كتابات

الهمداني.. المعارض الأول للكهنوت

عملت الإمامة الهادوية السلالية، على تمزيق النسيج الاجتماعي وتشويه الهوية اليمنية طيلة قرون من حكمها في اليمن، ما جعلها في مواجهة دائمة مع اليمنيين الذين ثاروا ضدها مبكراً، بالعودة إلى جذورهم اليمنية وهويتهم التاريخية الأصيلة، ومع قدوم الهادويين إلى اليمن، في القرن الهجري الثالث/ التاسع الميلادي ، شهدت البلاد حروبًا وتمزقات اجتماعية خطيرة وكبيرة، بعد أن تحولت فكرة الحرب والسلب والنهب، إلى ثقافة وسلوك قبلي مشروع مذهبياً، حين عمد الأئمة الى تحويل القبيلة اليمنية الزراعية إلى مجاميع من المحاربين وقطاع الطرق والعصابات.

 

عمل الغزاة الهادويون على تشويه الخصوم والمنافسين، لتنفير الناس من حولهم والانفضاض عنهم وإضعاف جانبهم، وهكذا عمد الهادي يحيى بن الحسين عبر مؤرخي وكتبة سيرته إلى تشويه معارضيه لتأليب الناس ضدهم والخروج عليهم، و اتهامهم بكل رزية ونقيصة لاستباحة دمائهم، وكان الحسن الهمداني معايشاً لتلك اللحظات الأولى لتأسيس دولة «الإمامة الهادوية»، ليدافع باستماتة عن اليمن ومَجدها الحضاري، معارضا بشجاعة الفكر الإمامي الكهنوتي السلالي.

 

الهمداني الذي ولد بمدينة صنعاء سنة 280 هـ ونشأ فيها، هو أبو محمد الحسن بن أحمد بن يعقوب بن داود بن سليمان الأرحبي الهمداني، المُؤرخ والشاعر والعالم بالأنساب، والعارف بالفلك والفلسفة والأدب، المعروف بـ «لسان اليمن»، كما لقُب بـ «ابن الحائك» لكونه سليل أسرة توارثت حوك القوافي وتثقيفها.

 

نشأ الهمداني في مدينة صنعاء وطاف البلاد، واستقر بمكة زمنًا، وعاد إلى اليمن، وأقام في صعدة لعدة سنوات، وهاجى شعراءها الإماميين، فحبسه «الناصر» أحمد بن «الهادي» يحيى بن الحسين وهدم داره، وذكر مؤرخو الأئمة الهادوية إن الهمداني اُعتقل لأنه لهج بتفضيل قبيلة قحطان على عدنان، وحقَّر ما عظَّم الله وتجاسر على انتقاص من اصطفاه الله، ويقصدون شخص الإمام، ووجد الحسن الهمداني نفسه مجبراً على خوض حرب قاسية، أمام عصابة من الغزاة تدعي الإصطفاء وتحيط نفسها بالقدسية، فلا تكتفي بسلب أرضه، بل تجبره على العمل فيها أجيراً، فكان الهمداني مرغما على هجو السلالة الكهنوتية، والافتخار بهويته اليمنية القحطانية.

 

استشعر “لسان اليمن” اختلال الموازين اثر التغيرات التي أخذت تجري على قدم وساق، ومنحته مكانته العلمية والاجتماعية تأثيراً على من حوله، واخذت غلبته في السجالات التي دارت بينه وبين دعاة الأئمة صدى واسعاً، فلقد أراد “الإمام” الهادي الرسي، أن يؤسس من خلال دعوته لحكم سلالي كهنوتي، يرتكز على نظريات الحق الإلهي بالحكم، الذي يطلق عليه في أدبيات الزيدية بنظرية البطنين، وهو ما يعني احتكار الحكم لسلالة معينة، ومن هنا كانت البدايات الأولى للحركة الوطنية، التي رأت أن هذه الأفكار تمثل تهديدا مباشراً للميراث الحضاري لليمنيين وهويتهم الضاربة في جذور التاريخ البشري.

 

بعد اطلاق سراحه من سجن الإمامة بصعدة، توجه الهمداني صوب صنعاء، ليتعرض هناك لمحنة السجن مرة أخرى على يد “أمير صنعاء” أسعد بن يعفر، بتحريض من «إمام صعدة» الناصر بن الهادي، ويقضي مايزيد عن «21» شهرًا في السجن، ليطلق سراحه بعد أن ضجت مناطق اليمن الشمالية بالتمرد والثورة، وكادت صفحة «الإمامة» أنْ تطوى إلى الأبد ، بحسب ما دونه المؤرخون ، وتوجه الهمداني إلى ريدة وفيها استقر بقية عمره، وتفرغ هناك للكتابة و التأليف مدافعا باستماتة عن اليمن ومجدها الحضاري.

 

ألف الهمداني العديد من الكتب لا زال الكثير منها مجهولاً، ومن أهم مؤلفاته:

كتاب “الجوهرتين العتيقتين”: في الكيمياء، وكان أول من أشار فيه إلى حقيقة الجاذبية الأرضية، كما ألف كتاب “صفة جزيرة العرب” الذي قدم فيه أدلة على كروية الأرض، إضافة الى كتابه الشهير “الاكليل” والذي يروي فيه أخبار العرب والأمم السابقة، وأيضا كتاب «الدامغة»، وهي قصيدة طويلة، قرابة «600» بيت يفتخر فيها الهمداني بيمانيته و قحطانيته، ويُعد كتاب «الإكليل» أهم كتب الحسن الهمداني، ولم يعثر من أجزائه العشرة إلا على أربعة أجزاء وبعض جزء، هي: الأول، والثاني، وبعض السادس، والثامن، والعاشر، وتوجه أصابع الإتهام الى الأئمة في أختفاء تلك الأجزاء، لأن الهمداني أنكر هاشميتهم وألحقهم بالفرس،وما يؤكد الإتهام بإخفاء أجزاء الإكليل من قبل الأئمة، ما كتبه أمين الريحاني في كتابه «ملوك العرب» حيث يشير الى أنَّه أثناء تواجده في صنعاء خلال حكم الإمام يحيى حميد الدين، كان كتاب «الإكليل» كاملًا بأجزائه العشرة موجودا في مكتبة الحضرة الإمامية.

 

توفي الهمداني في ريدة، لكن قبره اليوم مجهول، كما أن هناك خلاف حول تاريخ وفاته، لكن بعض المؤرخين يرجحون أنه عاش إلى ما بعد العام الهجري 336 الموافق لسنة 947 ميلادية.