كتابات

أزمة المثقف اليمني في الحرب

 

مثلت الأحزاب السياسية قطيعة ثقافية مع الثقافة التقليدية. وكانت سمة الأحزاب هي الأيديولوجيا كحامل قيم ورؤية للعالم بينما الثقافة التقليدية هي في الجوهر ثقافة مذهب.

كانت حواضن الثقافية التقليدية حصرية وتعكس سلطة اجتماعية ودينية، وفي العادة متوارثة وربما تأسس الصراع الاجتماعي السياسي عليها. بيمنا فتحت الأحزاب الباب لكل الشرائح الاجتماعية في الإنخراط وتأدية أدوار طلائعية وإعادة هندسة الصراع الإجتماعي ومعه السياسي.

ولهذا تشكلت مسافة بين الحزب، سيما الأحزاب اليسارية، والمجتمع التقليدي. لكن المسافة لم تكن واضحة المعالم. إذ هيمنت النخبة التقليدية، وفقاً للثقافة التقليدية، على رأس هرم الأحزاب. وبقت المسافة واضحة المعالم أكثر تجاه السلطة السياسية كسلطة وقوة وليس كرؤية اجتماعية وسياسية. لكن المصالح الإقتصادية والتداخل الاجتماعي بين السلطة والبنى الإجتماعية لم يبقِ على ذلك الاستقطاب لأن الفساد في الممارسة شمل الأحزاب والسلطة وتاهت مشاريع التغيير.

بهتت الأيديولوجيا خصوصاً من منتصف الثمانينات لصالح ازدهار الإسلام السياسي والتيارات الجهادية في مناخ حرب الشيوعية. وبهذا لم تزدهر التجربة الأيدلوجية في اليمن في تصورنا لأنها لم تقطع شوطاً كافياً للنضوج من ناحية ولأنها لم تجد بيئة اجتماعية تستوعب أبعادها التنظيرية الخاصة ببناء المجتمع خصوصاً الايديولوجية اليسارية التي بنت مقاربتها الاجتماعية والسياسية على صراع طبقة العمال وطبقة أرباب العمل، وهذه غير متوفرة بمعناها العملي في اليمن.

كان انحسار اليسار يفسح المجال لعودة التدين، بالتالي عاد الصراع وفقاً للمذهب. وفي ظل المذهب، فإن الخصومة التقليدية لمذهب تقليدي كالزيدية هي الوهابية بينما لا تستشعر الشافعية هذه الخصومة. بالمقابل كانت التيارات اليسارية قد رسمت دائرة فعلها على فصل العالم بين تقدميين ورجعيين وكانت السعودية هي قلب الرجعية في المنطقة في نظرها. كانت اليمن بحكم الموقع الجغرافي ووجود شطرين أحدهما قريب للسعودية حد التبعية والأخر قريب للاتحاد السوفيتي حد التبعية ساحة لصراع بين الأيدلوجيا اليسارية وضدها الديني الذي تزعمته الوهابية. ولهذا تعرض المجتمع لسلفنة كبيرة وقف معها المذهب الزيدي موقف المصدوم فاقد المصلحة.

تشكل في هذه البيئة صراع سياسي اجتماعي مذهبي. وانغمس المثقف في هذه الصراعات. كان المثقف التقدمي ضداً بالتعريف للرجعية أي للسعودية. فلست مثقفاً ما لم تكن تكره السعودية. محلياً قادت السياسية إلى جعل علي محسن القريب من الإسلام السياسي أحد مراكز نفوذ “عسقبلية” نقطة عداء للمثقف ولهذا أنت لست مثقفاً ما لم تهاجَم في علي محسن بحسب تعبير مروان الغفوري.

شهدت البلاد حروباً ستة بين الدولة في عهد صالح والجماعة الحوثية. وكان المثقفون، ليس بالضرورة لتحيزات مذهبية، ولكن كموقف من السلطة، يستشعرون ويستنهضون مظلومية الجماعة الحوثية.
الحرب الراهنة منذ ٢٠١٤ والتي لم يعد الحوثي يهاجم السلطة ولكن يهاجم اليمن محافظة تلو أخرى وصارت السعودية تحاربه ومحلياً إلى جانب عبد ربه ووقف علي محسن يحارب باسم الجمهورية، وضعت المثقف في ورطة.

يتفاعل المثقف وفق مستويات ثلاث هي حدود وعيه: ذاته وخياراته الشخصية، العائلة والتنشئة الاولى واللصيقة، المجتمع والقيود التي فرضها على حركة الفرد. في هذه الحرب، فجر الحوثيون مستوىً اجتماعياً للصراع باعتبارهم تجسيداً لصراع سلالي في اليمن. الحقيقية أن قطاعاً واسعاً من الوسط الثقافي الذي انبثق من الثقافة التقليدية وتسنم مواقعه في العمل الحزبي أو في الاشتغال الثقافي بأنواعه، استعاد سريعاً انتماءه الأولي ما قبل الحزبي وما قبل الدولة، خصوصاً تلك العائلات التي كانت حارسة الثقافة التقليدية. فقد زودت الوسط الثقافي بأعداد كبيرة ممن ورثوا مهنة الشعر والأدب. فوقف بعض المثقفين ممن غلب عليهم وعيهم السلالي إلى جانب الحوثي بطريقة أو بأخرى. نجد بعض الأكاديميين والمثقفين قد انزلق نحو استجرار التوهم الفوقي ومسألة الاصطفاء الإلهي والأحقية في الحكم وجنح إلى استجرار التبريرات المذهبية لتأكيد الولاية.

والبعض الآخر وجد في دخول السعودية هذه الحرب لدعم الرئيس هادي ملاذاً ليدافع من خلاله عن الجماعة الحوثية باعتبارها الجماعة التي تدافع عن الوطن من عدوان خارجي. وهنا اشتعلت حروب الذاكرة وراح المثقف ينبش في الذاكرة الجمعية لتعزيز قناعاته هذه ويؤكد العداء التاريخي السعودي لليمن. أقيمت فعالية فكرية حول حادثة تاريخية مضى عليها قرابة قرن لتؤسس عليها سردية “تاريخانية” في هذه الحرب. تشكلت “جبهة” من مثقفين وادباء باسم الجبهة الثقافية لمواجهة العدوان.

كان هذا المثقف قد انخرط بشكل كبيرة في الثورة الشبابية. لكن اندلاع حرب على أسس اجتماعية جعله يتناقض مع نفسه على الأقل. هو في الحقيقة لم يكن يمتلك دوافع اجتماعية للثورة والتغيير لذا لم تشكل الثقافة رافعة تغيير أو ثورة اجتماعية. هذا لأن الثقافة لا تجعل المثقف ثورياً بالتعريف، كما يقول البردوني، ما لم يمتلك هذا المثقف الأسباب الاجتماعية للثورة.

الوضع الحالي لم يكن أكثر من تشظٍّ إضافيٍ وتهتك للسلم الاجتماعي. لأن أصل هذه الحرب هو انها حرب أهلية ابتدأ فيها العدوان الداخلي على المجتمع وعلى الدولة بينما يعجز المثقف عن تشخيص موضوعي فيوجه نظره الى التدخل الإقليمي ويتغافل الوضع الداخلي.
تورط المثقف غير القادر على مراجعة مواقفه أو فرز الأولويات في أن يدافع عن جماعة تتشدق بالدفاع عن الوطن وتقتل أبناءه أو عن الوقوف في جبهة يتصدرها علي محسن وتقودها السعودية.

كيف يمكن لمثقف أن يتعامى عن النيران التي تصلي أهله في مناطق التماس داخلياً؟ وكيف يمكن لمثقف أن يصمت عن ضحايا الطيران بين المدنيين؟

بعد أربعة أعوام غرق المثقف في الإشاعات والمعلومات المتضاربة لكنه فقد سكينته وقضيته التاريخية التي اعتاد عليها. داهمته المتغيرات ونسفت خطابه وقبل هذا نسفت مقدرات بلاده.

هكذا يمكن تعريف ورطة المثقف في ظل هذه الحرب والذي لم يجد في ايديولوجيا الدولة عموداً صلباً ينصب عليه خيمته.