كتابات

“سر يونس” رواية اليمنية نور ناجي.. التمثيلات المضادة من التهميش إلى الاندماج

في روايتها (سرّ يونس) تقدم الكاتبة اليمنية نور ناجي تصويرا لافتا للأبكم الذي تخونه الأصوات والألفاظ، فتأخذ مسارات عديدة لتكشف عن نفسه في تأسيسها لعوالم شديدة الخصوصية في ارتباطها بالخيالي والوهمي والعجائبي، وفي انشدادها إلى الصراع المتوهّم الذي تؤسسه هذه الذات، للدخول إلى حيز الوجود والإحساس بالمشاركة، بعيدا عن التهميش والتغييب اللذين يمارسان ضدها. فالأشكالية الأولى التي تقابل الأبكم هي إشكالية التواصل، ويتشكل في إطارها إشكالية الوجود، فهو في كثير من الأحيان ليس إلا طيفا، لا يتمّ الانتباه إليه أو إلى وجوده.

 

وفي حدود هاتين الإشكاليتين يؤسس عالمه، من خلال عالم غير (مرئي) لهذه الشخصيات، يكتسب في إطاره القدرة على تمثيل الآخرين، وتسكينهم تماثلا أو تشابها أو تباينا في هيئات وثيقة الصلة به، وبإحساسه بهم. ففي مقابل الوجود الطيفي أو اللامرئي يؤسس عالمه الذاتي داخل العالم الجمعي من خلال منطلقات خاصة، في إحداثه للذوبان بين الكائنات المحيطة والإنسان، وإزالة الحواجز بينهما، أو من خلال البناءات المصنوعة والمتوهمة للصراع أو للصداقة في إطار قائم على الوهم، وهذا يجعل الرواية منفتحة في حركتها على الثرثرة أو المناجاة الذاتية المرتبطة بتيار الوعي. فالرواية من بدايتها إلى نهايتها منفتحة على سرد تصاعدي بطيء الحركة، ولكنه مشدود إلى سيل المناجاة والتوهمات التي تتشكل أثناء هذه الحركة البطيئة في مدى زمني لا يزيد عن ليلين بينهما نهار.

 

فحديث شخصية الأبكم (يونس) إلى ذاتها، وفي مقاربتها للآخرين، حديث يرتبط بعمق الأزمة الذاتية المرتبطة بالتهميش والتغييب، فهي تمثيلات جانبية غير منجزة، وغير نهائية، لأنها لم تمتحن في ظل وجود تمثيل مقابل أو مباين. فالشخصيات لا تقدم كاملة، فما يقدم لها ليس إلا صورة جانبية، مقطوعة من سياقها، ليس لها تاريخ مؤسس في النص الروائي، هي تمثيلات تخلقها الأزمة، ولا تخلو من ذاتية ممسوسة بوجهة نظر هذا الأبكم، وكأن النص الروائي- بتسليمه منصة السرد- يوجّه نحو قدرته على التمثيل حتى في مقابل الصمت والخرس، فغياب الصوت أو خيانة الحروف، لا تؤدي إلى غياب المعرفة والإدراك، خاصة معرفة التشوهات الحاضرة مع مجمل الشخصيات، فدال الصمت الواقعي يتكشّف عن ثرثرة معرفية، لا تخلو من الكشف والتعرية لكل شخصيات القرية البسيطة، والأخرى التي تأخذ مظاهر أقرب إلى الوظيفة السياسية، فالرواية من خلال استحضار هذا التوجه، قد تاخذ مدى واسعا في القراءة والتلقي للنظم السياسية، خاصة في وجود إشارة إلى الشيخ والعاقل والفقيه، وكلها تؤدي إشارات سياسية داخل نظم القرية الحاكمة.

 

 

فيونس الأبكم- أبله أو عبيط القرية- يمثل حضورا حادا لهذا النموذج داخل القرى بوصفها إطارا صغيرا، يمكن أن يشير إلى سياقات كبرى، فقدرته أو معرفته كامنة في الصمت، تظلّ مختزنة، لكنها- وقوته أي قوة المعرفة- تخرج وتصبح محرضا على الفعل في لحظات مفصلية من الحياة والواقع المعيش. فالنص الروائي نص مهموم بتجليات الحالة أو الشخصية، وتمثيلاتها في رؤيتها للآخرين، لكنه في الوقت ذاته لا يكفّ عن تقديم معرفة إنسانية، تكشف عن جزئيات متوارية من التكوين البشري، وطبيعة العلاقات الإنسانية في تولّدها ونموها. فالنص مهموم بتشيد عالم شديد الخصوصية لهذا النمط البشري الخاص، في سعيه الدائم لنفي المغايرة، وإحداث التشابه والتكيّف، والنص بذلك يمثل محاولة لعقد اتصال مع العالم دون انكسار أو نقصان يشعر أصحاب هذا النمط بالتهميش.

التمثيلات المضادة.

 

 

 

 

 

يتجلى النص الروائي في إطار هيمنة صوت يوسف الأبكم، فهو المتكلم الذي يتحكم في حركة السرد، وآلية مقاربة الشخصيات، فلم يمنح أية شخصية منها مساحة للظهور المباشر بصوتها للتعبير عن نفسها، فالشخصيات سابحة، وكأنها أطياف في عالمه، وقد يكون ذلك رد فعل لحالة التهميش أو حالة عدم الانتباه التي يعانيها وفق منظوره وإحساسه بسلوك الشخصيات معه، فقد ظل وصف (اللامرئي) أو (الطيف) ملازمين لحضوره، مما يؤشر إلى وضعه المهمش والمنبوذ. وقد أتاح له هذا الوجود الطيفي أو اللامرئي أن يكون قريبا من الحدث، فهو يدرك من خلال هذا الاقتراب وعدم الانتباه ما لا يدركه الآخرون، ويختزن أسرار أفراد القرية واحدا واحدا، مما أسس له معرفة خاصة بكل السلوكيات والتشوهات، يقول النص الروائي (لم تجعلني تلك العاهة أشعر بالنقص يوما، على العكس فقد استفدت منها مع جزم سكّان القرية أنني أكثر من نصف أبله).

 

 

وإذا كان موضعه قد أسس في إطار اللامرئي أو الطيفي، فإن المعرفة التي جناها من هذا الوجود، أصبحت مصدرا من مصادر القوة، وإذا كان الحمق أو البله صفتين تطلان معه في حدود النص الروائي، فإنه –انطلاقا من المعرفة التي يختزنها- لا يكفّ عن تقديم تمثيل مضاد للقرية بوصفها كلّا كاملا، من خلال وصفه له (أي قرية حمقاء؟)، أو في قوله (من المؤسف حقّا أنني أتعامل مع مجموعة من الحمقى). فالمعرفة التي يحصلها هي باب القدرة والتعاظم للحركة من سياق التهميش للتجذر في سياق الحضور القوي، فهذه المعرفة تشير- ولو من طرف خفي- إلى أن لكل فرد في العالم عاهته التي قد لا تكون ظاهرة مثل (البكم)، فهي داخلية متوارية تحتاج فقط إلى الكشف عنها، فالرواية من خلال اختزان المعرفة ومراقبة تشوهات الآخرين توجّه نحو نوع من المساواة والتشابه بين الجميع.

ما يقوم به الأبكم في النص نوع من التعرية والكشف المختزنين، لكي يشير إلى عاهات شبيهة بعاهة البكم، يكشف عن ذلك دخوله في نهاية الرواية إلى النسق الكلي، بما يتجاوب معه من القبول، لأن لديه سرّا، يحاول المحافظة عليه مثلهم (قتله للعسكري جابي الزكاة الذي اعتدى على والدته)، فقد انزوى تحت ضغط ذلك داخل حدود النسق المقابل. فالقدرة على التمثيل تأتي من الكشف والتعرية للآخرين، فمن خلال موقعية الهامش وفقدان الفاعلية المباشرة، والارتباط بقوة المعرفة، يقدم النص الروائي تمثيلات مضادة تعرّي المساحات والتراتبات الجاهزة المستقرة، فيتولّد داخل هذا التراتب تعاظم محسوب يعرّي الشكلي الزائف الناصع، ويوجّه نحو شكل من أشكال النقصان المتواري.

 

 

والتعرية المرتبطة بجرح النصاعة الزائفة التي يقدمها النص الروائي، لا تفرّق بين الشخصيات العادية والشخصيات التي تحمل بطبيعة عملها ووجودها نسقا سلطويا، مثل الشيخ أو العاقل أو الفقيه، فشخصيات النص الروائي التي تتشكل في مدى التمثيل في إطار مباين ومقابل للأبكم، تتجلى في مساحة المقاربة، فمن خلال الحركة المراقبة ليلا أو نهارا، تتكشّف الأسرار المتوارية. يشير النص الروائي إلى الفقيه كاشفا عن قوة المعرفة التي تستطيع النفاذ إلى الداخل المشوّه، في قوله (ألا ينظر إلى انعكاس وجهه على سطح الماء أو المرايا، لابد وأنه يملك إحداها، لو دقق بها قليلا عوضا عن تضييع وقته في لفّ عمامته، لأدرك أن ملامح الذئاب تعلو وجهه رغم قسماته الناعمة).

واللافت للنظر أن معظم تمثيلات التعرية في النص الروائي للنسق الناصع اللامع، تأتي مرتبطة بالحيوانات في تعددها، وتعدد سماتها، وهي وثيقة الصلة بالبيئة الخاصة بالإطار المكاني للرواية، فيلمح القارئ تنضيدا لمشابهة بين قسيمين، ومن خلال ذلك تتم عملية التمثيل والزحزحة من البشري إلى الحيواني، فتصبح الرؤية نافذة. فحين يصف مصطفى بأنه مصطفى (ضبيع) نسبة إلى الضبع، فالنص الروائي يضعه في إطار متخيل خاص، يكشف ويعرّي نصاعته الشكلية، ليحيله إلى محددات مختزنة في الذهن، لها سمة الدوران والحركة من عصر إلى عصر، نظرا لاستقرارها في دلالتها التلازمية، يقول النص على لسان الأبكم (رغم غرابة اللقب إلا أنه كان ملائما له بلا شك، قد كانت حركات جسده، وخطواتها قريبة من تحركات حيوان الضبع الآكل للجيف).

 

 

وربما تكون بنية ذهن يوسف الأبكم في تعامله أو تواصله مع الحيوانات، وتشييد مساحة من التداخل بينه وبينها، في إطار فتح مساحة للقبول بدلا من التهميش من أفراد القرية الذين لا ينتبهون إليه، هي الأساس في تمكين هذا التوجه في تمثيل الشخصيات. ففي ذهنه دائما ما تأخذ الشخصيات المجاورة له في حيّز حركته صورا أقرب إلى الحيوانات، إما لارتباطات أو لتداعيات خاصة، أو بسبب ملامح تجذّر هذا التشابه وتقويه، أو بسبب سلوك ما من هذه الشخصيات. يتمّ كل ذلك في إدراك واع لعنصر المشابهة الذي يفتح الباب لعمل المتخيل، ووقوفه جنبا إلى جنب بجوار الواقعي المعيش، وفي ظل نصّ يعلي من ثرثرة الذات وفاعليتها، يصبح هذا المتخيل حضورا أقوى، ويصبح لهذه التمثيلات قوة الوجود الواقعي.

ففي هذه التمثيلات هدم للحواجز من جانب، وتعرية من جانب آخر، فسعد حرامي الذرة يأتي شبيها بالفأر (أخذت أراقب سعد، بفكّه العلوي البارز كفأر حقل)، والشيخ السابق والد الشيخ الآني الممثل لأعلى سلطة في القرية، بعد أن احتجزه ابنه في مساحة خلفية من البيت، وأخذ مكانه، ندرك أن وجوده بين الحياة والموت، وسيلان لعابه، وتكوّم النمل ومخلفاته حوله، أعطت نوعا من المشابهة بينه وبين جمل (صالح) التاجر الرحّال المتنقل من مكان إلى آخر. ومع والدة الأبكم الموزّع بينها بين القبول والرفض والحب والبغض، نراها شبيهة بالنمل أو كبيرة النمل (هل يعقل أن تكون والدتي نملة).

 

 

ولكن التمثيلات اللافتة المنطلقة من المعرفة والوعي في النص الروائي، هي تمثيلات أصحاب السلطة، أو الذين يمثلون السلطة، فالتمثيل المضاد مع أنماط السلطة يتأسس على المعرفة التي تمثل منطلقا أساسيا له، خاصة الفضائحي المتواري، فمع المعرفة يدرك الأبكم ما يخفى عن بعضهم البعض، فهذا الأبكم المتواجد الذي لا يلقي له أحد بالا، يستطيع أن يملك القرية من خلال المعرفة. وتمثل شخصية الفقيه وجودا مهما، لأنها ذراع معبّد لسطوة السلطة السياسية، فمن خلال تبريراته وتسويغاته تحافظ السلطة السياسية على نوع من المنزع الأخلاقي في سلوكها، فالفقيه منوط به إسدال مشروعية للسلوك أو الفعل، فقد قدمت الرواية له صورة مباينة للتصور المثالي، فهو –في منطق النص الروائي- يقوم بعمل يمكن أن يقوم به أي شخص. وهنا يتجلى شيء من نزع القداسة المتعلّق بالسلطة الدينية أو السياسية، يقول النص الروائي عن عمل الفقيه (لكن ربما لا يحتاج المرء للكثير حتى يزاول هذا العمل، عمامة ثقيلة، وبعض الثقة في إلقاء عبارات لا يفهمها المتلقي، ستكون مناسبة جدا، سأكون (ورحى زكية) فقهاء جيدين، لولا عدم امتلاكنا قماشا ثقيلا).

وهناك داخل هذا الكون الروائي شخصيات تنتمي إلى السلطة لا تجدي معها المعرفة، لأن وجهها سافر في الكشف عن طبيعتها غير السوية، وهذه الشخصيات تطلّ- لسفور السوء- متبجحة بلا أسرار، أو لا تلقي بالا لشيوعها بين الناس، مثل شخصية العاقل الذي تكشف الرواية عن وفاته. ولكن من فعل الوفاة تتكشّف الأسرار، فهي ليست وفاة بسبب الوباء، ولكنها عملية قتل من أحد أبنائه. وتبدأ الأسرار التي يدركها الأبكم عن عملية القتل، من خلال عدم الاهتمام بوجوده، والإنصات إلى حديث ابنه (محمد) إلى ذاته، في اتهامه لأخيه (حسن) بالقيام بقتل أبيه. وتفضي- كذلك- عملية الرصد والمراقبة واختزان المعرفة مع المرشح من أبنائه (سلطان) لمنصب العاقل الجديد، عن انتهاكه لكود السلوك القويم مع (رؤوفة) زوجة (مختار) في يوم عزاء والده، مما يؤكد فكرة التعرية للسلطة بشكل مستمر من خلال الأنماط المتوالية.

 

 

وتبلغ أشكال التمثيل الخاصة برموز السلطة السياسية مدى أكثر اتساعا ودلالة، حين يرتبط الأمر برسول خارج حدود القرية، فهذا الرسول المرسل من سلطة أعلى تتعاظم على الرقعة المكانية، يستمد سلطته من الإمام. يتجلى ذلك في العسكري جابي الزكاة وجامعها من أفراد القرية. فمع هذا التمثيل تظهر السلطة بوجهها القبيح، خاصة بعد عملية الانتهاك أو الاغتصاب التي يقوم بها رسول السلطة لوالدة الأبكم في نهاية الرواية، وهذا الفعل أصبح السرّ الذي يجذّر الأبكم داخل النسق العام، فكأن السلطة- أية سلطة- من خلال هذا الفعل تتشكل ملامحها من الانتهاك والاغتصاب المستمرين. وهذا يعيدنا إلى تمثيل الأم المرتبط بالنمل أو ملكة النمل الذي يؤسس لدلالات تتجاوز الحدود المادية للشخصية، تقول الرواية عن العسكري (هل كان يكشّر عن أنياب كبيرة حادة أم أن ضوء الفانوس هو ما عكس عنه هذا الوجه غير الآدمي؟ إن كان هناك من شاهد الشيطان مسبقا، فلن يفرّق بينه وبين من يقف في وسط داري، أي حظ تعيس ذلك الذي حاصرني بين شيطان زائر وملكة نمل؟). فالمشابهة هنا مع الشيطان تتخطى حدود التمثيلات السابقة المرتبطة بالأفراد العاديين الذين يشكّلون من خلال سلوكهم تمثيلا يكشف عن إهمال الأبكم، ويؤسس له وجودا طيفيا، ويتخطّى أيضا التمثيلات المقدمة لأذرع السلطة، مثل الفقيه أو العاقل أو الشيخ.

أشكال التواصل من التهميش للاندماج

المتأمل للشخصيات التي تمّ ذكرها في النص الروائي يدرك أنها كثيرة جدا، ففي الرواية محاولة لإكمال كل عناصر الشكل ومكونات الكون الروائي الخاص بالقرية التي ينتمي إليها الأبكم، بما فيه من نماذج يشكل سلوكها تأطيرا لأنماط جاهزة في كل قرية، بداية من أنماط السلطة مثل الشيخ والعاقل والفقيه والعسكري جابي الزكاة، ومرورا بالجيران والشخصيات العادية التي يبصرها أثناء سيره، وانتهاء بالنماذج التي تمتلك تصورا جاهزا مثل (عواد) بن العم سلمان مجنون القرية، أو (ناجي) المعتزل بالجبل، أو (مقبل) الذي يحاول هتك ستر الأرملة (سميرة) بعد وفاة زوجها (حسّان)، أو (نجود) التي تأثرت بموت أطفالها المتكرّر، فتتواصل مع العالم الآخر للالتقاء بهم ومعرفة الغيب والطالع، أو (ظليم) الأعمى وبنته (قبول)، أو (زكية) الجارة صاحبة الرحى التي يتجاوب صوت رحاها المستمر مع الأصوات المحتبسة داخل الأبكم، فكأن هناك مساحة من التداخل أو وهم التداخل بينهما.

 

 

وقد أدت كثرة الشخصيات، بالإضافة إلى طبيعة المقاربة الجانبية الجزئية المتشكلة عبر وسيط، إلى نتائج ترتبط بالانفصال أكثر من ارتباطها بالاتصال، فالشخصيات في الرواية تأتي في إطار تمثيل جزئي، منقطعة عن تاريخها السابق، ومنقطعة أيضا عن القادم، هي شخصيات وثيقة الصلة بوجهة النظر الآنية أو اللحظية. يكشف كل ذلك عن غياب الحوار بين القسيمين، قسيم المتن الجمعي المهيمن، وقسيم الأبكم المهمش بفرادانيته ووحدانيته. يؤيد ذلك أن الراوي/ الأبكم/ يونس يحاول إسدال تواصله بأشكال مختلفة، حتى مع القارئ، فدائما يلحّ النص الروائي على التواصل المباشر الذي يقضي على أي ملامح اغتراب مع القارئ، مثل قوله (ألم أخبركم بعد عن نجود؟)، وفي جزئية أخرى يقول (“ماذا” ! لا تعرفون “مفتاح”، أمر غريب، إن لم يواتك الحظ لمعرفة مفتاح، فأنت في عداد المغيبين عن القرية). وتتكرّر هذه الجملة بأشكال وتنويعات عديدة، والدور المنوط بها- فوق دورها الأسلوبي- يتمثل في محاولة عقد اتصال ما، فإذا كانت القدرة على تشييد الاتصال مع العالم الواقعي المحيط غير متاحة، فإنها متاحة مع القارئ.

فالذات المهمشة التي تحس بانعزالها وإهمال وجودها من الجميع، لا تعدم أن تجد طريقة تفك بها دائرة الحصار، فهي في مقاربتها للحياة تبتكر سبلا للاندماج وللتواصل، حتى لو كان الإطار المرشح للتواصل أو الاندماج لا يرتبط بالوجود البشري، فالذات تعقد اتصالا مع البئر في بداية الرواية، أي في قمة انعزالها وتهميشها، تقول الرواية (تأكدت من ربط مقبض الدلو في طرف الحبل، ونظرت باعتذار للقاع الساكن قبل أن أشوهه). في إطار التواصل ذاته هناك في النص الروائي محاولة لافتة لعقد التواصل مع الحيوانات المحيطة، ولا يرتبط هذا التواصل بالتمثيلات المقدمة للآخرين، وإنما يرتبط بعقد صلات ذات خصوصية مع بعض الكائنات، مثل التواصل الذي عقده مع الثعلب في بداية النص، ووعده إياه تكفيرا عن قسوته معه بأن يقدم له دجاجة، وصعوبة تحقيق ذلك الوعد بعد مجيء العسكري جابي الزكاة للإمام.

 

 

عملية إسدال التواصل الخاص مع الحيوان تلحّ بوصفها بديلا عن التواصل الطبيعي الذي تعذر خلق مساحة له مع الآخرين بسبب العجمة، وهذا يجعل الطريق مناسبة لعقد هذا الاتصال، وإسدال مساحة من التشابه، فكلاهما- أي الأبكم وحمار نقية العرجاء- لديه عجمة، لا تسمح له بالتواصل الطبيعي، فنجده يقول عنه مساويا بين سلوك كل منهما (وقد لاحظت أن حمار نقية العرجاء يوجه أذنيه نحو الدار). وبعد أن يدخل دار (توفيق) الصلب والخشن مع البشر وزوجته (عزيزة)، ويبصر تحولا مغايرا بين طرفي العلاقة، وميلادا للغول المشابه للغول بداخله، فتوفيق أسفلها، وهي تكيل له الضربات، ويخرج موجها حديثه للحمار ذاته (لن أخبرك بشيء، كان عليك التحلي ببعض الشجاعة حتى تعرف).

وتتمثل آلية التواصل التالية في إعطاء قيمة للمتخيل أو للتوهم الذي تصنعه الذات لنفسها خروجا من الأزمة، وهي بهذا التوجه تغضّ الطرف عن الواقعي الطبيعي، وتعلن انتماءها إلى المتخيل الموهوم، وتوجه حياتها انطلاقا من هذا المتخيل. فالوجود الفردي في ظلّ التهميش يقابله بالضرورة منطلقات تهدهد من شدّة الشعور بالتهميش، ومن حدة الاغتراب. ما يريده الأبكم بكل آليات الاتصال- نتيجة لحالة العزلة والتهميش- تشييد كون خاص، كون يستطيع في إطاره أن يكون البطل والمتحكم في تمثيله للآخرين، والحكم عليهم، وعلى سلوكهم. ما يريده أو يبغيه ليس سوى ترك أثر، أو صناعة سردية تبقى، ويظل لها حضور دوري، (فالأخرس أو الأبكم – في منطق النص الروائي- يمر على الحياة ولا يبقى له أثر سوى عظام مهترئة بلا قصة).

 

 

هذا الوهم المتخيل الذي تستقوي به الذات المهمشة والمعزولة، يتجلى في صناعة صراعات متوهمة مع الحيوانات والبشر، وفي صناعة ارتباطات واندياحات ظنية، مثل صراعه مع الثعلب أو الثعالب، وكأنها داخلة في إطار دائرته ونوعه، أما مع الكلاب فنراه يقول (ألم يكن ركلي لكلاب القرية ممتعا، حتى أصيبت بإحدى الركلات على معدتي). هناك أيضا الصراع المتخيل مع الشخصيات التي تتعامل معه بإهمال في حدود عاهته، مثل صراعه مع (غالب) أثناء اكتشاف الأبكم لرأس ميت تنتمي إلى لحظات سابقة من عمر القرية، بل يمتدّ هذا الصراع إلى تشعبات متتالية متخيلة لإنهاء الخصومة. ويتجلى ذلك – أيضا- في صراعه مع (ياسين) أو مع (ناجي) الرجل الذي اعتزل القرية، وأقام على حافة الجبل (سكناه قمة الجبل لا يعني امتلاكه له، ليس له الحق في منعي، بإمكاني جمع الكثير من الأهالي، والإغارة عليه).

الصراعات المتوهمة القائمة على اندياح المتخيل، هي في الأساس أداة من أدوات الاستقواء التي تستخدمها الذات، للحفاظ على منطلقاتها، فالصراعات المتوهمة توسيع لأفق ضيق تمرّ به الشخصية، ثرثرة الذات التي يغيب صوتها داخلها، فتحاول أن تؤسس من خلال هذه الصراعات المتوهمة أو الأحداث المتخيلة العجائبية استكمالا لوجودها، وتنتصر لحضورها المسجون بالصمت، فكأنه محاولة من محاولات التعويض العديدة التي تقوم بها الذات خروجا من أزمة الصوت أو الأصوات المختزنة، حيث تحدث دويا قريبا من الأذن. ونستطيع في ظل ذلك تفسير الحضور الدوري لصوت (رحى) الجارة زكية التي ليس لديها ما يجعلها تعمل بشكل دائم أو مستمر ليلا ونهارا، وهو صوت يرافقه على الدوام، وكأن هذا الصوت امتداد متداخل يشير إلى أصواته المحبوسة، وآلية جاهزة تشعره بالوجود داخل السياق المعزول عن التواصل معه.

 

 

فالأبكم أو يونس يقيم صراعا بينه وبين (قائد الأعور) والد (زينة) بسبب تداخل ظله مع ظل زينة أثناء سيرها معه ووالدته، ويقيم حكاية للصراع أولا، ويؤسس ثانيا مساحة تقرّبه من الانسجام، ودخول مرحلة المشابهة مع الآخرين. يقول عن صراعه مع والدها (لا أعرف كيف سيتصرف والدها (قائد الأعور) حيال ظلالنا المتلاصقة بهذه الحميمية، حتما سيجنّ، وتثور ثائرته، وربما يندلع بيني وبينه قتال عنيف، لن ينتهى إلا بمصرع أحدنا، أغلب الظن أنه سيكون الضحية).

أما الآلية الأخيرة التي استخدمتها الذات في إسدال التواصل مع العالم الذي يهمش وجودها، فتتمثل في محاولة الذات تجاوز فكرة المراقبة لبناء المعرفة واستيلاد القوة في حدود الاختزان، وحركتها إلى الفاعلية، مثل فاعليته في تخويف (مقبل) بعد طرقه باب (سميرة) أرملة (حسّان)، دون أن يسأل أو يبالي برفضها. والأبكم هنا يرتدي مسوح البطولة للدفاع عن المقهورين، ويأخذ مساحة أكبر من حدوده المادية، فهو أشبه بالمخلص الذي يدرك طبيعة البشر التي تنتصر للقوي، وتؤيده حتى لو كان بعيدا عن الحق، فالأبكم هنا ناصر الضعيف والمرأة المتجذّرة بشكل جاهز في نسق الغواية حتى لو كانت بريئة.

 

 

ويتفرّع عن هذه الآلية الأخيرة توجه آخر، يرتبط بإسدال التوافق والانسجام مع الآخرين المشابهين، وكأنه بوقوفه بجانب هؤلاء الذين يشابهونه في المنزع، يقف بجوار نفسه في أزمته الخاصة بوصفه مهمشا معزولا، ومن ثم يحدث نوع من التجاوب بينه وبين (عزيزة) زوجة توفيق، نتيجة لتشابه ميلاد الغول الداخلي لديهما، فالغول لديه حين يولد يغير موازين القوى ومنطق الأمور، كما ورد في نص الرواية مرات عديدة، أهمها قتله للعسكري جابي الزكاة رسول الإمام، وعندها حين يولد يحدث تغييرا في النسق المؤسس بين الرجل والمرأة، تقول الرواية على لسانه (فقد رأيت في عزيزة كائنا سبق لي معرفته، تحوّلا ليس غريبا عنّي، ربما قابلته من قبل، أو أني أحمل جزءا من انعكاسه لوجهي مثلا).

وقد يحدث تأسيس هذا التجاوب بشكل لافت مع المشابهين، خاصة هؤلاء الذين لم يتعاملوا معه على أنه ذو عاهة تحبس صوته، مثل (صالح) أو (زينة) أو (والدته) التي يعقد معها تصالحا أبديا بعد حادثة اعتداء العسكري، تقول الرواية ( كان صالح- التاجر الرحّال- الوحيد عدا والدتي الذي لم يجدني أبلها، تنبّه لنباهتي، وفتح كل قلوبه لي بمنتهى الثقة). باستحضار كل الآليات التي استخدمتها الذات المتحكمة في حركة السرد لصناعة كون يجعلها شبيهة بالآخرين، يمكن الإشارة إلى أن الرواية-بعيدا عن الدلالات السياسية التي يمكن أن تكون حاضرة- تمثل مسارا للحركة من الإهمال والتهميش إلى القبول والانسجام، من اكتساب المعرفة المرتبطة بالوعي بالسياق والأسرار التي يدركها ويختزنها لحظة الحاجة إليها، خاصة بعد حادثة العسكري مع والدته، إلى المشابهة مع الكل المهيمن، فقد أصبح له سرّ مثلهم، فهي رواية البحث عن طريق أو طرق، للوصول إلى المشابهة والاندماج.

 

* (من جريدة القدس العربي)