كتابات

من يوميات الشاعر الفلسطيني يوسف القدرة

 

 

غزة خان يونس
خاص| انزياحات

لشهرٍ عاشر،
“إبادة حياتنا كلّها بما فيها نحنُ”
نحنُ سكّان هذا البلد،
مجرّد أضرارٍ جانبيّة
لانتصارٍ مُطلقٍ يتوهّمه المجرمون !
لشهرٍ عاشر،
“نحن الذين فقدنا كل شيء تقريبًا”
ما زلنا في متن الإبادة هذه،
نفزع من هامش إلى هامش،
حيث الهوامش كلها تبيد فينا ما تبقّى منا !
لشهرٍ عاشر،
“كما لو أننا جميعا سكارى، وما نحن بسكارى”
غرقى في لاوعي جماعي،
تسوقنا نزعة النجاة في هذه الظلمات
فيما الناجون هم الذين غادرونا إلى الله !
***

فقدان أبي، بعد رفضه النزوح معنا

للأسبوع الرابع، نعيش نزوحًا آخر، في مواصي جنوب خان يونس، حيث لا ماء للشرب، قرب سقيع البحر، ضمن سياق من المنخفضات الجوية المصحوبة برياح شديدة وأمطار كثيفة على وقع القصف والانفجارات. هنا، حيث لا اتصالات ولا انترنت، نشحن الموبايلات على ألواح الطاقة الشمسية، التي سرقها بعض الناس من مركز التديب المهني (الصناعة) التابع للأونروا وهم يخلون المكان الذي كان مركز ايواء، بعد أوامر جيش الاحتلال باخلاءه، حينما تمركزت آلياته وقواته هناك، غرب خان يونس، في الحي الياباني. نشحن الموبايلات لاستخدامها كراديو، نحاول فهم ما يحدث في البلاد والعباد.
للأسبوع الرابع، نفقد الاتصال بأبي الذي رفض الخروج معنا في النزوح الأول إلى الحي الياباني، وظل في حي الأمل، ثم رفض الخروج بعد أوامر جيش الاحتلال باخلاء حي الأمل، وظل هناك، لا نستطيع معرفة مصيره، حيث دخلت دبابات وآليات الاحتلال إلى حي الأمل وتمركزت حول البيت المجاور لمبنى جمعية الهلال الأحمر، الذي بدوره يحتمي فيه وفي مستشفى الأمل عدة آلاف من النازحين الذين ليس لهم مكان يذهبون إليه.
أمر اخلاء مقر جمعية الهلال الأحمر ومستشفى الأمل
ثم يأتي جيش الاحتلال بأمر اخلاء مقر الجمعية ومستشفى الأمل من مئات العائلات من النازحين، ويصنع ما يسميه ممرا آمنا للخارجين من المحاصرين باتجاه مواصي خان يونس، بمجرد سماع خبر الاخلاء، سرنا باتجاه أقرب نقطة، لا ستقبال أبي، على أساس أنه خارج لا محالة مع الخارجين، انتظرنا يومها إلى ساعة متأخرة دون جدوى، لم نلمحه بين الناس الذي وصلوا إلى منطقة المواصي، وبدأنا نلتقط خبرا من هنا وخبرا من هناك، الكل أجمع أنه كان بالفعل محاصرا مع المحاصرين في مقر الجمعية، وآخرون أكدوا أنهم رأوه وقد خرج مع الخارجين، آخرون قالوا أنه ربما ظل في مقر الجمعية ولم يخرج، آخرون قالوا إن جيش الاحتلال اعتقله مع الذين تم اعتقالهم أثناء الخروج.
أسبوع آخر من غياب معلومات عن أبي
بعد أسبوع آخر، من فقدان الاتصال بأبي، وعدم توفر أي معلومات جديدة عنه، جاءنا خبر اقتحام مستشفى الأمل وتخريب محتوياته، والاستلاء على مفاتيح سيارات الاسعاف التابعة للهلال الأحمر، وكذلك اقتحام مقر الجمعية، والتمركز فيه، بعد هدم المتنزه التابع للجمعية في الفناء الخلفي، وتدمير المحلات والأسوار والمباني المجاورة للجمعية وتحويلها إلى كومة ركام، آخر الخارجين من مقر الجمعية تحدثوا عن شهداء جثامينهم ملقاة في الشوارع، لا أحد يجرؤ على الاقتراب منها، وأفادوا أنهم تمكنوا من دفن بعض الشهداء بين أشجار النخيل خلف المبنى، ممن استشهدوا قنصا داخل أسوار الجمعية قبل احكام تطويقه، أحد الشهداء ابن عمومتي ومجايلي، معلم الرياضيات احميد القدرة.
لا معلومات جديدة البتّة عن أبي، والناس تسرد احتمالات متخيلة، أحدها، أن الجيش ربما تحفظ عليهم في مكان ما، آخرون يرون أنهم ربما حولوه إلى الداخل المحتل، وأن الافراج عنه سيكون من معبر كرم أبو سالم، جنوب شرق رفح، ورفح غارقة بالنازحين، ومهددة بهجوم بري، أي أن كل يوم اضافي في هذا الضياع، يعني استحالة الوصول والتوصل إلى معلومة جديدة تطفئ لهيب الأسئلة المشتعلة في القلب والعقل معًا.
ليلة إضافية من الرعب في رفح
بعد نهار طويل من محاولة البحث عن معلومة في شوارع رفح وعند بعض الأقارب، وبعد السؤال عن جهات يمكنها أن تفيد في ذلك، جاء الليل.. بت ليلتها شمال رفح عند أختي النازحة هناك، استيقظنا جميعا في الثانية منتصف الليل كأنما كابوس واحد دخلناه معا، على أصوات القصف والانفجارات وإطلاق النار الكثيف، اعتقدنا مبدئيًا أنّ الأحزمة النارية والغارات هي مقدمة للدخول البري، الذي يسكن الخوف منه ما يزيد عن مليون نازح في المدينة، من جنوبها إلى شمالها إلى وسطها وكذلك غربها، الخيام في كل مكان، أينما وليت وجهك فثمة خيمة.. ظل هذا الوضع المرعب وغير المفهوم مستمرًا لمدة ساعة تقريبا دون توقف للحظة، وطال كل مكان.. ثم صمت كل شيء. اختفت الأصوات.. إلا صوت الخوف والرعب وأصوات سيارات الاسعاف.
كانت ليلة كأنها قطعة من الجحيم!
في معتقل ما ومنهك من التعذيب
بعد أيام أخرى من انتكاس المحاولة لالتقاط أي خيط يمكن الامساك به، عله يوصلنا إلى أي طريق يمكن أن نسلكه لمعرفة مصير الوالد، جاءنا خبر من شاهد عيان، أحد المعتقلين والذي تم الافراج عنه، أكد أنه رأى الوالد في “معتقل” للاحتلال الاسرائيلي، وأنه كان منهكًا تمامًا إثر التعذيب الذي تعرّض له. هذا كل ما عرفناه، لا اسم للمعتقل، ولا تحديد لمكانه، ولا معرفة إن كان هناك تهمة الموجهة له.
إلى هذه اللحظة، وبعد مرور أسبوعين من الاعتقال، لا يوجد جهة يمكن مخاطبتها لمعرفة مصير الوالد. في ظل استمرار العدوان للشهر الخامس على قطاع غزة، قتلا وتخريبا وحصارا وتجويعا، في مشهد كارثي، يعدم الانسانية والإنسان.
يوسف القدرة
20 فبراير 2024
مواصي خان يونس. جنوب قطاع غزة