كنت منهمكا، بقراءة رواية نزوح، للروائي الفرنسي الجنسية، اليمني الأصل، حبيب عبدالرب سروري. مندمجا مع شخوصها العشرة ورحلتهم المكوكية في الفضاء الفسيح خارج كوكبنا الأرضي حيث تنعدم الجاذبية وتتحول الكائنات إلى فراشات طائرة. رواية مدهشة، مزجت الخيال بالعلم والفلسفة والتاريخ والحياة في مزيج سردي إبداعي لا الذ منه ولا أشهى.. إذ أجاد الراوي توظيف آخر منجزات العلم والاكتشافات الفلكية في هذه الرواية المفعمة بالحس الفلسفي الذكي..
اقول : كنت منهمكا مع عوالم الرواية طوال الأيام الماضي قبل فرية( أم ليث العراقي ) التي دوخت بي الله ينتقم منها.. إذ هوت بي من السماء السابعة بمحاذاة المريخ إلى حضيض اليمن الموحل. على غير عادتي مع قراءة الروايات..
فضلت التروي والتقسيط مع نزوح المدهشة، إذ كنت اقرأ كل يوم فقرة إبتداءا من فقرة (1) بعنوان( عن رِحلتي XxxXxooFوYyy4+1W الشهيرَتين؛ بقلم رئيس لجنة الإشرافِ الأرضيّ) حتى ( بوميّات التجديف في الفضاء) وانا منهمك في عوالم حبيب سروري الفضائية تذكرت ما سبق وقرأته في تاريخ الفلسفة ..
ومن ذلك ما كتبه الفيلسوف الرواقي الروماني الشهير ب”سنيكا 4-65 ق.م”. الذي كشف عن بصيرة نافذة حينما وقف على الطرف النقيض من موقف أستاذه ماركوس اوريليوس إذ ذهب سينكا الى تأكيد حتمية تقدم المعرفة الانسانية في المستقبل بقوله: “هنا الكثير من الناس اليوم يجهلون سبب خسوف القمر، ولم يوضح هذا السبب في اوساطنا الا مؤخراً ولسوف يأتي اليوم الذي يفسر فيه الزمن والاجتهاد الإنساني مسائل مبهمة لنا هنا والآن…
ذات يوم سيعجب من سياتي بعدنا من جهلنا لأسباب واضحة جداً لهم… في الزمن القادم سيعرف الناس الكثير مما نجهله نحن. وهناك الكثير من الاكتشافات المدخرة للازمان القادمة، حين تكون ذكرانا قد ذبلت في اذهان الناس، نحن نتصور اننا ارشدنا الى اسرار الطبيعة، في حين أننا لا نزال واقفين عند عتبة معبدها”حتى وان لم يكن “سنيكا” يعي فكرة التقدم وما يمكن أن تقدمه المعرفة العلمية من تحسن للعالم، فيكفيه إنه قد تصور في ذلك العصر الموغل في القدم ، قبل الفين عام ..
ما يمكن ان تفتحه العلوم الطبيعية للانسان من مناطق سماوية تمكنه وهو على حد قوله “وسط النجوم” ان يضحك على الأرض وكائناتها ومساعيهم وصراعاتهم المبتذلة..
ولقد ادرك هذا الفيلسوف النابه ، انه لا نهاية للمعرفة الانسانية ولا نهاية للتقدم الإنساني وهذا هو ما تحقق في زمننا الحالي إذ غدا الضحك وسط النجوم، الذي كان حلماً بعيد المنال في زمن سنيكا واقعاً فعلاً وصار الانسان ينظر الى الارض من القمر بسيادة وبماجلان صار الانسان اكبر من الارض. وبكوبرنيكوس وغاليلو صار الانسان اكبر من الشمس… ولا نهاية لصراع الانسان ازاء الطبيعة وازاء نفسه ولا نهاية لتاويل ابن عربي وهو يقتض نجوم السماء كما لا نهاية لتحقيق رؤياه. (ينظر، قاسم المحبشي، فلسفة التاريخ في الفكر الغربي، جزء1، من هيرودوت إلى شبنجلر، ص30)..
كانت فرحتي غامرة حينما استلمتها من موظف الهوتيل إذ كتبت يومها : ” في الغربة ليس هناك ما هو أجمل من امرأة أو رواية. عبارة حضرت في ذهني وأنا استلم رواية نزوح للروائي اليمني الفرنسي الشهير، حبيب سروري. من الشيخ عثمان- أحب المدن إلى قلبي-. مازلت انظر اليها وامسد على غلافها وكانّها عروسة صينية، من عرائس الذكاء الاصطناعي. آمنّي نفسي بقضاء أجمل الأوقات معها. انتظرتها بشغف شديد ، فوصلتني من مكان بعيد. شكرا لكاتبها وشكرا لمرسلها. هي أخر روايات بروفيسور حبيب عبدالرب سروري؛ أما عنوانها ففيه من الطاقة الانفعالية لمن هو غريب عن وطنه الأصلي ما يكفي لجعله يطير في السماء السابعة..
كنت منهمكا معها كما ينهمك العريس مع عروسه في شهر العسل ولكن قدر الله وما شاء فعل. سوف اعود اليها حينما أستعيد دماغي بحسب تعبير احبابنا في أم الدنيا. مشتاقين..
——————-
هامش : الدكتور قاسم عبد عوض المحبشي رئيس سابق لقسم الفلسفة ونائبا لعميد كلية الآداب في جامعة عدن .. ..وهو عضو هيئة التدريس في الاكاديمية العربية الدنماركية..واضطر لمغادرة الوطن بسبب التهديد الإرهابي الذي تعرض له واستهدفه في العاصمة عدن ..