لا أحد في اليمن لم يهدر فرصاً كانت ستمكنه من قطع مشوار أطول وأسرع في سياق حربه على خصومه.
الخاسر الأبرز هم الحوثيون، فقد امتلكوا كل مخازن سلاح الدولة وعاصمتها ومؤسساتها، ودللهم العالم، ودافعت عنهم المنظمات السرية والعلنية، وصورتهم على أنهم يحاربون السعودية، وما إلى ذلك من تفاصيل لتبرير أفعالهم، غير أن هؤلاء رموا تلك المكاسب في سلة صغيرة رفعت شعاراً دينياً (ولاية علي)، وهذه السلة لن تمكنهم من حكم البلاد مهما بدوا أقوياء في الصورة.
ملأ الحوثي السجون، وأخرج العشرات منها إلى قبورهم، وألغى الصوت الآخر، وقصف المدن وحاصرها، ونشر القناصة ليقتلوا كل ما يدب على الأرض في تعز، واجتاحوا القرى بالصواريخ والمسيرات والمشرفين والقتلة، وفرضوا الجبايات على كل فلس وعلى كل منتج وكل عمل وكل حركة، وحاربوا التعليم، والإعلام، وارتكبوا كل ما أمكن من الجرائم، ثم جاؤوا ليقولوا للناس إنهم يفعلون ذلك تحت شعارات مقدسة مثل شعارهم الولاية لعلي نسبة الى الامام علي. بحسبهم فإن وكيل علي في الأرض هو زعيمهم عبدالملك الحوثي.
مثل هذه الفكرة الصغيرة من الصعب أن تعيش في بلد متعدد مثل اليمن، بلد تشكل كتلته السنية أضعافاً مضاعفة من أصحاب هذه الفكرة، والمكاسب السياسية التي انتزعها اليمنيون طوال 60 عاماً من عمر الثورة على الإمامة لا يمكن تجاوزها ببساطة بفكرة وشعار محدود نفعي لا يبني دولة ولا يطعم خبزاً.
في المقابل، توالت الفرص على الطرف المواجه للحوثي، بدءاً من قيادة التحالف، إلى قيادة الشرعية، والأطراف المنضوية تحت هذه المظلة، لكن ماذا فعلوا بها؟
لنتحدث عن عدن…
تلك المدينة التي قُدر لها أن تحتضن اليمنيين الفارين من بارود الحوثي… هاجمها الحوثي وعاث فيها قتلاً ودماراً وخراباً، ورسم الألم في أزقتها وشواطئها وشوارعها، وشاءت أقدار السياسة أن تتحرر المدينة بتكاتف أطياف أبنائها وبمساندة إماراتية ضمن مظلة التحالف العربي لدعم الشرعية.
خرج الحوثيون من عدن، وكان يفترض أن تمسك عدن زمام البلاد لتكبر بها ومعها، وأن تصبح موطناً كبيراً كعادتها، للمواطنين ورجال الأعمال والسياسة، فهي مهيأة للعب ذلك الدور.
كبرت الأحلام في عدن، لكن الأفكار التي استحوذت عليها قلصتها كما قلّص الحوثي صنعاء.
غادر رجال الأعمال بأموالهم من صنعاء ومناطق الحوثي صوب مواطن أكثر أمنا، منها إلى مأرب برغم أنها لا تصلح لشيء، فلا بحر ولا ميناء ولا مطار ولا منفذ على العالم ولا على اليمن ذاته، مع ذلك خلقت فيها حياة وإن موقتة.
كبرت فصائل السلاح في عدن، وكبرت معها نبرة الكراهية لكل ما هو شمالي، وذلك نتاج تعبئة داخلية وخارجية، ثم ظهرت ملامح كراهية بينية بين أطياف عدن ذاتها.
تغير الواقع، وتغيرت القيادة، وأصبحت عدن موطن مجلس القيادة الذي تشكل في الرياض في أبريل/نيسان الماضي، وتقرر أن تنتقل القيادة الجديدة بقادة فصائلها إلى عدن، لتحظى المدينة بالفرصة الكبيرة الأخرى.
تحتضن عدن المجلس الرئاسي على استحياء، غير أنها تحتضن في معاطف فصائلها العسكرية ما لايشبه الواقع الجديد.
تخاف عدن أن تُسلب حلمها بالعودة كعاصمة للدولة الجنوبية، وتنسى أنها أصبحت عاصمة اليمن جنوباً وشمالاً.
لا تريد عدن أن تكون موطناً للمال الخائف من النهب الحوثي الاستحواذي، ولا تريد أن تكون عاصمة الأحلام الكبيرة التي سلبها الحوثي من عيون كل الحالمين.
يبحث اليمنيون عن موطن لاستثماراتهم في كل دول العالم، وتحرم عدن من كل هذا الثراء، وتغرق بالأفكار الصغيرة التي لا تضيء مصباحاً، ولا تحرك مروحة لتبريد الأجساد المحترقة بجحيم الحر والطقس.
يخيفون عدن من التنوع، وهي التي كبرت به، وترعرعت بين ألوان تلك الفسيفساء المتعددة.
يحاول المجلس الرئاسي اليوم تلمس طريق العودة، وعدن متوجسة، خائفة من نفسها على نفسها، وتعز الحالمة المجاورة تنتظر الأحلام الآتية من عدن، غير أن عدن لم تستوعب بعد أنها الكبيرة التي يراد لها أن تظل صغيرة.
لم تستوعب عدن بعد أنها قادرة على تحقيق أكبر المكاسب من كونها عاصمة اليمن الكبير، وليس من كونها عاصمة مفترضة لدولة يراد لها أن تبدأ من الصفر.
خارطة الأحلام التي يُمني بها السياسيون أبناء عدن تصطدم كل يوم بواقع لا يشبه الخطابات، ولا يشبه ما تريده عدن، فهي الكبيرة بالمسافة بين البندقية وعيون البائسين، والحالمة بالفارق بين سواعد عمال الموانئ وزنود الجنود المتأهبين للاشيء.
يمضي الوقت على عدن، وتجوب الفرص أزقتها للبحث عن عقول تستوعب ما يجب أن تكون عليه، وما زال الأمل قائماً في أن تستيقظ من سبات أحلامها، وتقفز صوب الفرصة الكبيرة، صوب عدن الكبيرة، عدن الجميع.
*مقال للكاتب في الفيسبوك