من السمات المميزة للآداب الخاضعة للهيمنة الأجنبية ميلها الشديد إلى “التقويض” وتأكيد الاختلاف، إذ إن شعوب المستعمرات استخدمت اللغة والكتابة بلغاتها المحلية للرد على المركز الامبراطوري، إذ كانت الإمبراطورية تضع صيغة قياسية للغة الميتروبوليتانية، وتعدها معيارًا للحقيقة مع تهميش جميع الصيغ الأخرى بوصفها لغات بدائية..
في ضوء ذلك نفهم مدى التحدي والاستفزاز الذي مثَّله رد أستاذ الأدب الإنجليزي الساخر على الطالب علي أحمد باكثير حينها أكد هذا الأخير أن اللغة العربية قادرة على إنتاج الشعر المرسل مثلها مثل اللغة الانجليرية فكان الرد من الأستاذ الأنجليزي أن هذا مستحيل. فكان باكثير عند مستوى التحدي..
حينها راح يجتهد لترجمة مسرحية شكسبير “روميو وجوليت” إلى اللغة العربية بالشكل الحديث. وكان يؤرخ بهذه المحاولة الرائدة بداية ميلاد الحداثة الشعرية في اللغة العربية، قد يقول قائل: لكن أين السياسة في هذه الواقعة اللغوية الأدبية الثقافية؟ في الواقع إن احتدام السياسي والسياسة هنا هو أمر بالغ الدلالة إذا ما علمنا أن اللغة هي شديدة الصلة بالسياسة ومشتبكة معها باستمرار ..
يقول المفكر الفرنسي نورمان فيركلو في “الخطاب يوصفة ممارسة اجتماعية” : “إن السياسة تكمن جزئيًّا في هذه الخلافات و الصراعات التي تطير في اللغة وعلى اللغة، إذ أن الوحدات المعجمية الدلالية والتركيبية والبلاغية تُجسِّد مصالح قوى اجتماعية سياسية، فعلى المستوى المعجمي ألمح ميشيل بيشو كثيرًا إلى الصفة الصراعية للكلمات. يقول: “كل الصراع الاجتماعي يمكن أن يتلخص في الصراع من أجل كلمة ضد كلمة أخرى، كما أن السيطرة على اللغة مثلت أحد الملامح الرئيسة للاضطهاد الذي مارسته الإمبراطورية الاستعمارية..
ويمكن لنا أن نقرأ في الواقعة أعلاه جملة من الملامح السياسية:1- قوة الإمبراطورية الإنجليزية التي جعلت لغتها تخصص أساسي ومرغوب في المؤسسات التعليمية في مستعمراتها.2- أن ثمة استاذًا إنجليزيًّا وطالبًا عربيًّا شرقيًّا.3- المنطق الإمبراطوري في رد الأستاذ على الطالب، واعتبار اللغة الإنجليزية وآدابهاهي معيار الحقيقة والصواب، أي وضعها في مرتبة أعلى من جميع اللغات الأخرىبما في ذلك الفرنسية فما بالك بالعربية.4- وبالمقابل شكَّل رد الطالب علي أحمد باكثير ردًّا عمليًّا ورفضًا وتقويضًا ونمطًا مینأنماط المقاومة الوطنية السياسية، وإرادة قوية في أن يكون له صوت مسموع، وهوية مختلفة..
وعلى هذا يمكن الاتفاق مع بيير بورديو في أن “الكلمات والملفوظات لا تمتلك قوتها من ذاتها، بل تأتي السلطة المؤسسية على الخطاب من الخارج، كما أن اللغة تتصل بالهوية، بهوية المتعلم، هوية الذات الناطقة، إذ أن شغل مواقع الذات هو بشكل أساسي مسالة القيام أو عدم القيام بأشياء معينه تماشيًا وحقوق الخطاب وواجبات المعلمين والطلاب، التابع والمتبوع” أي ما يسمح به وينبغي أن يقوله كل واحد منهم وما لا يسمع ولا ينبغي أن يقوله داخل نمط الخطاب ذاك…
إن الذات لها دلالة تشير إلى أن أحد ما يرزح تحت سلطان سلطة سياسية ومن ثم فهو سلبي ومكيف”، ومن السمات المميزة للأدب المتأثر بالاستعمار، المثاقفة أي اللهجنة، بمعنى أنه يتضمن علاقة جدلية بين المنظومات الثقافية للدول المستعمرة وبين المنظومات الثقافية للمجتمعات المحلية المستعمرة، وهذه العملية يسميها إدوارد سعيد بالمثاقة أو التعددية الثقافية..
وهذا ما يمكن رؤيته في نصوص باكتير المختلفة، إذ تنطوي معظم نصوصه على مفاهيم وكلمات ومصطلحات وأفكار وأسماء وأشكال تنتهي إلى مدونات ثقافية غير عربية: إنجليزية، فرنسية، يونانية، لاتينية، دينية، مسيحية. فضلا عن كونه تعلم اللغة الإنجليرية وأتقنها وقام بتدريسها والترجمة والكتابة بها، بالإضافة إلى اللغات الأخرى كالفرنسية والإيطالية، هكذا قد أثمرت هذه اللهجنة الثقافية والسياسة نمطًا مختلفًا من الخطاب الأدبي الثقافي العربي الإسلامي الجديد.واذا حاولنا تتبع النسق السياسي ع في أدب باكثير…
فيمكن لنا رؤية تلك الشبكة الهائلة من التحديات والضغوط السياسية التي واجهها الأديب منذ نشاته الأولى حتى وفاته، تحديات سياسية عالية، وإمبريالية، وتحديات سياسية إقليمية عربية إسلامية، وتحديات سياسية محلية وطنية. هذه الضغوط والتحديات يصعب الفصل بينها في الواقع، إذ هي متداخلة متشابكة في الخطاب والممارسة، إذ بدأ يتفتح وعي باكثير السياسي أوَّل مابدأ على واقع المجتمع المحلي في حضرموت..
واكتسب هذا الوعي صيغة إصلاحية أخلاقية تربوية تمثلت في إصداره مجلة “التهذيب” ودعوته أبناء مجتمعه إلى الإصلاح والتغيير والانفتاح على ثقافة العصر، ونبذ الجمود والتقليد، وقد كان متاثرًا هذه الخطاب بتيار الإصلاح الديني الإسلامي عند محمد عبده وجمال الدين الأفغاني ومحمد رشيد رضا وغيرهم…
————-
* هامش : الدكتور قاسم عبد عوض المحبشي رئيس سابق لقسم الفلسفة ونائبا لعميد كلية الآداب في جامعة عدن .. ..وهو عضو هيئة التدريس في الاكاديمية العربية الدنماركية..واضطر لمغادرة الوطن بسبب التهديد الإرهابي الذي تعرض له واستهدفه في العاصمة عدن .
***
علي احمد باكثير في سطور
***
علي أحمد باكثير
أديب وشاعر يمني
هو علي بن أحمد بن محمد باكثير الكندي (21 ديسمبر 1910 – 10 نوفمبر 1969)، شاعر وكاتب مسرحي وروائي يمني مصري من أصل حضرمي، إندونيسي المولد، ألٌف العديد من المسرحيات الملحمية الشعرية والنثرية أشهرها ملحمة عمر بن الخطاب والروايات التاريخية أشهرها وا إسلاماه، والثائر الأحمر، ومترجم ترجم مسرحية روميو وجولييت. حصل على الكثير من الجوائز منها جائزة الدولة التقديرية الأولى مناصفة مع نجيب محفوظ.
علي أحمد باكثير
،ولد في 15 ذي الحجة 1328 هـ الموافق 21 ديسمبر 1910م، في سورابايا بإندونيسيا لأبوين حضرميين من منطقة حضرموت. وحين بلغ العاشرة من عمره سافر به أبوه إلى حضرموت لينشأ هناك نشأة عربية إسلامية مع إخوته لأبيه فوصل مدينة سيئون بحضرموت في 15 رجب سنة 1338هـ الموافق 5 أبريل 1920م. وهناك تلقى تعليمه في مدرسة النهضة العلمية ودرس علوم العربية والشريعة على يد شيوخ أجلاء منهم عمه الشاعر اللغوي النحوي القاضي محمد بن محمد باكثير كما تلقى علوم الدين أيضا على يد الفقيه محمد بن هادي السقاف وكان من أقران علي باكثير حينها الفقيه واللغوي محمد بن عبد الله السقاف. ظهرت مواهب باكثير مبكراً فنظم الشعر وهو في الثالثة عشرة من عمره، وتولى التدريس في مدرسة النهضة العلمية وتولى إدراتها وهو دون العشرين من عمره.
زواجه
تزوج باكثير مبكراً عام 1346 هـ ولكنه فجع بوفاة زوجته وهي في غضارة الشباب ونضارة الصبا فغادر حضرموت حوالي عام 1931م وتوجه إلى عدن ومنها إلى الصومال والحبشة واستقر زمناً في الحجاز، وفي الحجاز نظم مطولته نظام البردة كما كتب أول عمل مسرحيه شعري له وهو همام أو في بلاد الأحقاف وطبعهما في مصر أول قدومه إليها.
سفره إلى مصر
وصل باكثير إلى مصر سنة 1352 هـ، الموافق 1934 م، والتحق بجامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حالياً) حيث حصل على ليسانس الآداب قسم اللغة الأنجليزية عام 1359 هـ / 1939م، وقد ترجم عام 1936 م أثناء دراسته في الجامعة مسرحية (روميو وجولييت) لشكسبير بالشعر المرسل، وبعدها بعامين -أي عام 1938م – ألّف مسرحيته (أخناتون ونفرتيتي) بالشعر الحر ليكون بذلك رائد هذا النوع من النظم في الأدب العربي. التحق باكثير بعد تخرجه في الجامعة بمعهد التربية للمعلمين وحصل منه على الدبلوم عام 1940م وعمل مدرسا للغة الإنجليزية لمدة أربعة عشر عاما. سافر باكثير إلى فرنسا عام 1954م في بعثة دراسية حرة.بعد انتهاء الدراسة فضّل الإقامة في مصر حيث أحب المجتمع المصري وتفاعل معه فتزوج من عائلة مصرية محافظة، وأصبحت صلته برجال الفكر والأدب وثيقة، من أمثال العقاد وتوفيق الحكيم والمازني ومحب الدين الخطيب ونجيب محفوظ وصالح جودت وغيرهم. وقد قال باكثير في مقابلة مع إذاعة عدن عام 1968 أنه يصنف كثاني كاتب مسرح عربي بعد توفيق الحكيم.
اشتغل باكثير بالتدريس خمسة عشر عاماً منها عشرة أعوام بالمنصورة ثم نُقل إلى القاهرة. وفي سنة 1955م انتقل للعمل في وزارة الثقافة والإرشاد القومي بمصلحة الفنون وقت إنشائها، ثم انتقل إلى قسم الرقابة على المصنفات الفنية وظلَّ يعمل في وزارة الثقافة حتى وفاته.
تزوج باكثير في مصر عام 1943م من سيدة مصرية لها ابنة من زوج سابق، وقد تربّت الإبنة في كنف باكثير الذي لم يرزق بأطفال. وحصل باكثير على الجنسية المصرية بموجب مرسوم ملكي في عام 1371 هـ / 22 أغسطس 1951 م.