلب” الاجتماعي والانصهار والمكابدات. إضافة إلى خفة المفردة في آن، كما نلمس ذلك في صراحة مدونة الراحل المغربي محمد شكري في عمله “الخبز الحافي” تحديدًا، والذي تراه بعض التفسيرات المحتشمة مجرد عمل مراهق. غير أن حالاته الساردة لحرمانات ومكبوت إنساني تؤرخ لمشاهد طفولة مقموعة عانت من أبوية مقيتة ومتطرفة بجهلها.

لقد عمق من تجربة التهكم على ذاكرة جمعوية من خلال خيار حر ومتمرد بأسلوبه، دأب شكري من خلاله على تفكيك حياته عبر علاقته بالأمكنة كما في سياق أعمال أخرى إذ رسم هوية المدن و”الوجوه” التي عاشها، بقدر ما جسد عبورًا يفيض بالمعنى والتهكم الثقافي والمعنوي أيضًا كما في “الشطار” بلغة تعي معنى غيابها في سياق تهكم النظام الأبوي والسياسي كما يطرح المفكر العربي الراحل هشام شرابي في بحثه الثمانيني عن مقاربته البنيوية لـ”السلطة الأبوية: بحث في البنية البطركية في المجتمع العربي”.

وفي السياق أرى قيمة التهكم بالمعنى الشعري مختلفة تمامًا وفاعلة في تجربة محمد الماغوط. فتهكمه الخاص أو الذاتي، مثلًا، يكمن في شعرنته تخييل الواقع والمكان وشعرنة الخيال أيضًا بتماس بروقه وإلتماعته. ومن ثم إحداث موقف جمالي وإنساني عالي الجودة والصورة تحيطه هالة من تراجيديا وميتافيزيقيا نص فارق محمول بقيمة التهكم الشعري الأخاذ بلا حدود. ففي قصيدة الماغوط، مثلًا، تتجلى سيميوطيقا التهكم لديه كما في المقطع التالي بصورته ورؤيته العميقة والمؤثرة معًا، يقول:
لم أر السماء
لكنني رأيت حذاء “عبد الحميد السراج”؟؟؟!!!

وعبد الحميد يتبدى هنا بالطبع كرمز ثقافي للجلاد. والدلالة تفصح عن موهبة بعض النظم الشمولية العرب: قروسطية/ومهارتها في فن التعذيب وبخاصة في حال التعاطي بخشونة وقسوة أيدلوجيا “البعث” من الحياة إلى القبر الجماعي: كما هي أيضًا حالة كربلاء العراق الجديد اليوم، ومثلها “قرى البدو” إلى غير ذلك من تهكم عسكرة الحروب والتقييد: بما في ذلك استهداف ومطاردات كائنات الخيال وملح البحيرات وحداة الكتابة ومروضو الشعر بالقصيدة التي إن أظلم عليها سقف الليل أضاءت لها جنبات الرياح وبرق العتمة. كما يضيء لها ماء الاستعارة. وتضيء لها نجمات جنوب الحزن والماء والجنوب حيث البحر ليس أحمرا. جنوب الجنون. وجنون الجنوب، إذ كل جنوب في العالم يغدو وطنًا للعصافير. وأعشاشًا لطفولة منسية خارج حديقة الثورة. وحيث الشاعر في يده كمنجات معبد ولغة أثيرة ونداءات. فوحده التهكم عالي الصمت والفكرة والنبرة والصورة بآلة الخيال: مؤسسة انحيازه وانزياحه. ووحده الشاعر إذاً. ووحده الصمت من يستطيع الكلام دون أن يجرؤ على إسكاته أحد.

* نشر في العدد الثاني من انزياحات 2010 ضمن ملف قيمة التهكم