كتابات

خلف ظلام المدينة.. وظلام الكتابة الرسمية

كنت أستعيد طوال الوقت تاريخ السخرية المحبطة، وتاريخ الألم، وتاريخ الضحك من أرسطو وبرغسون إلى كونديرا. أستعيد ذلك التأويل المغامر لارتداداتنا، ليس بفعل إبستمولوجي، بل لكي أؤرخ ذاكرة اللحظة التي أثارها السؤال المغامر هنا، أؤرخ لكل أولئك الأبطال المحبطين الذين امتلأت بهم حياتنا وتجاربنا وسيرة نكران – كتمان وجودهم في بيئاتنا الاجتماعية تحت وطأة الدين والسلطة والخوف.. والهرب نحو نماذج أخرى من المضحك المبكي باعتبارها أنماطًا من السواد الذي يلون سخريتنا المرة إزاء كل شيء.

هل أن الضحك وحده قادر على مقاومة الخوف بحسب أمبرتو إيكو؟ أظن أن عبثيتنا التي تخفيها ملامح الشخصية العربية فينا هي المصدر الحي لكل تشويق مؤول نرتكبه في فعل الكتابة.. أو في الارتجال في تلك اللحظات الانتحارية النادرة التي تنطلق فجأة بفعل مؤثر ما للسخرية الرصينة!!.. أو بفعل الامتلاء بقرف الدعابة التي تفجرها فينا خياناتنا ونحن نقول نعم طوال الوقت من المهد إلى اللحد ونرمي إلى غير ذلك..

كنا نقول لاءاتنا طوال سيرة (النعم) تلك في بيئة مظللة من الإلزام والالتزام الفاجعين. إن تغريب الذات في بيئتنا العربية هو تدريب على الفصام منذ الطفولة، فصام النعم – لا.. بل إنه نمط من خلق سياسيين ومفكرين وقادة وخطوط أولى من آباء وأمهات بشر يقودون حياتنا وهم أبناء العادة السرية – ليس إلا وأعني أبناء كل محرم في الممارسة المعتمة.. بل في كل ممارسة: الخطاب.. الإشارة.. أو التعبير وفي القيم أيضًا. إن ثنائية حياتنا هي نبع السخرية المفرطة، إزاء كل سلطة مستبدة من سلطة الأبوة إلى سلطة الآلهة الجديدة في حياتنا اليومية التي يتوج حضورها القانون الوضعي العربي.

أذكر السخرية الرهيبة لطاقة القلب والأبدال، قلب الكلمة، وقلب المعنى. فلقد أنجبت الحروب والقوانين الحزبية والإعلام النمطي والثقافة الرسمية، والسلطة القامعة الحاضرة في كل مفاصل الحياة، طاقات هائلة على إعلان الظاهر المر للموافقة، فيما يخفي الباطن، جوهر كل رفض. وكل سخرية وقد يبدو ذلك المكر الذي تنطوي عليه أنماط السخرية هذه نوعًا من التطهر بحسب برغسون، لكنه نمط من السخرية التي تقوم بإحالة كل أهمية مفتعلة لكل سلطة إلى مرجعيتها المحبطة التي نمارس إزاءها الشطب والإلغاء والاعتراض.

تقدر أن تنسى ولا تقدر أن تضحك، هي عبارة فرجينيا وولف التي تلخص نصنا الناقص وهو يخلو من محذور السخرية.. الناس العاديون في ارتجال كوميديا النهار هم أبطال السخرية المرة العفوية، وتبدو كل كتابة عربية هي كتابة بكماء حين نتخيل أنها نصوص سخرية. إن قمع الوجدان الذي تتعرض له الذات العربية منذ حياة الرضاعة يلغي خواص البهجة والضحك والسخرية، ولذلك لا يعرف الوجه العربي كيف يضحك من حيث التقاسيم أو الإشارة بسبب المنع والخوف من الصفات المناهضة للضحك في مجتمعنا، مثلما تنقمع طاقتنا على السخرية في أي نص مفتوح، حيث يأتي الإبهام الفني، وربما الحداثي أيضًا، ليشطب السخرية لأنها بلا حاضنة في ذواتنا. إن موروثي الشعبي من الأمثلة تتقدمه طائفة من الأمثلة القامعة من نمط (امشي ورا – خلف- اللي يبكيك ولا تمشي ورا – اللي يضحكك) لذلك تعلمت الضحك مثل أبناء جيلي بفعل آخر تصنعه كيمياء أخرى خارج كل متن..

السخرية، كالجنس، هما إعلان لكل تفتيت وكل جدل وكل مناهضة، إنهما تصد وإعاقة ومحو لكل ما هو قسري وممنوع، لذلك غير مسموح أن تفتت السخرية جوهر الدوغما، أو الأيديولوجيا، أو إيديولوجيا الفرض الذي تنطوي عليه العقائد والديانات. مثلما غير مسموح للجنس أن يغير أقنعة المحرّم. السخرية هي قناع التفتيت، ولما كان كل قائم مكرس مقدسًا، فلقد امّحت كل طقوس السخرية التي يمكن للذات المبدعة أن تؤديها.. السخرية مثل الجنس كلاهما مبدد لكل ما هو عام ونمطي في حياة الدولة وحياة الشعب.. فإذا كانت كل تلك التقاطعات في حياة الذات المبدعة قائمة بشكل قسري، لذلك يصير الذهاب إلى ملاذ آخر.. حيث تكون الشخصيات الهامشية، والفصامية، والإباحية المضادة لكل حد وكل ممنوع، ويكون العري الذي يتحدى الجسد المعزل المعتم، وتكون الحقن والحبوب والشراب، والبيئات التي تعارض كل مألوف هي أدوات سخرية الذات المبدعة حين تختار نصها من كل بيئة مقنعة خلف ظلام المدينة.. وظلام الكتابة الرسمية..

* شاعر من العراق مقيم في السويد

  • نشرت في انزياحات ضمن ملف قيمة التهكم 2010