كتابات

الحوثية سلطة عابرة أم نواة لدولة قوية؟ 

 

تحمل الحركة الحوثية سمات السلطات العابرة التي تسقط بسرعة قياسية بعد أن تكون قد صعدت بشكل صاروخي، كما أنها تحمل صفات الحركات التي أسست أنظمة سياسية قوية ودولاً كبيرة، وأحيانا إمبراطوريات ضخمة. فالحركة الحوثية تمتلك طاقة عنف هائلة، وعقيدة صماء قادرة على خلق نواة صلبة من المتعصبين المتحمسين لقتل من يقف أمامها، وكذلك الموت في سبيلها.

 

إضافة إلى ذلك؛ ليس هناك من قوة معارضة لها قدرت أن تكسرها وتقضي عليها بشكل كامل، وهي الوسيلة الوحيدة للتعامل مع حركة بهذه المواصفات؛ حيث أن من الصعب أنسنة حركة عنيفة مغلقة أيديولوجياً وعصبوياً وتأهيلها كي تصبح جزءً من نظام تشاركي بأي صيغة من الصيغ؛ فحركة من هذا النوع ليس لها إلا أن تحكم منفردة أو أن يتم القضاء عليها بشكل كامل.

 

خلال التاريخ البشري تأسست الإمبراطوريات الضخمة والدول الكبيرة على يد جماعات قليلة العدد ومتخلفة حضارياً عن الدول التي قضت عليها وأقامت على أنقاضها دولها وإمبراطورياتها. هكذا تأسست إمبراطورية المغول، على يد قبيلة حربية صغيرة بزعامة (جنكيز خان) وهكذا تأسست الدولة العربية/الاسلامية على يد “قبيلة” قريش والقبائل العربية الأخرى، وهكذا أيضاً تأسست الامبراطورية العثمانية على يد قبيلة (قايي) التركية. وكذلك الدول السعودية الثلاث من قبل قبائل (نجد) المحاربة.

 

الحوثية في جوهرها حركة دينية قروسطية ذات منبت ريفي، فقد أنشأها حسين الحوثي في جبال محافظة (صعدة) الجبلية والمنعزلة عن الحضارة الإنسانية، وفكرتها الجوهرية تقوم على أن السلطة مصدرها الله يمنحها للسلالة “الفاطمية” (ذرية الحسن والحسين أبناء علي بن أبي طالب) ويختار من بينها (العلم)، والذي يتجسد حاليا في عبدالملك الحوثي، وهو حاكم مطلق أعلى من أي سلطة رسمية. وعبر هذا (العلم) تقام “الدولة الاسلامية الحقيقية” التي تبني المجتمع الإسلامي “الصحيح”، والقادر ايضا على هزيمة القوى “المعادية” للإسلام وعلى رأسها أمريكا وإسرائيل.

 

ورغم أن هذه الفكرة تبدو خرافية وساذجة؛ إلا أنها مصدر الطاقة الروحية للحركة وسر قوتها وتماسكها. وهذا الأمر ليس أمرا استثنائيا وخاصا بالحوثية؛ فالخرافات، الدينية والدنيوية (الشيوعية – النازية) كانت هي الطاقة الروحية التي حفزت الملايين ليضحوا بحياتهم من أجلها، على مر التاريخ، وفي كل المجتمعات. فمعظم البشر لا يمكن أن يستهينوا بقتل أنفسهم وقتل غيرهم من البشر، وفقا لحسابات عقلية صرفة، لكنهم يُقبلون على الموت بحماس شديد من أجل خرافات يؤمنون بها.

 

ووفقا لذلك؛ خلقت الخرافة الحوثية نواتها الصلبة، والتي تتشكل بشكل رئيسي من (الفاطميين) والتي يؤمن أغلبهم بالخرافة الحوثية في عموميتها؛ وخاصة في الشق الذي يشير إلى أنهم سلالة مختارة من الله لحكم المسلمين، والاستحواذ على جزء من ثرواتهم (الخمس). ورغم صغر حجم هذه السلالة من الناحية العددية، إذ أن عدد أفرادها لا يزيد في أحسن الأحوال عن 4% من مجموع سكان اليمن؛ إلا أنهم أقلية فاعلة ومؤثرة بحكم حضورهم السياسي خلال التاريخ اليمني، وإرتفاع مستوى تعليمهم مقارنة ببقية السكان، وانتشارهم الجغرافي ووجودهم النوعي داخل مؤسسات الدولة الرسمية وغير الرسمية.

 

وقد شكل هؤلاء عصب الحركة، حيث اعتمدت عليهم في حروبها المستمرة منذ 2004، وحتى الآن، وساهموا في الانتشار السياسي والعسكري والفكري للحركة خارج مركزها (محافظة صعدة) قبل سيطرتها على صنعاء في ايلول/ سبتمبر 2014. وتولوا شئون إدارة الحركة السياسية والإدارية والعسكرية بعد ذلك. ويتم كل ذلك بحماس وولاء شبه مطلق للحركة، خاصة في المرحلة الحالية، والتي سبقتها.

 

إلى جانب الفاطميين، تمتلك الحركة الحوثية عشرات الألوف، وربما أكثر، من الأنصار المتحمسين لخرافاتها من خارج السلالة، من سكان المناطق القبلية الريفية، ومن مهمشي المدن الأميين ومحدودي التعليم، والذين تم أدلجتهم بفكر الحركة بشكل منهجي منذ كانوا فتيانا، أو صبيانا صغار.

 

ووجود نواة صلبة للحركة، والتي قد لا يصل عدد من يؤمنون بها عشرات الألوف، أو في أفضل الأحوال مئات الألوف، يكفي لتأسيس سلطة قوية وحتى إمبراطورية عظيمة. فالتاريخ يحدثنا بإن نواة صلبة من عشرات الألوف تمكنت من إدارة مئات الألاف، وربما الملايين من الجنود لصالحها.

وهو ما حدث مع الحركة الحوثية، فقد تمكنت من الصمود أمام خصومها والانتصار عليهم رغم كثرة عددهم وعدتهم.

 

 

ومن المتوقع أن تستمر على هذا الحال ما دامت نواتها الصلبة قوية ومتماسكة؛ فمن التجارب التاريخية يكون النجاح حليف الحركات التي تمتلك نواة صلبة متينة حتى وإن كانت قليلة العدد. ولا يتم القضاء عليها، إلا في حال دب الخلاف فيما بينها وتفككت نواتها الصلبة بفعل الزمن، أو الصراع في مستوى القيادة. أو عبر حركة مشابهة لها من حيث التنظيم والتماسك والانغلاق الأيديولوجي (خرافة مضادة). أو من خلال جيوش نظامية محترفة تكافئ الحماس الأيديولوجي لهذه الحركات بحسن التنظيم والإمكانات الحربية والحرفية العسكرية.

 

وحتى الآن، فإن الكفة العسكرية والسياسية تميل لصالح الحركة الحوثية، فهي في أعلى عنفوانها، ونواتها الصلبة سليمة ومتماسكة، ولا وجود لخصم مشابه لها سياسيا وعسكريا. فتنظيم القاعدة أو داعش رغم أن عناصرهم يشبهون الحوثيين، وربما يتفوقون عليهم في طاقة العنف، والحماس لخرافاتهم؛ إلا أنهم دون حاضنة اجتماعية داخلية ومحاربون من العالم الخارجي. كما أنهم لا يمتلكون القدرات السياسية التي يمتلكها الحوثيون. فالعنف الحوثي الموجه لخصومه المحليين أكثر ذكاء من عنف القاعدة النوعي، وبعيد جدا عن العنف العشوائي لداعش. فهو أكثر انضباطا، ويستخدم لتحقيق أهداف سياسية واضحة، ويمارس بشكل منظم في الغالب وعبر خطط مدروسة، ويمكن وصفه بأنه يمارس بغرض الردع والاحتواء، وليس العنف لأجل العنف.

 

وأما عنف الحوثيين ضد العالم الخارجي، وتحديدا ضد الدول التي تدعي أيديولوجيتهم محاربتها (أمريكا وإسرائيل) فإنه منعدم تماما، رغم أن خطاب الحركة، وتحديدا الموجهة لأنصارها في داخل اليمن، يدعي بأنهم في حالة حرب فعلية مع أمريكا وإسرائيل.

 

وعزوف الحركة عن أي نشاط ضد تلك الدول جنبها الرفض الخارجي، وإدراجها ضمن الجماعات الإرهابية، ومنحها القدرة لتسويق نفسها لدى الكثير من الدول الكبرى، وعبر لوبياتها الناعمة المتلبسة ردا الحداثة والتحرر، بأنها تختلف نوعيا عن حركات الإسلام السياسي الأخرى في اليمن، وبأنها حليف موضوعي لتلك الدول في محاربة الجماعات الإرهابية. وقد أدى ذلك إلى تواصل الكثير من الحكومات مع الحوثيين، والتعامل معهم بصفتهم ممثلين للطائفة الزيدية، والقبول باستيعابهم ضمن نظام سياسي تشاركي.

 

وإلى جانب النواة الصلبة، تمتلك الحركة الحوثية ميزة نسبية أخرى تساعدها على التوسع والصمود؛ فهي قادرة على غرف عشرات ألوف المقاتلين من مجتمع حربي صعب المراس، والذي يعد من أكثر الشعوب في العالم عشقا للحرب وحمل السلاح. إلى جانب أنه مجتمع فتي يشهد انفجارا سكانيا هائلا (يتضاعف سكان اليمن كل 25 سنة) ويعاني من الفقر الشديد. يضاف إلى كل ذلك؛ تحصن الحركة الحوثية داخل جبال اليمن الوعرة.

 

في مقابل ما ذكرنا؛ هناك أسباب وجيهة تجعلنا نشير إلى أن الحركة الحوثية تحمل سمات الحركات التي تدمرت في ذروة نشاطها، كداعش، وطالبان، والمهدية في السودان، والقرامطة، وغيرها من الحركات التي انتفخت بسرعة كفقاعة فارغة ثم انفجرت بنفس السرعة.

 

وأهم الأسباب المعيقة لتمدد الحركة الحوثية هو الزمن، والذي يتناقض وطبيعة الحركة؛ فلو أن الحركة أتت قبل 100 عام أو نحو ذلك، لتمكنت من بناء دولة قوية وكبيرة شبيهة بالدولة السعودية الثالثة. ففي ذلك الوقت كان هناك مجال لحركات العنف الدينية كي تتمدد إلى أقصى ما تصل إليه قوتها؛ فلم يكن هناك من حدود سياسية واضحة في المنطقة، وكان المستوى الحضاري والمعرفي لسكان المنطقة متقبل لأفكار قروسطية. أما في عالم اليوم فإن الحركة الحوثية تصطدم بنظام دولي لا يسمح بتجاوز الحدود المعترف بها للدول، ولا يعترف بسهولة لحركات سياسية على النمط الحوثي بأن تسيطر على دولة ما. وفي أحسن الأحوال قد تستمر الحركة الحوثية مسيطرة على أجزاء من اليمن ضمن حالة من العزلة والحصار الإقليمي والدولي، والحرب الدائمة مع الخصوم المحليين وداعميهم الخارجيين.

 

إلى جانب ذلك؛ الفكر السياسي داخل اليمن وفي العالم لا يمكنه القبول بالخرافات الدينية التي يسوغ الحوثي بها حكمه ويقيم عليها سلطته، ومن ذلك الإدعاء بوجود تفويض إلهي لزعيم الحركة، واصطفاء الأقلية الفاطمية بالحكم، والاستئثار بجزء من الثروة العامة، واحتكار الوظيفة العامة والمكانة الاجتماعية والرأسمال الرمزي.

 

وما يجعل من سقوط الحركة أمرا واردا توقع قيام الحركة بخطوات غير مدروسة بفعل تصديق قادة الحركة للخرافة التي اخترعوها؛ فالحركات الدينية، على النمط الحوثي، تتوهم بوجود عناية إلهية ترعاها وتمكنها من النصر لغايات ربانية. وهذا الوهم حين يستحوذ على عقول قادة هذه الحركات تجعلهم يقدمون على أعمال متهورة غير محسوبة، ضنا منهم بأن العناية الإلهية ستنصرهم.

 

وتنتشر هذه الأوهام في الحركات التي حققت انتصارات سهلة وسريعة، كما تم للحوثية، والتي تعزوه إلى تمكين إلهي. وخلال التاريخ الحديث قامت حركات دينية شبيهة بالحوثيين بأعمال متهورة أودت بها رغم أنها كانت في عز قوتها، ومن ذلك؛ إقدام (داعش) على قتل مواطنين غربيين بوسائل بشعة وتصوير تلك الأعمال ونشرها، وقيام القاعدة بهجمات 11 سبتمبر، والتي أدت إلى تدمير الحركة وإخراجها من أفغانستان وقتل زعمائها. ومن المحتمل أن يكرر الحوثيون أخطاء تلك الحركات لتشابه ذهنية قادتها مع ذهنياتهم.