كتابات

عن رواية ” على ضفتي المجرى” لبلال احمد : الصراع الطبقي في المجتمع اليمني

  • بلال يتلاعب بالزمن والأحداث بطريقة تجعل القارئ يترنح بين الحاضر والماضي والمستقبل.
  • إلى جانب تناوله للأحداث الواقعية، يقدم بلال لنا في “على ضفتي المجرى” لمحات من الماورائيات، مما يضفي على النص بعدا صوفيا وغرائبيا.
  • إنها رواية عن الضياع والبحث، عن الهويات المتلاشية والمواقف المتناقضة، وعن الأمل الذي يظل موجودًا رغم كل التحديات التي تواجه الشخصيات

………..
رواية “على ضفتي المجرى” للكاتب اليمني بلال أحمد تعد إضافة متميزة إلى الأدب اليمني الحديث، حيث تمكن بلال من تقديم رواية ذات طابع جديد ومختلف. يجمع بلال في هذه الرواية بين الرمزية العميقة والتناول الواقعي المعاصر، ليقدم حكاية تجمع بين أزمنة مختلفة وتتناول تحولات سياسية واجتماعية شهدتها اليمن، بأسلوب سردي يشد القارئ ويدخله في عوالم متشابكة بين الواقع والصوفية والغرائبية.

الهوية الجمهورية وأزمات الأجيال:

تتجلى الرواية في شخصية أسامة الجمهوري، الذي يصبح تمثيلا لحالة هوية مضطربة بين الجمهورية التي يؤمن بها وبين الانهيارات التي تواجهها. الرواية لا تتناول فقط صراعات فردية، بل تعكس صراعات المجتمع اليمني الأوسع، حيث كان انهيار الجمهورية عاملا حاسما في التأثير على مصير أسامة، الذي يحمل في اسمه ذاته دلالةً واضحة على هذا الارتباط الهوياتي العميق بالجمهورية.

من خلال أسامة، ينجح بلال في إيصال فكرة أن مآزق الهوية الجمهورية في اليمن لن تتوقف عند جيل واحد، بل ستستمر عبر الأجيال، مع تصاعد الأزمات السياسية والاجتماعية. هذا التمزق في الهوية يتجلى أيضًا في الحنين الدائم لدى الشخصية إلى مرحلة الجمهورية والنظام الذي كان يطمح إلى بناء مجتمع تسوده العدالة والمواطنة.

التحولات السياسية والاجتماعية:

أنا فتحي أبو النصر عشت في مدينة الحديدة كما مدينة عدن.. في الحديدة لعبنا معا أنا والكابتن بلال احمد في نادي النصر الساحلي.. كان كابتن بلال في الفريق الأول وكنت مع شقيقه حلمي في الفريق الثاني. اتذكر ذلك لأن مدينتي الحديدة وعدن تمثلان مصهرا وطنياً لايفرق ان كنت ولدت في مدينة أخرى أنا الذي ولدت في مدينة تعز ١٥ سنة. وصعدت صنعاء عام ١٩٩٩م.

بذكاء سردي غير مباشر، تأخذنا الرواية عبر تحولات اليمن جنوباً وشمالا، مسلطة الضوء على عائلات كانت ذات يوم في صدارة المجتمع، لتصبح لاحقًا ضحية لفساد السلطة واستغلالها. هذه العائلات التي فقدت مكانتها نتيجة التغييرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وجدت نفسها تُصارع من أجل البقاء وسط عالم جديد تسوده القوة والجغرافيا.

واحدة من أبرز الجوانب التي تطرق إليها بلال في روايته هو الصراع الطبقي في المجتمع اليمني، مع بروز طبقات جديدة من الأثرياء على حساب العائلات التقليدية التي تم تشريدها، سواءً في الجنوب أثناء النظام الاشتراكي، أو في الشمال عندما حاولت تلك العائلات توطين تجارتها وخدماتها. هنا تتجلى براعة الكاتب في ربط الأحداث بطريقة تجعل القارئ يشعر أن هذا الانهيار الاجتماعي ليس مجرد حادثة عابرة، بل جزء من حركة تاريخية أوسع تشكل ملامح اليمن الجديد.

بين الواقعية والماورائية:

إلى جانب تناوله للأحداث الواقعية، يقدم بلال لنا في “على ضفتي المجرى” لمحات من الماورائيات، مما يضفي على النص بعدا صوفيا وغرائبيا. أسامة، البطل الرئيسي، ليس فقط مرتبطًا بالجمهورية، بل أيضًا محاط بهاجس دائم لفك شيفرات كونية تتعلق بما هو خارج حدود الواقع. هنا يظهر الجانب الروحاني للرواية، حيث ينغمس القارئ في تأملات البطل وأفكاره حول الكون والحياة.

بلال يتلاعب بالزمن والأحداث بطريقة تجعل القارئ يترنح بين الحاضر والماضي والمستقبل، وكأن الأحداث تلتف حول بعضها البعض في دوامة لا نهاية لها. وبدلاً من تقديم حكاية تقليدية تتبع تسلسلًا زمنيًا معتادًا، يكسر الكاتب هذا التتابع، ما يجعل الرواية متفردة في سردها ومعالجتها للأحداث.

شخصيات ثانوية تدعم النص:

إلى جانب شخصية أسامة، تظهر في الرواية شخصيات أخرى لا تقل أهمية، مثل شخصية نسرين، حبيبة أسامة التي تمثل جزءًا من هويته الشخصية والمعنوية. بالإضافة إلى ذلك، نجد شخصية الدكتور شكري الذي يحمل بداخله بارقة أمل وشخصية الأب العطار الذي يدفع أسامة نحو العمل والتخلي عن هوسه بالماورائيات. هذه الشخصيات الثانوية تضيف عمقًا للرواية وتساعد في بناء عالم أسامة المتشعب بين الواقع والخيال.

الدكتور شكري، بطبيعته الخيرية ونظرته الواقعية إلى الحياة، يمثل طريقًا جديدًا قد يفتح أمام أسامة، بينما يعكس الأب العطار الجانب التقليدي في المجتمع الذي يرى أن النجاح يأتي من العمل الجاد، وليس من التأملات الفلسفية أو الروحية.

التمرد على السائد:

من أهم نقاط القوة في رواية “على ضفتي المجرى” هو قدرة الكاتب على التمرد على السائد في الرواية اليمنية. بلال أحمد لا يلتزم بالقوالب التقليدية للسرد، بل ينحرف نحو أساليب أكثر جرأةً وابتكارًا. يقدم لنا موضوعات جديدة تتناول طبقات اجتماعية لم تحظَ بالاهتمام الكافي في الأدب اليمني، مما يجعل الرواية نصًا فريدا في نوعه.

الرواية تطرح أسئلة عميقة حول مفهوم الهوية والانتماء، وتدفع القارئ للتأمل في مصير الجمهورية اليمنية ومدى تأثير التحولات السياسية والاجتماعية عليها. من خلال تقنيات السرد المبتكرة والتداعيات الزمنية التي تميز النص، ينجح بلال في إيصال فكرة أن الأحداث السياسية والاجتماعية ليست مجرد حكايات عابرة، بل هي جزء من تيار تاريخي أكبر يتطلب من الشخصيات والقارئ على حد سواء أن يعيدوا تفسيره وتقييمه مرارا وتكرارا.

“الهضبة” وتداعيات الصراع:

أحد المحاور الهامة في الرواية هو تسليط الضوء على حروب “الهضبة” التي تلقي بظلالها على جميع الطبقات الاجتماعية، متجاوزةً الاختلافات المذهبية والجغرافية. بلال يستعرض تأثير هذه الحروب على الشخصيات والأسر، مبرزًا كيف تحولت من كونها مجرد صراعات سياسية إلى قوة مؤثرة في تشكيل المصائر الفردية والجماعية.

أسامة، الذي يرمز إلى الحلم الجمهوري، يجد نفسه محاصرا بتلك الحروب وبما جلبته من تداعيات اجتماعية وسياسية، ما يزيد من تعقيد رحلته الشخصية في البحث عن هويته ومعنى وجوده.
رواية “على ضفتي المجرى” ليست مجرد سرد لحكاية فردية أو اجتماعية، بل هي شهادة على التحولات العميقة التي شهدها المجتمع اليمني خلال عقود من الصراعات السياسية والاجتماعية. بأسلوب سردي يجمع بين الواقعية والماورائية، يقدم بلال أحمد عملاً أدبيًا يستحق الوقوف عنده كعلامة فارقة في الأدب اليمني المعاصر.

إنها رواية عن الضياع والبحث، عن الهويات المتلاشية والمواقف المتناقضة، وعن الأمل الذي يظل موجودًا رغم كل التحديات التي تواجه الشخصيات، سواءً كانت تلك التحديات مادية أو معنوية. عبر شخصياته المتعددة وأحداثه المتشابكة، ينجح بلال في تقديم نص غني بالتأملات الفكرية والتحليلات الاجتماعية التي تجعل من الرواية قراءة ممتعة وذات أبعاد متعددة.