كتابات

شكر وتقدير لعاشق اليمن الأصيل الدكتور والعالم المصري الكبير د. أحمد القصير 

الدكتور أحمد القصير هو شخصية فريدة من نوعها، مصرية الأصل ولكنه عاشق لليمن حتى العظم. تعد إسهاماته في الثقافة والسياسة اليمنية مرجعية لا غنى عنها لكل من يهتم بتطور المجتمع اليمني الحديث. لم يكن الدكتور القصير مجرد أكاديمي أو مؤلف لكتب قيمة، بل كان مشاركا فعليا في صياغة وتطوير الفكر الاشتراكي والسياسي في اليمن، وخاصة في الجنوب .

الخلفية الأكاديمية والسياسية

بداية اهتمام الدكتور أحمد القصير بالشأن اليمني عندما كان يدرس الثانويه في أحد مدارس الجيزة مع بعض طلاب البعثة اليمنية التي درست في مصر نهاية الخمسينيات حيث زامل الدكتور أبوبكر السقاف والأستاذ خالد فضل منصور الذي فيما بعد تولى منصب وزير العدل في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وكذلك زامل الاستاذ عمر الجاوي والروائي الراحل محمد عبد الولي

 

بدأت علاقة الدكتور أحمد القصير باليمن من خلال دراسته للتجربة الاشتراكية في جنوب اليمن بعد الاستقلال عن الاستعمار البريطاني في عام 1967. قدم تحليلات نقدية ودراسات تقييمية لهذه الفترة، مستعرضا السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تبنتها الجبهة القومية والقيادات الاشتراكية في اليمن الجنوبي. قدم القصير رؤى نقدية لأداء النظام الاشتراكي ودوره في إعادة هيكلة الدولة والمجتمع، مؤكداً أن هذه التجربة كانت فريدة من نوعها في المنطقة العربية على الرغم من التحديات الكبيرة التي واجهتها.

إسهاماته في اليمن: الحب والتفاني

لقد كان الدكتور القصير مفتونا بتجربة اليمن الفريدة وملتزماً بتقديم كل ما يستطيع لدعم هذا البلد. تجلى حبه لليمن ليس فقط في كتاباته الأكاديمية والثقافية والاجتماعية والسياسية، بل أيضاً في دعمه الشخصي والمعنوي للعديد من المبادرات المعرفية والتنموية. كان مؤمناً بأهمية التعليم والثقافة في دفع عجلة التنمية في اليمن، وخاصة من خلال نشر الوعي بأهمية الاشتراكية كمفهوم للتوزيع العادل للموارد وتقوية البنية التحتية للدولة الحديثة.

ألف القصير العديد من الكتب التي تشكل اليوم مرجعيات هامة لكل من يريد دراسة التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في اليمن. كتابه “الهجرة والتنمية” يعد من أبرز أعماله، حيث استعرض فيه العلاقة المعقدة بين الهجرة والتطور في اليمن ودورها في تشكيل الهويات الجديدة وتحفيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

“التحديث في اليمن”: الكتاب الذي لا غنى عنه

في كتابه “التحديث في اليمن”، قدم الدكتور أحمد القصير تحليلاً شاملاً لعملية التحديث التي شهدها اليمن في العقود الماضية. تناول الكتاب التحديات التي تواجه الدولة في سعيها لتحديث بنيتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وأبرز دور الهجرة في تشكيل الهوية اليمنية الجديدة. يركز الكتاب على التداخل بين الدولة والقبيلة، وهو موضوع حساس ومعقد، حيث يحاول الدكتور القصير تسليط الضوء على كيفية تأثير البنى القبلية على الدولة والعكس بالعكس.

دوره في دعم التجربة الاشتراكية

لقد كان الدكتور القصير من أبرز الداعمين للتجربة الاشتراكية في اليمن. لقد رأى في هذه التجربة فرصة لبناء دولة قوية ومستقلة تعتمد على العدل والمساواة. وعلى الرغم من أن هذه التجربة واجهت العديد من التحديات، بما في ذلك الصراعات الداخلية والضغوط الخارجية، فإن الدكتور القصير ظل مؤمناً بأهمية الفكرة الاشتراكية ودورها في تحقيق التنمية الشاملة في اليمن.

إرثه المستدام

لقد ترك الدكتور أحمد القصير إرثا كبيرا لليمن والعالم العربي. لم يكن مجرد مؤرخ أو أكاديمي، بل كان ناشطا ومفكرا ملتزما بتطوير الفكر السياسي والاقتصادي في المنطقة. أثره يمكن رؤيته اليوم في العديد من المبادرات الثقافية والتعليمية التي تحاول بناء مجتمع يمني حديث يقوم على العدالة والمساواة.
مرة طالب شاعر اليمن الكبير الأستاذ الشاعر عبد الله البردوني بمنحه الجنسية اليمنية.
إن شكر الدكتور القصير لا يمكن أن يكون بكلمات فقط، بل يجب أن يكون بالتزام مستمر بتطوير اليمن والحفاظ على إرثه الفكري والإنساني. إن إسهاماته تعد نموذجا يحتذى به في تقديم العلم والمعرفة كوسيلة لتحقيق التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.
عني لم أرى مثله في عشق اليمن، كان عشقا خالصا يتجاوز الحدود، كأنما اليمن قد استقر في قلبه وروحه. لم يكن مجرد مفكر أو باحث، بل كان عاشقاً بكل ما تحمله الكلمة من معنى، يُهدي علمه وفكره لهذا الوطن كما يُهدي العاشق قلبه لحبيبته.
لذا تتشرف انزياحات بالتذكير بدراسته القيمة التي ارتأينا إعادة نشرها اليوم لما فيها من غوص جوهري وحفر معرفي جاد في الأنماط الثقافية والاجتماعية وحتى الأنماط السياسية اليمنية نقلا عن مجلة أدب ونقد كتحية إلى هذا الشكر والتقدير لروح الأصيل الدكتور والعالم المصري الكبير د . أحمد القصير .

ــــــــــــــــ
الأدب والوعي الاجتماعي في اليمن
د. أحمد القصير
1- مدخل

تناولت معظم الأعمال الأدبية اليمنية التي جري كتابتها خلال الربع الثالث من القرن العشرين تطورات الأوضاع الاجتماعية في اليمن على نحو لم تستطع أن تقدمه الدراسات الاجتماعية في الجامعات اليمنية منذ إنشائها حتى الآن. ويلاحظ أن الدراسات الاجتماعية في اليمن تواجه أوضـاعا جعلتها تبتعد بدرجة أو أخرى عن كثير من القضايا الجوهرية. ويأتي في مقدمة تلك الأوضاع افتقار المناخ العلمي الثقافي إلى كثير من العناصر الأساسية. ويدفع ذلك المناخ الدراسات الاجتماعية إلي الابتعاد عن قضايا معينة ومن بينها قضايا التاريخ الاجتماعي لليمن الحديث. ولا يتم عادة الاقتراب من تلك القضايا إلا فيما ندر وبأساليب بحث تتسم بالسطحية والعقم. كما أن ارتباط التاريخ الاجتماعي لليمن الحديث بشكل أو آخر ببعض أشكال الصراع الاجتماعي والمذهبي الموروثة من عهد الإمامة قد جعل الباحثين عامة والمتخصصين في علم الاجتمـاع بوجه خاص يؤثرون السلامة ويبتعدون عن تناول مثل هذه القضايا التي تبدو شائكة. ويمكن أن نضيف إلى الأسباب السابقة بشأن تجاهل البحث العلمي للتاريخ الاجتمـاعي لليمن الحديث عاملا آخر. ويتمثل هذا العامل في حالة الازدواجية الثقافية التي تسود بين أعداد كبيرة من أساتذة الجامعة بشكل خاص وبين بعض المثقفين اليمنيين. وهي ازدواجية تسبب لهم درجة ليست بسيطة من الارتباك الفكري.
وغني عن القول بأن التشوه الذي يتسم به نمط التحديث الراهن في اليمـن يسهم في تعميق تلك الازدواجية الثقافية. فإن السياق العام للتحديث الراهن يؤدي إلى استمرار ضعف الطبقة الوسطي والجماعات المهنية على كافة المستويات. وهـو ما يجعلها عاجزة عن نشر ثقافتها الخاصة. ويلاحظ أن نسبة ليست قليلة من المهنيين ومن المنتمين إلي الطبقة الوسطي يتبنون بعض جوانب ثقافة الجماعات التقليدية القبلية. ومن هنا تصاب التوجهات العامة للطبقة الوسطي والجماعات الاجتماعية القريبة منها بالارتباك والقصور. وينطبق ذلك علي جماعات مختلفة من بينها أساتذة الجامعات. وتفضي هذه الأوضاع، في نهاية المطاف، إلى إصابة النسق العام للقيم الاجتماعية بالتشوش والاهتزاز.
إن بعض الدراسات التي تعرضت للتاريخ الاجتماعي قد قدمته في شكل يجعل الوقائع الاجتماعية تبدو وكأنها خارج نطاق التاريخ. وبكلمات أخرى فإنه في ظل المنهج الخاطئ لتلك الدراسـات نجد الظواهر الاجتماعية المتولدة عن “سياق تاريخي اجتماعي محدد تتحول إلى ما يشبه الأساطير. فالظواهر التي تولدت بفعل عوامل اجتماعية وتاريخية محددة تختلط بتصورات غير واقعية تجعل منها لغزا غير قابل للإدراك” (أحمد القصير، شرخ في بنية الوهم: الهجرة والتحول في اليمن، ص 14). وفي مثل ذلك الوضع تعتبر الأعمال الأدبية في كثير من الأحيان من المصادر الأكثر واقعية في تناول القضايا المتعلقة بالتـاريخ الاجتماعي لليمن الحديث. ويعني ذلك أننا نستطيع التعرف على بعض جوانب التاريخ الاجتماعي عن طريق الكتابات الأدبية وليس عن طريق الدراسات الاجتماعية التي تبدو عاجزة إن لم تكن غائبة. ويمكن القول، دون أي مبالغة، أن الأعمال الأدبية تعتبر من المصادر الهامة التي تعين على التعرف على قضايا التاريخ الاجتماعي الحديث؛ فهي تساعد، على سبيل المثال، على وضع خريطة بالموضوعـات التي ينبغي أن تتناولها الدراسات الاجتماعية إذا أرادت أن تتجه إلى تناول التاريخ الاجتماعي لليمن في العصر الحديث. كما لا يمكن لأي متخصص في علم الاجتماع أو التاريخ أو الفلسفة أن يتغاضى عما قدمته الأعمال الأدبية حول قضايا التطور الاجتماعي الثقافي في اليمن. وفضلا عن ذلك فإن بعض الكتابات السياسية التي ظهرت قبل نِشأة الجامعات ومراكز البحث في اليمن يمكن أن تساعد هي الأخرى في وضع تلك الخريطة. فقد تناولت بعض تلك الكتابات قضايا هامة تتعلق بالتاريخ الاجتماعي. غير أن مراكز البحوث والجامعـات لا تلتفت كثيرا إلى تلك الأعمال. ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى ما كتبه أحمد محمد نعمان في عام 1938 بعنوان “الأنة الأولى”. وإلى كتابات محمد أحمد نعمان ومن بينها كتيب “الأطـراف المعنيـة” الصادر عام 1965 وتناول فيه بعض الجوانب السياسية والاجتماعية في عهد الإمامة والتي استمر تأثيرها إلى ما بعد ثورة 26 سبتمبر 1962.2 – مدينة عدن والتطورات الجديدة:

كانت مدينة عدن هي التي شهدت بداية عمليات التحديث وما ترتب على ذلك من ظهور شرائح اجتماعية جديدة وثقافة يمنية حديثة أخذت تنتشر بدرجة أو بأخرى في بقية أنحاء مناطق اليمن. ويعود هذا الدور الذي انفردت به عدن إلى أنها كانت المدينة اليمنية الوحيدة التي شكلت مركزا يجذب الهجرة الداخلية من مختلف أنحاء اليمن. وقد شكلت بالفعل سوقا فريدا للعمالة المتدفقة من مناطق الداخل. بل وجذبت أيضا بسبب وجود قوات الاحتلال البريطاني عمالة من الصومال ومن الهند (أنظر في هذا الصدد: R..J. Gavin. Aden Under British Rule ). وقد انصهر المواطنون اليمنيون الذين وفدوا إليها. ونتج عن ذلك ظهور ملامح شخصية يمنية جديدة. وعلاوة على كل ذلك شكلت عدن نقطة انطلاق لانتقال اليمنيين وهجرتهم إلى البلدان الخارجيـة.
باختصار كانت عدن موطن التحديث في اليمن حيث ظهرت مؤسسات المجتمع المدني. فقد تأسست فيها الجمعيات الأهلية والنوادي التي يتجمع فيها أبناء القرى الذين وفدوا إلى المدينة. كما ظهرت فيها النقابات والصحافة والأحزاب السياسية بما في ذلك الصحافة والأحزاب المعارضة للإمامة.. كانت عدن مسرحا شهد ظواهر جديدة ترتبت على بروز شرائح اجتماعية لم يعرفها اليمن من قبل. وكان النشاط والتنافس الاستعماري في منطقة القرن الأفريقي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر قد أدى إلى زيادة الأهمية الاستراتيجية لميناء عدن. كما أفضت عدة عوامل إلى وجود تطورات نوعية جديدة. وشملت تلك العوامل اتساع دائرة النشاط الاقتصادي في المدينة، وظهور الشركات، وزيادة حركة العمل في الميناء، وتدفق العمالة الرخيصة من مناطق الداخل. ونتج عن التطورات الجديدة ظهور مؤسسات من نوع جديد مثل النقابات العمالية ومثل غرفة عدن التجارية التي تأسست في عام 1886. ولم يكن غريبا أن تشهد عدن ظواهر نوعية جديدة أخرى مثل البطالة، والإضرابات، والمظاهرات.
لذلك تعتبر عدن نقطة محورية في دراسة التاريخ الاجتماعي الحديث لليمن. وهو ما يدعو إلى دراسة الظواهر الاجتماعية التي شكلت خلفية لذلك التطور التاريخي. ويعني ذلك بدوره أن هناك ضرورة إلى إلقاء الضوء علي المؤسسات الاجتماعية الجديدة والثقافة الحديثة التي نشأت بفعل تلك التطورات التي لم يعرفها اليمن من قبل. فقد تحولت عدن بعد احتلالها من قبل بريطانيا في عام 1839 إلى مركز جذب سكاني من خارج اليمن أيضا. وأصبحت خلال النصف الثاني للقرن التاسع عشر مركزا يصل اليمن بالعالم الخارجي ومصدرا يعرف اليمنيون من خلاله ذلك العالم. غير أن الأمر الأكثر أهمية هو أن هذه المدينة سرعان ما تحولت إلى مركز يتجمع فيه أبناء مختلف مناطق اليمن لينصهر الجميع في كيان اجتماعي ثقافي يتسم بالطابع الحضري. وترتب على هذه العملية بروز ملامح شخصية يمنية حضرية. وهي شخصية جديدة تخلصت من الانتماء القبلي والنزعة القبلية. لذلك لم تكن مصادفة أن تتواجد عدن بشكل مكثف في الأدب اليمني الحديث حتى عندما يتناول هذا الأدب أوضاع القرية اليمنية. وقد امتدت بعض عناصر تلك الثقافة الجديدة إلى قري الداخل التي وفد منها المهاجرون إلى المدينة سواء بغرض الدراسة أو العمل أو الهجرة إلى الخارج. وفي تلك القرى بدأ السكان يعرفون شيئا عن العالم الخارجي نتيجة الصلة التي خلقها تواجد أقاربهم في مدينة عدن أو في الخارج. لقد ألغت عدن بدرجة أو بأخرى جدار العزلة بين مختلف مناطق اليمن، وأتاحت فرصة الحراك الاجتماعي الأفقي والرأسي من جانب والتفاعل الاجتماعي بين أبناء تلك المناطق من جانب آخر. وهو ما أتاح أن تنشأ ملامح شخصية يمنية حضرية غير قبلية تحمل ثقافة جديدة. وتمثل هذه العملية تحولا جذريا في التاريخ الاجتماعي حتى وإن كانت الشخصية الجديدة لا تشكل سوى أقلية بين سكان اليمن. لكن يجب التنويه بأن سكان المناطق القبلية يشكلون بدورهم أقلية أيضا. كما لا يمكن أن نتجاهل أن عدن كانت تعتبر نموذجا للتحديث الذي تتطلع إليه نسبة ليست قليلة من السكان.
بالإضافة إلى التطورات السابقة بدأت تظهر في مناطق عديدة من اليمن تأثيرات عدن الاجتماعية والثقافية. فقد برزت نوعية جديدة من الأدب الشفهي خاصة على لسان المرأة التي غاب عنها زوجها سنوات طويلة ولا تعلم إن كان سيعود أم لا. كما عبرت بعض الأغاني عن هموم المرأة ومعاناتها. وعلاوة على ذلك عبرت بعض الأغاني عن المكانة التي أخذت تحتلها عدن في وجدان اليمنيين. ومثال ذلك أغنية أبو بكر سالم بلفقيه التي يتطلع الإنسان اليمني من خلال كلماتها إلى عدن حيث الكيان الاجتماعي الثقافي الجديد. وتقول بدايات تلك الأغنية:
يا طائرة طيري علي بندر عـدن
زاد الهوى زاد النوى زاد الشجنتعبر الكلمات السابقة عن اشتياق أحد الذين غابوا عن المدينـة للعـودة سريعا إليها. لكنها تعبر أيضا عن نظرة جماعات عديدة. وتشمل هذه الجماعـات الذين غابوا عنها لفترة من الزمـن، والذين يقيمـون في الداخل ولهم فيها أزواج وأخـوة وآبـاء وأقـارب، والذين ينتظرون في القرى أخبار الأقارب المغتربين في الخارج. كما تشمل الأسر في القرى التي تنتظـر الجمّال الذي يأتي حاملا الرسائل والملابس والأموال التي يرسلها أقاربهم العاملون في عدن أو في الخارج عن طريق وكلاء المغتربين. وكان الأهالي يستخدمون تلك الأموال في تسديد الضرائب، ودفع الإتاوات للشيخ وللعساكر، وتغطية العجز في نفقات المعيشة في القرى حسبما ورد في بعض الأعمال الأدبية.

2/1 – عدن والطبقات الاجتماعية الجديدة:

ظلت معظم الدراسات اليمنية حول تركيبة المجتمع اليمني حتى في الربع الأخير من القرن العشرين تتحدث عن فئات ولا تتحدث عن طبقات باستثناء دراسة سلطان أحمد عمر. ولكن ظهرت بعد ذلك في ثمانينات وتسعينات القرن العشرين دراسات هامة أكثر شمولا وعمقا تجاوزت ذلك القصور الذي سيطر علي الدراسات الاجتماعية عن اليمن. ومن أهم هذه الدراسات الجديدة رسالة دكتوراه باللغة الفرنسية أعدتها ثائرة شعلان عام 1993 بعنوان “التداخل بين مفهومي الطبقة والفئة الاجتماعية في المجتمع اليمني”.
يلاحظ أن معظم الدراسات الاجتماعية لم تتناول الأوضاع الاجتماعية في اليمن الطبيعي الذي يغطى كافة مناطقه. وبالتالي لم يتم تناول ما هو مشترك وما هو متباين في تطور مختلف المناطق إلا في حالات نادرة. وعلى العكس من ذلك نجد أن الأحداث في الأعمال الأدبية تجرى في كافة مناطق اليمن وفي مقدمتها عدن وتعز وصنعاء في آن واحد. أي تجري في مختلف مناطق اليمن الطبيعي وفقا للتعبير الذي استخدمته الحركة الطلابية اليمنية في مصر عام 1956. كما تنتمي الشخصيات في تلك الأعمال الأدبية إلي مختلف مناطق اليمن وإن كان معظمها يرتبط بالمناطق الأكثر قربا من عدن مثل تعز. وعلاوة على ذلك فإن الحديث في تلك الأعمال الأدبية يدور حول طبقات وشرائح اجتماعية ولا يقتصر على الجماعات التقليدية في المجتمع. فقد تناولت الأعمال الأدبية من قصة وشعر وأغاني موضوعات عديدة شملت الحياة الاجتماعية في القرى، والأوضاع السياسية، والاحتلال البريطاني، والحياة الاجتماعية للعمال في بلدان المهجر، والحياة في عدن، والبطالة، وفصل الشركات للعمال، والظواهر الجديدة مثل الإضرابات والمظاهرات في المدينة. ولا “تظاهر في اليمن إلا في عدن” حسبما جاء في رواية “زهرة البن” التي صدرت عام 1998 (على محمد زيد، زهرة البن، صفحة 262). ويشير ما تم استعراضه آنفا إلى أن الاطلاع على الأعمال الأدبية يساعد على رؤية الواقع الاجتماعي على نحو أفضل مما قامت به معظم الدراسات الاجتماعية.

3 – تعبير الأدب عن الحياة الاجتماعية:

3/1 – الرأي الفردي بدلا من الرأي الجمعي:

توضح بعض الأعمال الأدبية التي جرى كتابتها خلال العقود الأولى من النصف الثاني للقرن العشرين بروز الرأي والنزعة الفردية بين السكان الذين انتقلوا للعيش والعمل في مدينة عدن. وعلى سبيل المثال يتضح من إحدى الروايات أن انتقال الإنسان للعمل والعيش في المدينة يؤدي إلى ظهور الشخصية الحضرية وبروز الرأي الفردي والتخلص من الرأي الجمعي. ففي رواية محمد أحمد عبد الولي”صنعاء مدينة مفتوحة” تحكي الشخصية الرئيسية في الرواية العائدة من عدن لقضاء بعض الوقت في قريتها عن عدم توافقها مع حياة القرية وعن تناقض سلوكها مع أنماط السلوك السائدة بين الأهالي. ومن بين الكلمات التي جاءت في ذلك الحديث وتشير إلى عدم التوافق ما يلي: “قال البعض أن حياتي المستمرة في المدينة جعلتني أكثر تمسكا برأي من أن أوافق على رأي أهل القرية” (محمد أحمد عبد الولي، صنعاء مدينة مفتوحة، صفحة9).
كما تشير نفس الرواية مثلها مثل بعض الأعمال الأدبية الأخرى إلى وجود ما يمكن أن نسميه ازدواجية ثقافية يعيشها الذين انتقلوا للعمل في المدينة. وهي ظاهرة أصبحت في الوقت الراهن واسعة الانتشار بين المثقفين اليمنيين وتتناقض بوضوح مع حياة المجتمع الحضري. وهو ما يشكل عقبة أمام عملية التحديث. كما أن هذا الأمر يعني أيضا أن النزعة الفردية لم تصبح بعد ظاهرة مسيطرة على الحياة الاجتماعية.
علاوة ذلك تعبر الرواية المشار إليها آنفا عن التطلع إلى حياة المدينة عن طريق وصفها لحياة القرية القاسية واللهفة لترك تلك الحياة والعودة إلى عدن: “آه يا صديقي كم أنا مسرور .. وحزين أيضا .. مسرور لأنني سأغادر “مقبرة الموتى” هذه، وأرى مدينة الأحياء من جديد. وحزين لأنني سأغادر فتاة الجبل” (نفس الرواية، صفحة 12). ولا جدال في أن الحياة في القرى كانت شديدة القسوة. وهي تعاني من اعتماد المعيشة على الزراعة الموسمية بالأمطار في الوقت الذي قد يحدث فيه الجفاف في أي وقت. وحسبما جاء في صفحة 17 بنفس الرواية فإنه كلما تأخر هطول الأمطــار “ازداد خوف الناس عن ذي قبل وبدأ شبح المجاعة يعود إلى أذهانهم .. خاصة وأن مجاعة 1948 ما زالت ماثلة في أذهانهم .. ولم يزل الكبار يذكرون كيف كانوا يأكلون العاص وحده” (وهو خبز جاف من دقيق الدخن وقد يخلط أحيانــا بدقيق الذرة – المؤلف). كما أن هطول الأمطار يؤدى في بعض الأحيان إلى زيادة تفاقم المأساة عمقا حيث تفضي غزارتها أحيانا إلى تدمير وتخريب كل شيء: المباني والزراعة والمدرجات. وفضلا عن ذلك فإن السيول المتولدة عن الأمطار قد تجرف الحيوانات والإنسان مع التربة الطينية للأراضي وتقضي على حياة الجميع.3/2 – استمرار أوضاع من مخلفات الماضي:تعكس بعض الأعمال الأدبية وجود تشابه بين بعض الأوضاع التي كانت سائدة في عهد نظام الإمامة قبل ثورة 26 سبتمبر 1962 والأوضاع السائد في الوقت الراهن. وبكلمات أخرى نقول أن بعض الأعمال الأدبية تساعدنا على معرفة دور بعض العناصر الموروثة في استمرا ر تواجد بعض ظواهر المجتمع القديم في المجتمع الحديث. وقد أصبحت تلك العناصر الموروثة من المكونات الأساسية لبعض الظواهر في المجتمع الراهن. ومن هنا تظهر لنا استمرارية القديم في ظل الحديث. وبتعبير آخر نقول من هنا يأتي على الأقل التشابه الشديد بين بعض ظواهر المجتمع القديم والمجتمع الحديث. وهذا ما يمكن استخلاصه من بعض كتابات محمد أحمد عبد الولي بوضوح.
ويشمل ذلك التشابه بين الأوضاع الاجتماعية الراهنة وبعض أشكال الاستغلال والاضطهاد التي كان يتعرض لها المواطنون في بعض المناطق على أيدي عساكر الإمام وعماله. وكانت كلمة العامل تطلق على مدير الناحية. ولا تزال بعض الأساليب القديمـة للاضطهاد والاستغـلال موجودة في الوقت الراهن بدرجة أو أخرى. ومثال ذلك ما يحدث في الوقت الراهن حيث تصاحب أحيانا أطقم من العساكر الموظفين المختصين أثناء عملية تحصيل الضرائب من الشركات الحديثة (أنظر: أحمد القصير، دور المغتربين في التنمية بين الطاقات المتاحة والمعوقات، ورقة مقدمة إلى ندوة: المغتربون الرافد الأساسي للتنمية، صنعاء 15- 17 مايو 1999). وهذا يشابه تماما ما كان يحدث في عهد الإمامة حسبما يتضح من بعض الأعمال الأدبية.
كما يتضح من بعض الأعمال الأدبية أسباب استغلال أبناء بعض المناطق أهالي مناطق أخري. ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى قصة “يا خبير” المنشورة ضمن مجموعة “الأرض يا سلمى”. ففي الحوار الذي دار بين عسكري ينتمي إلى قبيلة حاشد بمحافظة صنعاء انتقل للعمل في الحجرية في تعز وبين أحد أبناء تلك المنطقة نجد أن العسكري يقول ردا على تساؤل ابن الحجرية عن سبب نهب العساكر للرعية أي المواطنين: “ننهب الرعية؟ ما كل العسكر ينهبوا يا خبير، واللي ينهب هانا ما هو أحسن من الحاكم.. أنت يا خبير تعطي الحاكم مائة ريال برضاك وقناعتك والعسكري تعطيه ريال وتقول العسكر ينهبونا. ما هو كذا؟ العسكري مثلك في حاكم تاني ينهبه في بلاده بالحق أو بالباطل”. (محمد أحمد عبد الولي، مجموعة قصصية بعنوان “الأرض يا سلمي”).
تعني تلك الكلمات أن الاضطهاد يجرى في كافة مناطق اليمن بينما يكمن الاختلاف بين ما يحدث في منطقة وأخرى في درجة الاضطهاد ومدى تعدد أشكاله. وفي موضع آخر يصف هذا العسكري الحياة في منطقة قبيلة حاشد التي ينتمي إليها ما يعانيه المواطنون هناك قائلا “اسمع يا خبير أنت رعوي هانا في القبيطـة وأنا رعوي في حاشد. معي هناك بيت وعائلـة وأولاد ما شاء الله، لكن ما معانا بيس (أي نقود) .. ما معنا أرض.. هاناك المشايخ أخذوا الأرض واحنا أصبحنا عساكر تدور على رزق، على لقمة”.. يلقي هذا الكلام الضوء عن الأسباب التي تدفع أبناء المناطق القبلية للتوجه نحو احتراف العسكرية. وتتركز هذه الأسباب في عدم وجود فرصة أخرى للحصول على لقمة العيش حيث أن الأراضي هناك في أيدي المشايخ.
إننا أمام موقف صعب وينطوي على أحد أشكال المآسي الاجتماعية. فمن جانب نجد أن هؤلاء العساكر ينتمون إلى مناطق فقيرة، ويعيشون حياة رثة، ولا يجدون لقمة العيش، ويتعرضون للاضطهاد. ولا يجدون أمامهم فرصا متاحاة سوي احتراف العسكرية التي لا توفر لهم سبل العيش. ومن ثم لا توجد أمامهم من فرصة لتعويض ما ينقصهم سوى نهب المواطنين في المناطق التي يرسلهم الحكام إليها.
علاوة على ذلك يمكننا أن نستنج من قراءة بعض الأعمال الأدبية أن بعض الظواهر التي كانت سائدة قبل الثورة لا تزال سائدة حتى الآن بدرجة أو بأخرى. ونعني بذلك ممارسة النهب واستباحة الغنائم خلال النزاعات الأهلية. وينبغي التنويه بأن بعض المناطق والجماعات يمكن أن تتعرض لمثل هذه الممارسات أكثر من غيرها. ولكن هذا لا يعني أن البعض يمكن أن يظل دائما بعيدا ويفلت منها. فإن الجميع قد يصيبه العقاب ويتعرض إلى النهب في أي وقت. وعلى سبيل المثال، كان وراء شخصية الصنعاني التي تتسم بطابع إنساني متميز ويعمل في عدن مأساة احتفظ بسرها طويلا. وترتبط تلك المأساة بسياسة العقاب والنهب والغنائم وانتهاك حرمة المواطنين. فقد تعرض دكانه في مدينة صنعاء للحرائق والنهب، كما تعرضت حرمة منزله وزوجته للانتهاك. كما أصاب الرعب ابنته الصغيرة التي كانت في صحبة والدتها. وحدث كل ذلك عندما أمر الإمام بنهب مدينة صنعاء بعد فشل ثورة 1948. وتعرض “الصنعاني” إلى كل ذلك على الرغم من أنه لم يكن طرفا في ذلك الصراع الذي كان نهب مدينة صنعاء واستباحتها أحد مظاهره. وبعد مرور عشر سنوات من الصمت كشف الصنعاني عن السر لأصدقائه من أبناء المناطق الأخرى الذين يعملون معه في عدن. ومن بين الكلمات التي قالها “اشتعلت المدينـة ذات يوم وبدأت تلتهم منازلـها النيران. ورأيت الجيش الغازي.. مجـرد أناس لا يعرفـون سوى النهب. كان شعار قائدهم: صنعاء مدينة مفتوحة” (صنعاء مدينة مفتوحة صفحة 49).
ولم تقتصر الإشارة إلى عملية نهب صنعاء على هذا العمل، بل تناولته أعمال أدبية أخري وأشارت إلى أن ولى العهد أحمد الذي أصبح الإمام الجديد بعد اغتيال والده الإمام يحي هو الذي أباح صنعاء “للنهب والسلب والقتل والدمار” (الرهينة، صفحة 28). لكن هذه الرواية صدرت لأول مرة في 1984 أي في الربع الأخير من القرن العشرين بينما صدرت الأعمال الأدبية التي نستعرضها في هذه الدراسة قبل نهاية الربع الثالث من ذلك القرن. كما ينبغي القول بأن الدراسات السياسية والتاريخية تناولت هذا الموضوع بإسهاب في إطار الحديث عن ثورة 1948 وحول حركة معارضة الإمامة.
3/3 – رؤية الشعر للتاريخ الاجتماعي:
3/3/1 – الهجرة والهوية وتحصيل الضرائب:

شارك مؤلف هذا الكتاب، عند إقامته باليمن، في المؤتمر الثاني للمغتربين اليمنيين المنعقد بصنعاء في مايو 1982. وفي أثناء المناقشات التي أجراها مع المشاركين في المؤتمر خاصة الذين حضروا من بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة اتضح أن معظمهم يحمل أكثر من اسم. وتبين أن البعض منهم يتعامل في المؤتمر باسمه الحقيقي الذي يختلف عن الاسم المدون في جواز سفره. وأفضى البحث عن تفسير هذا الأمر إلى معرفة أن بعض المغتربين اليمنيين الذين غادروا اليمن عن طـريق عدن في الفترة السابقة على ثورتي 26 سبتمبر 1962 و14 أكتوبر 1963 لم يتمكنوا من مغادرة اليمن أو العمل على ظهر السفن إلا بالحصول على تراخيص للعمل في البحر. ونظرا إلى أنهم لا يحملون أوراق تثبت هويتهم فقد لجأوا إلى استخدام تصاريح تحمل أسماء أشخاص آخرين. وكان ذلك يتم عن طريق شراء تراخيص العمل من الأشخاص الذين يتقاعدون. وبهذا يغادرون البلاد باسم بائع الترخيص الذي قد يكون، في بعض الأحيان، غير يمني.
إن يمن الإمامة لم يكن يصدر بطاقات هوية. ومن ثم كان اليمنيون يبحثون عن أي وسيلة للحصول على بطاقات هوية من أي جهة كانت وبأي اسم. وفي النهاية وجدنا عددا من المهاجرين يحملون أوراق هوية بأسماء تختلف عن أسمائهم الحقيقية ومن جهات مختلفة. وظلت الدراسات الاجتماعية التاريخية لا تتناول عادة مثل هذه الأمور بينما سجلتها الأعمال الأدبية الحديثة خاصة الشعر والشعر الشعبي. ويقدم ديوان محمد أنعم غالب “غريب على الطريق” تصويرا لاختلاف الأسماء الحقيقية للمغتربين عن الأسماء المسجلة في بطاقات الهوية التي يحملونها. وفي قصيدة “الغريب” التي جرى نظمها في عام 1956 يدور الحديث عن أحد المهاجرين على النحو التالي:

كل المواني تعرفه
كل البلاد جابها
كل البحار خاضها
بأي اسم
أبوه سماه علي
حين صار في عداد الوارثين
أثبت اسمه “علي”
في دفتر الزكاة
طارده الجباه
وباع نصف ثروته
ليدفع الزكاة
وأجرة التقدير والجباة والجنود
ورشوة الحاكم والأمير
وغادر الوطن

هناك عاش بضعة من السنين
واسمه القديم صار ذكريات
ونقش اسمه الجديد في ورقة
مكتوبة بخط أعجمي
وطوف البحار والقفار
كم بدل الأسماء
وبدل الأوراق
في جيبه منها الكثير

تتناول هذه الأبيات من الشعر بعض القضايا المتعلقة بهجرة اليمنيين. ويلاحظ أنه تم تناول تلك القضايا في سياقها التاريخي على نحو لا تفعله معظم الدراسات الاجتماعية. وعلى سبيل المثال فإن الاتجاه الغالب في تلك الدراسات يتناول الهجرة وكأنها ظاهرة خالدة توجد خارج نطاق التاريخ. وينبغي التنويه بأن الأبيات السابقة لم تكن العمل الأدبي الوحيد الذي تناول الهجرة تناولا واقعيا من خلال سياق تاريخي اجتماعي محدد. فهناك أكثر من عمل أدبي سار على نفس النهج. كما ينبغي أن نذكر أن الأدب الشفهي الشعبي ومن بينها الأغاني علي لسان المرأة التي تنتظر عودة الزوج المغترب تعكس عمق المعاناة ومدى تأثيرات قضية الهجرة على وجدان اليمنيين. كما دعت بعض الأغاني المهاجرين إلى العودة ورعاية الأراضي المهجورة. ومثال ذلك أغنية “ارجع لحولك” أي ارجع إلى حقلك لمؤلفها عبد الكريم مربد التي تدعو المهاجر إلى العودة لأن الحقل يناديه كي يرويه. كما أصبحت الموضوعات التي تناولتها بعض الأغاني مثل أغنية “البالة” لمؤلفها مطهر الإرياني تشكل جزءا من ذاكرة الشعب اليمني. وهي تتعرض لمعاناة اليمني في الداخل ومعاناته إذا ما هاجر إلي الخارج أيضا. فقد تناولت أسباب هجرة اليمنيين إلى الخارج مثل سوء المعيشة وانتشار الوباء. كما تعرضت إلى أشكال معاناة المهاجرين أيضا بدءا من سفرهم بالبحر في مراكب تنقل جلود الماشية، وقيامهم بأعمال شاقة، وتعرضهم إلى البطالة، وحنينهم إلى الوطن دون قدرة على العودة.

وفضلا عن ذلك فإن بعض أشكال الإبداع الأدبي الأخرى، خاصة في مجال القصة والرواية، قد لقي الشهرة والانتشار من خلال معالجة قضايا متعلقة بهجرة اليمنيين إلى الخارج. ومثال ذلك رواية محمد أحمد عبد الولي “يموتون غرباء”.
ينبغي أن نشير إلى أن بعض أبيات قصيدة “الغريب” التي ذكرناها قبل قليل تتعرض أيضا لقضايا أخري حيث تقدم وصفا لأشكال معاناة الفلاحين نتيجة تعسف تقديرات الضرائب والظلم في طريقة تحصيلها. وهي توضح أن الرعية (الأهالي) يبيعون جزءا من ثروتهم لسداد الزكاة، أي الضرائب، ولدفع نفقات معيشة وأجور القائمين بتقدير قيمة تلك الضرائب وجبايتها علاوة على نفقات معيشة الجنود المرافقين لهم. وكان يتم اتباع ذلك في المناطق الشافعية، أي السنية، على وجه التحديد عن طريق ما سمي بالخطاط والتنافيذ. فقد شكلت طريقة جباية بعض أنواع الضرائب مثل ضريبة الواجبـات أحد الوسـائل التي يستخدمها الأئمة للتنكيل بالسكان من جانب وبذر الفرقة بين المناطق الزيدية والشافعية من جانب آخر. فعندما تكون العلاقـة غير متوترة بين الأمام والقبائل في المناطق القبلية الزيدية فإنه يترك لهم حريـة تقدير قيمة الضريبـة. فقد كان الإمـام يمنح سكان تلك المناطق حق تحديد مقدار ضريبة العشور، وهو ما يعبر عنه بأن “الزكاة أمانة”. أما الأهالي في المناطق الأخرى فكانوا ضحايا جنود الإمام وعماله أي حكام النواحي. وقد استحدث أساليب الخطاط والتنافيذ لإذلال السكان ونهبهم. وتعني عملية الخطاط والتنافيذ، في واقع الأمـر، الإباحة المطلقة للجيش للتحكم في المواطنين وفرض سلطات تعسفية عليهم. وتتمثل تلك العمليات في قيام الإمام بإرسال الجيش مجردا من التموين والإعاشة إلى الجهة المعنية ليقيم في منازل الأهالي المراد تأديبهم واستنزافهم. وهناك يتصرف الجندي وكأنه رب الأسـرة الحقيقي. وكان الأهالي يتكفلون بإعاشة الجنود ويدفعون أجورهم إلى أن ينتهون من جمع حصيلة الضرائب والحقوق الكثيرة المزعومة وتحميلها في النهاية على دواب السكان أنفسهم. وفي حال إبداء أي شخص لأي إشارة تنبئ عن التذمر أو السخط فإنه يتعرض على الفور لأبشع أنواع العقاب.

إذا أعدنا الآن قراءة أبيات الشعر السابقة سندرك أنها استطاعت أن تعبر في إيجاز وعمق عن قضايا عديدة في حياة المواطنين ومن بينها أساليب التنكيل بالأهالي. فإن كل كلمة في أبيات ذلك الشعر تشير إلى أحد العناصر التي شكلت التاريخ الاجتماعي لليمنيين. كما يحمل كل بيت من هذا الشعر دلالات اجتماعية تاريخية محددة. وتشير أبيات الشعر في مجموعها إلى سياق اجتماعي معين. وعندما نضع مجموعة من تلك الأبيـات في جملة واحدة دون أي إضافة أو تغيير سنجد أمامنا صورة واضحـة عن أوضاع تمس حياة مواطن “طارده الجباه وباع نصف ثروته ليدفـع الزكاة وأجـرة التقدير والجبـاة والجنـود ورشوة الحاكم والأمير وغادر الوطن”.

كما كانت طريقة تقدير الضريبة تعتبر أحد أشكال التنكيل بالسكان. فالحكومة ترسل مخمنين إلى مختلف النواحي لتقدير المحصول قبل الحصاد وفي صحبتهم عدد من الجنود والكتاب. وكان الأهالي يتكفلون بإقامتهم وإطعامهم ويتحملون أجورهم. وفي فترة الحصاد يأتي الكشاف ثم المقصب الذي يحدد قيمة الضرائب على الأراضي. وعلاوة على ذلك كان الأهالي يتحملون عبء المرشد الذي كان يمر على مختلف المناطق لحث الناس على الصلاة والصيام. وكان على كل شخص من الأهالي أن يدفع لهذا المرشد مبلغا من المال. وعلى الرغم من أن أسس نظام جباية الضرائب كانت واحدة في كافة المناطق فإن تحصيل الضرائب في المناطق الشافعية كان يتخذ طابع الجباية العسكرية باستخدام أسلوب الخطاط والتنافيذ كقاعدة ثابتة بينما كان يتم اللجوء إلى هذا الأسلوب في المناطق القبلية الزيدية في حالة التمرد والعصيان.

عمل بعض المغتربين في فترة الحرب العالمية الثانية كوقادين وبحارة على ظهر بعض السفن الحربية البريطانية. وقد دفعت الأوضاع المعيشية القاسية بعض المهاجرين اليمنيين إلى العمل في مهن عديدة من بينها القتال في صفوف جيوش أجنبية وفي حـروب خارج بلادهم مثل الحـرب بين أثيوبيا وإيطاليـا في السنوات السابقة على الحرب العالمية الثانية وخلالها. بل إن تجنيـد اليمنيين في الجيش الإيطالي كان قد بدأ قبل تلك الفترة بعدة عقود. وتصور الأبيـات التالية في ديوان غريب على الطريق مشاركة المهاجرين اليمنيين في القتال في صفوف جيوش أجنبية. وقد جاءت تلك الأبيات على لسان أحد المغتربين ويقول فيها:
حاربت لا دفاعا عن وطن
حاربت من أجل الرغيف
بجانب الفاشيست
وفي الليالي السود بين الدم واللهب
رأيت لي صحاب..
كانوا من اليمن في الجانب المضاد
حاربتهم وحاربوني، لا دفاعا عن مثل
وكان لا يهم من يعيش أو يموت

ولا يهم قاهر أو منكسرلم يكن الشعر وحده هو الذي سجل مسألة تجنيد اليمنيين في حروب دون أن تكون بلادهم طرفا فيها. فقد شاركت الرواية اليمنية بدورها في تعريفنا بهذا التاريخ المجهول. ونجد أن إحدى شخصيات رواية محمد أحمد عبد الولي “صنعاء مدينة مفتوحة” التي هاجرت في عمر الشباب إلى شرق أفريقيا تقدم تجربتها للأجيال التالية من أبناء وطنها، وتنصحهم من خلال الكلام الموجه إلى نعمان بطل الرواية بأن يواجهوا مصير بلدهم. وتقول الكلمات المعبرة عن تلك التجربة: “كنت مثلك. أحاول أهرب من واقعي. حملت السلاح وقاتلت الناس .. ناس لا أعرفهم .. ولا يعرفوني. وليس بيني وبينهم عداوة.. ولكني قتلتهم. قاتلت مع الإيطاليين. وقاتلت ضدهم. كنت أبيـع نفسي لمن يريد شـراء أداة لإطلاق الرصاص” (صنعاء مدينة مفتوحة، صفحة 38).

كان الأدب اليمني وما يزال من المصادر الهامة لمعرفة ملامح الواقع الاجتماعي التاريخي الذي تشير إليه الكلمات السابقة. ويصعب أن نجد إشارة إلى ذلك الواقع في الدراسات المعنية التي يجريها الباحثون اليمنيون. وهو واقع يرتبط بالتاريخ الحديث الذي عاصره الكثيرون من الأجيال التي عاشت حتى أواخر القرن العشرين بل لا يزال بعض الذين عاصروا تلك التطورات على قيد الحياة حتى الآن.
على الرغم من كثرة الكتابات التي ظهرت عن الهجرة اليمنية فإننا لا نجد بها إشارة إلى هذه الموضوعات التي رصدها كل من الشعر والرواية. ولم نجد سوى دراسة اجتماعية واحدة هي التي تعرضت لهذا الموضوع. وهي دراسة عن مدينة المخا تم تقديمها إلى ندوة جائزة أغا خان عن العمارة التي انعقدت في صنعاء عام 1983. ومن المفارقات أن يحدث مثل هذا التغاضي عن بعض التطورات الاجتماعية التاريخية على الرغم من أن الكتابات العربية والأوربية أشارت بوضوح وبطريقة موثقة لذلك الواقع الذي شارك في تصويره الأدب اليمني. وقد أوضحنا في عمل سابق، أي في كتاب “شرخ في بنية الوهم: الهجرة والتحول في اليمن”، أن كتابات الجغرافيين المصريين علاوة على بعض الكتابات السياسية للأوربيين قد تناولت بالتفصيل التحركات السكانية التي جرت في منطقة شرق أفريقيا خلال الفترة التي نتعرض لها الآن. وقد غطت تلك الدراسات الهجرة اليمنية التي تدفقت إلى تلك المنطقة في نهاية القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين. كما أشارت تلك الكتابات إلى الأعمال التي قام بها المهاجرون اليمنيون هناك. ونستطيع أن نؤكد أن التحركات السكانية التي ظهرت آنذاك ومن بينها الهجرة اليمنية قد ارتبطت بالنشاط الاستعماري للبريطانيين والفرنسيين والإيطاليين وتحركاتهم في المنطقة في أعقاب تصفية النفوذ المصري بشرق أفريقيا والقرن الأفريقي بدءا من عام 1884.
كانت التحركات السكانية علي الشاطئ الآخر من البحر الأحمر وخليج عدن قد بدأت في التوسع في أعقاب إجبار المصريين على الانسحاب من ميناء مصوع ومن بربرة ومن مقديشيو ومن السودان خلال العقد التاسع من القرن التاسع عشر. وقد حل البريطانيون بدلا من المصريين في كل من السودان وفي موانئ زيلع وبلهار وبربرة المطلة على خليج عدن والتي أصبحت تعرف فيما بعد بالصومال البريطاني، بينما حل الإيطاليون محل المصريين في كل من مقديشيو ومصوع التي أصبحت في عام 1890 جزءا من مستعمرة ارتيريا التي أسستها إيطاليا. كما كان النشاط الفرنسي قد برز بالمنطقة ارتباطا بإنشاء مستعمرة جيبوتي في أواخر القرن التاسع عشر، أي في عام 1888. وينبغي التنويه بأن الأعمال الرئيسية التي مارسها اليمنيون في تلك المناطق تركزت في مجال الإنشاءات المرتبطة بالنشاط الاستعماري لتلك الدول. فقد عمل المهاجرون اليمنيون منذ أواخر القرن التاسع عشر في مد خطوط السكك الحديدية، وشق الطرق، وأعمال حراسة منشآت الأوربيين مثل الشركة الإيطالية لشرق أفريقيا، والقتال في الحرب خاصة بين أثيوبيا وإيطاليا. ودأب الإيطاليون بدءا من أوائل القرن العشرين على ضم عدد من اليمنيين إلي جيشهم، وكانوا يرسلون مندوبين إلى اليمن لتجنيد من يقبل المشاركة في القتال (أنظر: أحمـد القصير، شرخ في بنية الوهم: الهجرة والتحول في اليمن).3/4 – الأدب ودورة حياة المرأة:

 

تشير هذه الصورة التي رسمها الأدب إلى تعدد الأدوار التي تقوم بها المرأة الريفية اليمنية وإلى كثرة الأعباء التي تتحملها فضلا عن أشكال متعددة من المعاناة. ولا تختلف الصورة التي رسمتها الأعمال الأدبية اليمنية الحديثة عن دورة الحياة اليومية الفعلية للمرأة اليمنية والتي يمكن أن تقدمها الدراسات الأنثروبولوجية. غير أننا لا نجد بالجامعات اليمنية كتابات أنثروبولوجية من هذا القبيل. وتتكرر أوصاف مشابهة عن وضع المرأة الريفية في أعمال أدبية أخري. ومثال ذلك القول بأن المرأة في بلادنا “ليست سوى خادمة .. للأرض .. للبيت .. والزوج. إنها مجــرد زهـرة تتفتح قليــلا ثم تموت .. حين ينهكها العمـل. وكذلك هي زوجتي .. كانت ناضرة .. كزهرة .. فأصبحت الآن عودا يابسا. وأصبحت .. رغم أنها لم تتجاوز الخامسة والعشرين .. عجوزا .. كأنها على أبواب قبرها” (محمد أحمد عبد الولي، صنعاء مدينة مفتوحة، صفحة 18).

4- صراعات متولدة عن الهجرة:

ترتب على زواج المغتربين اليمنيين خاصة الذين تزوجوا من أفريقيات مشاكل اجتماعية عديدة. ويتعلق بعض هذه المشاكل بعدم تقبل بعض دوائر المجتمع اليمني للأبناء الذين جاءوا نتيجة تلك الزيجات والذين تم تسميتهم بالمولدين. وكانت بعض أشكال الصراع المرتبطة بهذه القضية قد ظهرت في بلدان المهجر قبل أن يعود المولدون إلى اليمن. فقد نشأ صراع بين المهاجرين أنفسهم وأبنائهم الذين ولدوا من أمهات غير يمنيات. وقد انتقل هذا الصراع فيما بعد إلى داخل اليمن عندما وفدت أعداد من المولدين للإقامة في البلاد. وكثيرا ما واجه هؤلاء ما يشبه عدم الاعتراف. كما أنهم يواجهون في معظم الأحيان صعوبة في الحصول على بطاقة الهوية. وتعتبر هذه من المشاكل الدائمة التي يعاني منها حتى الآن أبناء المغتربين المتزوجين من أجنبيات. وعلاوة على ذلك فإن بعض أنماط سلوك المولدين، التي تتسم عادة بعدم التزمت، تواجه الاستهجان في أحيان كثيرة من جانب بعض دوائر المجتمع اليمني.

وقد تناولت بعض الأعمال الأدبية بعض أشكال الصراع الذي نشأ في بلدان المهجر بين الأبناء المولدين والأباء. فالجيل الجديد (أي المولدين) يتهم الأجيال السابقة التي وفدت من اليمن بأنهم خرجوا من بلادهم “هروبا من شبح الإمام” وليس من أجل تحرير اليمن حسبما يزعمون. وقد وردت الكلمات السابقة في رواية “يموتون غرباء” على لسان أحد المولدين وفي سياق حوار بين الجيلين: جيل الأباء الذين هاجروا من اليمن إلى أثيوبيا وجيل الأبناء الذي ولدوا نتيجة الزواج من أثيوبيات. والجدير بالذكر أن الشخص المولد يعمل سكرتيرا للمهاجر الذي ينتمي إلى جيل الأباء. وكان الحوار يدور حول العلاقة بين الأباء والمولدين وحول محاربة المهاجرين للإمامة وقيامهم بجمع تبرعات لدعم الحركة الوطنية في اليمن. وكانت كلمات المولد السابقة حول الهروب من شبح الأمام ردا على قول المغترب بأنهم يعملون من أجل أن يأكل الناس في اليمن، وأنهم لم يهاجروا إلا بهدف إنقاذ البلاد. كما أن المغترب قام بدوره بانتقاد المولدين خلال الحوار قائلا: “أنا أعرف أنكم أنتم المولدين لا تهمكم مشاكلنا.. وأنتم لن تفهموا سواء حسب علينا أننا نريد أن نحرر بلادنا أو لا. ولكنكم أتيتم لتكونوا عبئا علينا” (محمد أحمد عبد الولي، يموتون غرباء، صفحة 82). وعندما يستطـرد المولـد في رده يقول “لقد خفتم ولو كنتم حقا تريدون ذلك فلماذا إذن تزوجتم وأنجبتمونا لتقولوا في النهاية هذا الكلام”.

وتبرز الرواية بعض التناقضات والتباينات بين واقع الأباء والأوضاع التي تواجه الأبناء. فالأب المغترب “يحلم بأرضه .. وبالمستقبل هناك في اليمن عندما يحرروا اليمن من الظلم .. فإن لديه أساسا يقف عليه وأحلاما تؤيده وتسنده وأنه ليس غريبا بالرغم من أنه مهاجر قد يعود يوما إلى أرضه ..” (صفحة 80). فإن الأب “مجرد مهاجر” أما المولد “فمقطوع من شجرة لا جــذور لها .. إنه لا أحد. نعم لا أحد” (نفس الصفحة). وعلاوة على ذلك تصور الرواية مأسـاة الطرفين عندما يوجه المولد كلماته إلى المغترب قائلا “أنتم تحملون الخرافة ونحن نعيش واقعنا بألم” (صفحة 81).

تتعمق المأساة في هذا العمل الأدبي عندما يتم دفن الأحلام مع موت بطل الرواية الذي كان يستعد للعودة إلى اليمن. وتظهر صعوبة إيجاد قطعة أرض صغيرة لدفنه. ولهذا تأتي كلمات المولد الموجهة إلى المغترب، وهما أمام القبر الذي سيدفن فيه بطل الروايـة، لتوضح قسوة جوانب عديدة من الواقع. وتقول تلك الكلمات: “أنت تعرف أنه مات ولم يترك شيئا طيبا في حياته سوى الآلام .. امرأة مهجورة منذ أعوام بعيدة وابن لم يعرفه بعد .. وأرض لم يقـدم لها أي قطرة من دمه .. لقد مات غريبا كما يموت مئات اليمنيين في كل أنحاء الأرض. يعيشون ويموتون غرباء دون أن يعرفون أرضا صلبة يقفون عليها .. أما هذا القبر فهو ليس قبره. إنها ليست أرضـه وليست أرضنا .. إنها قبور أناس آخرين .. قبور الأحباش نحتلهـا نحن. ألا يكفي أن نلتهم اللقمـة من أفواههم كم نحن غربـاء، كم نحن غرباء” (صفحتي 95 – 96). ن يعرفوا أرضا صلبة يقفون عليها

5 – « مأساة واق الواق» رؤية مغايرة:

قدمت بعض الأعمال الأدبية صورة عن الواقع تختلف عن التي استعرضناها في الصفحات السابقة. وحدث هذا التباين على الرغم أن النموذجين المختلفين عن بعضهما البعض قد تم كتابتهما في فترة تاريخية واحدة تقريبا، أي في العقد الأول من النصف الثاني من القرن العشرين. ويتمثل العمل الأدبي الذي يعبر عن صورة تختلف عن التي سبق أن تناولناها في الصفحات السابقة في روايـة “مأساة واق الواق” للقاضي محمد محمود الزبيري.. إن الشخصيات الرئيسية في الأعمال الأدبية التي سبق أن تحدثنا عنها هم من العمال، والمهاجرين، والفلاحين، والنساء اللائي يتحملن مسؤولية الأعمال المنزلية، وجلب مياه الشرب والوقود، تربية الماشية، وفلاحة الأرض. ويعني كل ذلك أن بعض تلك الشخصيات ينتمي إلى مجتمع المدينة بينما ينتمي البعض الآخر إلى مجتمعات ريفية. وفي مقابل ذلك نجد أن الأبطال الرئيسيين في “مأساة واق الواق” يتشكلون من رجال الدين، والمشايخ والقبائل، كما ينقسمون مذهبيا إلى زيود وشوافع.. وتتعلق أحداث “مأساة واق الواق” بفترة تاريخية محـددة في إطار خيالي يجنح إلى ما يسمي بالمدينة الخيالية. لكن مجتمع هذه المدينة يقع في إطار المجتمعات التقليدية وليس في إطار المجتمع الحديث. فإن “مأساة واق الواق” تعتبر أن القبيلة هي القوى التي “تسكب كل دم جديد في عروق المجتمع المتحضر كلما شاخ”.

لقد تحدث الأدب اليمني الحديث الذي أشرنا إليه في الصفحات السابقة عن المجتمع المدني وتنظيماته وعن حياة القرية أيضا. لكن “مأساة واق الواق” للزبيري التي كتبت أيضا في نهاية خمسينات القرن العشرين تتحدث عن إصلاحات في إطار مجتمع تقليدي تقوم فيه القبيلة بدور محوري، كما يقع عليها مهمة تجديد “دم المجتمع المتحضر” حسبما تزعم الرواية.. وبينما تدور أحداث ووقائع القصص والروايات اليمنية الأخرى في إطار واقع تاريخي محـدد نجد أن أحداث مأساة واق الواق تدور في العالم الآخر وإن كانت الرواية تتناول أحداثا لها صلة بالواقع. ويتشكل الإطار العام لعالم واق الواق من مجتمع تقليدي حيث يتم التطلع إلى نظــام حكم في المستقبل يعتمد على “مجلس قبائل” مثلما كان الحال “في أيام معين وقتبان وسبأ وحمير” (مأساة واق الواق، صفحة 264).

لقد تحدث الأدب اليمني الحديث الذي أشرنا إليه في الصفحات السابقة عن المجتمع المدني وتنظيماته وعن حياة القرية أيضا. لكن “مأساة واق الواق” للزبيري التي كتبت أيضا في نهاية خمسينات القرن العشرين تتحدث عن إصلاحات في إطار مجتمع تقليدي تقوم فيه القبيلة بدور محوري، كما يقع عليها مهمة تجديد “دم المجتمع المتحضر” حسبما تزعم الرواية.. وبينما تدور أحداث ووقائع القصص والروايات اليمنية الأخرى في إطار واقع تاريخي محـدد نجد أن أحداث مأساة واق الواق تدور في العالم الآخر وإن كانت الرواية تتناول أحداثا لها صلة بالواقع. ويتشكل الإطار العام لعالم واق الواق من مجتمع تقليدي حيث يتم التطلع إلى نظــام حكم في المستقبل يعتمد على “مجلس قبائل” مثلما كان الحال “في أيام معين وقتبان وسبأ وحمير” (مأساة واق الواق، صفحة 264).

كما أن مأساة واق الواق تعتبر أن أهل الحل والعقد هم المرجع في كل شئ. وهي لا تتحدث عن طبقات دنيا وعليا ولا عن شرائح اجتماعية بل عن الصفوة، وهي صفوة مجتمع تقليدي غير حديث. ومثال ذلك الحديث عن “كبار رجال الشعب وفي مقدمتهم كبار السادة وأمراء المناطق والعلماء ومعظم أهل الحل والعقد (صفحة 260). كما أنها تصور أرض بلاد واق الواق المنقسمة على نفسها. فهي “مبتورة إلى جزئين: جزء ينهشه الاستعمار. وجزء يربض فيه الطاعون الرجعي. ويريد هذا وذاك أن يقطعا شعب هذه الأرض تقطيعا ثانيا باسم المذاهب الدينية. وتقطيعا ثالثا باسم السلالات العنصرية. وتقطيعا رابعا إلى قبائل ومدنيين، وتقطيعا خامسا – وهو أخطرها جميعا وأشد فتكا لأنه يصطبغ بصبغة متحضرة حديثة تحت ستار الديمقراطية” (صفحة 68). ويغطي الحديث السابق عدة قضايا أساسية تتعلق بالتاريخ والصراع الاجتماعي. وتتمثل هذه القضايا في الحديث عن تقسيم السكان إلى مذاهب دينية، وإلى سلالات عرقية، وإلى قبائل ومدنيين. ويلقي هذا الكلام بعض الضوء على طبيعة الواقع الاجتماعي. غير أن مأساة واق الواق لا تفصح عن المقصود بالتقسيم أو التقطيع الأشد فتكا الذي تري أنه يتستر بالديمقراطية.

علاوة على ذلك تتناول المأساة قضية جوهـرية أخـرى ترتبط بالتاريخ الاجتماعي. ونعني بذلك الحديث عن بذر عوامل الفرقة بين السكان والجماعات الاجتماعية. وفي هذا الصدد يتم التساؤل على لسان أحد الأبطال حسبما يحدث دوما في سياق الرواية: “كيف يتأتى لنا أن نقضي على الفرقة والشكوك وأن نوحد فئات الشعب إذا أبقينا على أسباب الانقسام التي افتعلها الطغاة كما هي عليه؟ لقد صنع الطغاة ما يسمونه شافعية وزيدية وميزوا البعض على البعض وأتاحوا للزيدية من الفرص ما لم يتيحوه للشافعية، وأعطوهم من الجاه والسلطان ما لم يعطوه لإخوانهم، وهذه علة يجب أن نعترف بها ونعالجها بطيبة نفس” (صفحتي 261 – 262 ).

يعبر الزبيري في العبارات السابقة عن قضايا واقعية وتناقضات تشكل جوانب رئيسية في التاريخ الاجتماعي لليمن. لكنه لا يجد حلا لتلك التناقضات إلا عن طريق القبيلة. وغني عن القول بأن “مأساة واق الواق” تعتبر دائما أن القبيلة بمثابة العامل الذي يجدد “دم المجتمـع المتحضر”. فهي التي “تسكب كل دم جديـد في عروق المجتمـع المتحضر كلما شاخ وأصابه الهرم، ومع ذلك فهي تبقى راضية بالقليل من الجـزاء، والخشن من العيش…” (صفحة216).
وربما كان هذا التصور عن القبيلـة هو الذي دفع صاحب “مأساة واق الواق” بعد قيـام ثورة 26 سبتمبر 1962 إلى الدعوة إلى تسليح القبائل. وهي دعوة رفضها الرئيس عبد الله السلال. ولذلك هاجمه الزبيري مؤلف مأساة واق الواق قائلا: “رفضتم تكوين جيش دائم من القبائل المجمهرة يردع المتمردين ويمنع الحرب قبل وقوعها. وذلك لأنكم لا تثقون بالشعب ورجاله، ولا تريدون جيش شعبي من الأحرار القبائل خوفا على مناصبكم” (رسالة من محمد محمود الزبيري إلى الرئيس عبد الله السلال في يناير1965: صحيفة الأمة، العدد 25، في 31/9/1992).

إن ما جاء في “مأساة واق الواق” يرتبط بشكل وثيق بتاريخ الصراعات الاجتماعية في اليمن. كما أن تصور الزبيري لنظام الحكم “في مدينته الخيالية” يقوم على مؤسسة قبلية تتمثل في “مجلس القبائل” الذي عرفته الدول اليمنيـة القديمة حسبما تقول كلمات مأساة واق الواق التي أشرنا إليها من قبل. وهي دول معين وقتبان وسبأ وحمير. ويختلف ذلك التوجه الذي يعتمد على القبيلة اختلافا جوهريا عن صورة الواقع الاجتماعي في الأعمال الأدبية الأخرى. وهي صورة عن مجتمع يتطلع إلى التحديث وتنشأ بداخله طبقات وشرائح اجتماعية جديدة ومؤسسات حديثة تنتمي إلى مجتمع حضري. كما برزت مع هذا المجتمع الحضري شخصية يمنيـة غير قبلية لها ثقافتهـا الجديدة. وهي ثقافة أصبحت رغم كافة المعوقات من مكونات المجتمع اليمني الحديث.

المراجع

– أحمد القصير، شرخ في بنيةالوهم: الهجرة والتحول في اليمن، القاهرة، 1990.

2 – أحمـد محمد نعمان، الأنة الأولى (بدون تاريخ وبدون جهة نشر).

3 – أدبيات ندوة: المغتربون الرافـد الأساسي للتنميـة المستدامة، المجلس الاستشاري و وزارة شئون المغتربين، صنعاء 15-17 مايو 1999.

4.Thaira Shalan, L` Interference Entre Les Concepts De Classe Et De Categorie Sociale Dans La Societe Yemenite, These De Doctorat, Departement De Philosophie, Universite Paris X – Nanterre, 1993.

5. Eric Macro, Yemen and the Western World Since 1571, C. Hurst & Co., London, 1968.

6 – زيد مطيع دماج، الرهينة، كتاب في جريدة، ملحق صحيفة الأهرام، 2 سبتمبر 1998.

7. R.J. Gavin. Aden Under British Rule, 1839-1967, C. Hurst & C. London, 1975.

8- ضرار عبد الدايم، المخا مدينة الماضي والمستقبل، ورقة مقدمة إلى ندوة جائزة أغا خان للعمارة عن الحداثة والتراث، صنعاء 25-30 مايو 1982.

9 – على محمد زيد، زهرة البن، بيروت، 1998.

10 – محمد أحمد عبد الولي، الأرض يا سلمي، بيروت، 1986.

11 – محمد أحمد عبد الولي، شيء اسمه الحنين، بيروت، 1986.

12 – محمد أحمد عبد الولي، صنعاء مدينة مفتوحة، بيروت، 1986.

13 – محمد أحمد عبد الولي، عمنا صالح العمراني، بيروت، 1986.

14 – محمد أحمد عبد الولي، يموتون غرباء، بيروت، (الطبعة الثانية) 1978.

15 – محمد أنعم غالب، غريب على الطريق، عدن، 1974.

16 – محمد أنعم غالب، عوائق التنمية في اليمن ، فيسبادن، 1978.

17 – محمد محمود الزبيري، مأساة واق الواق، صنعاء وبيروت، 1978.

 

صدر للمؤلف

 

تأليف

1 ـ منهجية علم الاجتماع بين الوظيفية والماركسية والبنيوية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1985 {نفذ}.

2 ـ اليمن الهجرة والتنمية، دار الثقـافة الجـديدة، القاهرة، 1985 {نفذ}.

3 ـ شرخ في بنية الوهم: الهجرة والتحول في اليمن، توزيع دار ثابت، القاهرة، 1990 {نفذ}.

4 ـ “أول الشعر كان إصرار”: ذكريات عن كمال عبد الحليم، دار العالم الثالث، القاهرة، 2005.

5 ـ أدباء ثوريون في الثقافة المصرية، دار العالم الثالث، القاهرة، 2006.

6 ـ الحركة الشيوعية وهيكل { مع مجموعة من المؤلفين}، دار العالم الثالث، القاهرة، 2006.

7 ـ التحديث في اليمن والتداخل بين الدولة والقبيلة، دار العالم الثالث، القاهرة، 2006.