قد تبدو الكتابة عن فتحي أبو النصر ضرباً من المقامرة، فهو الذي قال كل شيء، إذ سبق لجلجامش أن رأى كل شيء. أمام تجربة فتحي أبو النصر، الخاضّة للشعر نقداً وكتابة، يقف أحدنا معزولاً من قدرته على الكلام. لا يترك فتحي فراغاً إلا ويملأه، وما أن تبتعد قريباً عن المكان، حتى يغيب المكان، وكأن الشاعر كان يرمم ثقوب الفراغ. لا شيء سوى الخراب… الخراب الجميل، الذي يهوي بداخلك، فتسكر من لذة الكلمات، ثم تكتشف أنك لم تتذوق الخمرة، وهو القائل:
مهمتنا في الحياة أن «نسد الفراغات» لنكتشف لاحقاً أن الحياة
«فراغات مسدودة» أصلاً
لم أندهش يوماً أمام تجربة كهذه. شاعر مثقف، إنساني، عميق، مخرّب لكل الشعر، شعره وشعر غيره، يحيا دون أي يقين، لا يملك سوى الحب ليحتمل جحيمه الأخضر كما يصفه، الحب والشعر.
بين قراءة شعر أبو النصر، وقراءة شهاداته الشعرية، يشعر أحدنا وكأنه أمام شخص من طابقين، طابق أرضي، تحتاني، ربما هو اللاشعور أيضاً بطريقة ما، حيث يكمن الشعر، الجنون، العبث، اللامعنى، الموت، الاحتراق، الخراب، الحب… وطابق أعلى، رصين، منطقي، متماسك، متوازن، حيث الشاعر المثقف، السياسي، الواعي، وهو اليساري العلماني … كما ينبغي لمن يقترف الكتابة عنه، أن يستعين بعلم النفس أكثر من اللغة وبنيوياتها، أو ربما بعلوم الروح والعرافات، للاستمتاع بقصائد يخرج العفن منها، أو تكون طازجة كالموت، وهو الذي يرى القصيدة كرائحة للجثة.
في اللامعنى، سأستشهد بقصيدة لعبة:
لعبة
الفراغ جسد الدائرة
الدائرة ملبس الفراغ
الفراغ لا يضيع إلا في الدائرة
الدائرة لا توجد إلا في الفراغ
الفراغ ثرثرة الدائرة للدائرة
الدائرة إصغاء الفراغ للفراغ
الفراغ يعرف أنه لا شيء
الدائرة لا تعرف أنها شيء
الدائرة ترتيب الفراغ
الفراغ بعثرة الدائرة
الفراغ كثيراً لا يفترض
الدائرة قليلاً تؤكد
الفراغ كمن تنال
الدائرة كمن يبحث
أما في المعنى، فهو ينحاز بشراسة إلى قصيدة النثر. في مجموعته الأخيرة «موسيقى طعنتني من الخلف« الصادرة في صنعاء سنة 2008، وصدرت طبعتها الثانية في الكويت في العام الحالي 2010:
«البلاد التي في نشرة الأخبار ليست البلاد التي تعيش بوجبة واحدة فقط وهؤلاء العشاق الذين لا يرفعون أصواتهم بالأغاني يشبهون الشعراء الذين لم يكتبوا قصيدة النثر بعد
كلاهما من الأسباب الرئيسية لمعاقبتنا بصور الزعيم المنتشرة في كل مكان«.
لا يكفيه الانحياز لقصيدة النثر، بل وفوق ذلك، يعرّف الشعر في إحدى الحوارات التي أجريت معه بأنه: أشبه بالعطر الذي يكلل الجثة.
في الحوار ذاته، مع محمد الشلفي في جريدة النداء، يتحدث بشراسة عن قصيدة النثر: إن قصيدة النثر تلعن الأبوة كما البنوة، وقد انتزعت بجمالياتها اللامحدودة جسارة الوجود بتفوق، في حين أن ما تحتاجه وما تولده في آن هو تلك الحساسية الشعرية الفائقة، ذات القيمة الشعرية التي يصعب على الضحالة اختراقها.
شاعر مواقف، كما نراه، وما لا يحبه هو التقسيمات والتقييمات، بسبب ميله الأبدي إلى تخريب جميع المنظومات الذهنية الثابتة، لا يحب الفذلكة والشعارات، ليس له حالة ثابتة أو واحدة من الأشياء، لكنه شاعر مواقف، شاعر مثقف، كما نراه، شاعر لا ينخرط في مجموعات، ولا يدخل ضمن أطر وتحديدات… لو أن فتحي أبو النصر، كان يدعى جورج أو ميشيل أو فيليب، كان قد ولد في باريس أو برلين أو زوريخ، لما كان مصير كتابته، هذا المرور العابر، ولكنت أنا وغيري، سمعنا بتجربته ما أن تخرج مجموعته من بيت النشر. ولأنه فتحي العربي، اليمني، سليل رامبو اليمني في بعضه، عليه أن ينتظر، وهو لا يبالي ربما، هانئاً في جهنمه الخضراء، معتاداً على هناءة الألم، ماقتاً ألم الرفاهية، مخرباً كل الأذواق والمعاني والكلمات… لأنه فتحي العربي، فيجب أن تُقتطع كتاباته، وتحذف الرقابة منها ما تريد، إذ حذفت الرقابة هذا المقطع، الوارد في الصفحة الأخيرة من المجموعة ذاتها، والذي لن يُنشر إلا عبر الفيسبوك:
أعوي
ليست الأشياء كما تبدو
[وأهمسُ:
الرب
لا يريد
أن
يفهم
الطرفة والتطرف في شعر أبو النصر
الجرأة وكسر المتوقع، والذهاب إلى اللامألوف، عبر ممارسة حثيثة لكتابة نزقة، مباغتة، مدهشة، إن كان في جزئيتها، أو في هامشيتها، حيث ينقل التفاصيل التي يُعتقد بأنها تافهة، إلى واجهة الكتابة. ففي قصيدة إلى علبة سجائري نكتشف المتعة والتهكم واللؤم والتسلية… قصيدة تعج بالأسماء، كأنها سوق شعبي مزور… ما بين بضاعة أجنبية وأخرى عربية… قصيدة تحمل ملامح بروتون في عبارته الخالدة «طاولة تشريح جانب مقص خياطة»، إذ يخلط فتحي، كعطار مهووس، كل الأسماء الصالحة أو الطالحة، فيأتينا بـ: زوربا، نيتشه، رامبو، بيكيت، غودو، جاكلين سلام، رياض الصالح، جدته مسك، علي مقبل، عماد فؤاد، البابطين، عبد العزيز المقالح….. خليط يبعث على الضحك أحياناً، أو حسب مصطلحه الخاص به، على «العواء»، كتابة فريدة، طريفة أحياناً، ومتطرفة غالباً.
[الشكل والتقسيم
حملت المجموعة، أربعة أقسام، هي: قصائد لا تأبه ـ الممرات (نص مغلوق) ـ موسيقى طعنتني من الخلف ـ بغريزة ذئب وحيد في غابة ضائعة (نص شفاهي).
في قصائد لا تأبه، وردت كتابته على شكل قصائد صغيرة، حملت عنوان الكلمة الأولى من القصيدة كما بعض الأمثلة:
يا
يا كلاب الصيد
يا كلاب الحراسة
نحن الكلاب الضالة
حصتنا
حصتنا من شغف البدايات
هي حصتنا من شغف النهايات كذلك
البيرة
البيرة أنثى سائلة..
ماذا
يعني
أن
تشرب
أنثى
سائلة؟
اليقين
اليقين أن نقطع الشك بالشك
الشاعر
الشاعر يبتسم بعكازين
يعود الشاعر بعد مجموعة من هذه اللقطات، إلى القصائد الطويلة، حيث يتوقف عن عنونة النصوص، ثم يعود مجدداً، إلى طريقته السابقة، أي نصوص قصيرة معنونة المقطع بالكلمة الأولى من القصيدة.
سأنحاز
سأنحاز لقضم وريد عنقكِ بكامل الحنو
حين أصفع مؤخرتكِ وأهديك ورداً متفتحاً
وأراقصك
للقصيدة
للقصيدة مصير أنثى حائرة أمام مراياها
[قولوا معي
قولوا معي
أيها الماء اغتسل مرتين
تحتشد مجموعة أبو النصر بالإهداءات والأسماء، بدءاً من المقدمة، حيث يسوق الشاعر مجموعة كبيرة من أسماء الأصدقاء. وكذلك حملت الكثير من القصائد إهداءات إلى أصدقائه، كما يرد ذكر كم كبير من الشخصيات الفنية والثقافية، العربية والعالمية في قصائده، كفيروز وسركون بولص ومحمود ياسين.
حتى أنه يهدي قصيدة « تقابل» إلى نفسه:
تقابل
إلى فتحي أبو النصر
وقت أرمي يدي إلى الأمام
تكون أنت خلفي
ومع ذلك تتلقفها يدك!
أما العناوين الطويلة، فمن الممتع والمهم ذكر بعضها:
كم كنا ضيوفاً ثقيلين على الحيرة غير القابلة للتأويل
هذا ما حدث أيتها الأغنية الجماعية
بهدوء نتلاشى في لون المخمل
أنا واثق بأنني قد مِتُّ أيتها الظهيرة
كنت قد جلبت لك الوشم لتنطق لكنك لم تنتظر
أنا سركون وأرجوكم ممنوع الإزعاج الآن
من الزاوية يمكنك الإحساس بما لم تشعر به من قبل
اثنان من تآمرا ضدي.. أنا وأنا
ولأنني جغرافيا الطيش وديالكتيك الضجر
وأما في القسم الثاني من المجموعة، الممرات «نص مغلوق» كما وردت قصائد المجموعة الثانية في الكتاب ذاته، فقد لجأ الشاعر إلى ترقيم القصائد من دون عنونة.
وفي القسم الثالث، «موسيقى طعنتني من الخلف» والتي أخذها الشاعر كعنوان المجموعة برمتها، فقد قام أيضاً بترقيم القصائد من دون عنونة، وجاءت في مقاطع طويلة، وبعضها قصير:
الحائط في المسمار
القتيل يثير خوفي والقاتل حميم
أو
بعد موتي.. اتركوا تدابير جنازتي لي!
أو
ارتطم بي فيتهشم الآخر!
في القسم الأخير من المجموعة «بغريزة ذئب وحيد في غابة ضائعة» «نص شفاهي»، فقد قام الشاعر بتقطيع المجموعة إلى كاسيتات، ضمت أحد عشر كاسيتاً.
تجدر الإشارة إلى أن الشاعر فتحي أبو النصر، هو سعيد قائد العريقي، صحافي وناشط في حقوق الإنسان والمجتمع المدني، رئيس تحرير مطبوعة «انزياحات» التي تعنى بإبداعات وقضايا الأدب والفكر والفن، والتي تستحق وقفة خاصة بها، فهي المجلة التي تصدر بطباعة أنيقة، وكتابات طوعية، بتمويل شخصي. هو من مواليد اليمن تعز 1976م. له «نسيانات.. أقل قسوة« إصدارات سلسلة المكتبة الشعرية- اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين مركز عبادي للنشر – صنعاء 2004م
[موسيقى.. طعنتني من الخلف: قصائد ونصوص.
فتحي أبو النصر.
صنعاء – أبريل 2008م.
عن: المستقبل – الاحد 9 كانون الثاني 2011 – العدد 3877 – نوافذ – صفحة 15
****