كتابات

في تذكر من قال ” سأعطي كل كلب زهرة!”

 

بهدوء- وأناقة إذا جاز التعبير- حين رحل الشاعر اليمني الكبير عبد الرحمن فخري 80 عاما”، اغسطس ٢٠١٦ بعد رحلة طويلة مع المرض، وبعد حالة اغتراب مركبة. فالشاعر الحداثي الإشكالي والخبير والمستشار الإعلامي سابقا في اليونسكو والأمم المتحدة رحل في نيويورك بعد ان كان في السنوات الأخيرة قد غاب عن المشهد تماما، وقليلًا ما كان يخرج من بيته وقليل التواصل مع الآخرين، لأن الكآبة والعزلة، هما آخر ما تركته الأيام الصاخبة للشاعر المستوحد بوحشته، وهو الذي قضى عمرا استثنائيا، في زمن مظلم وصعب، كان فيه نجمة مدينة عدن الأجمل، وضوء الأصدقاء الكثير.

يا قلبَ الأيامْ
ما الذي يُحْزنُكَ في يوم عُرْسْ؟
هل مازالت بنتُ الجيْرانْ
تحفظُ الرَّسائلَ عن ظَهْرِ قلبْ
وأنت تُعربدُ في شوارعِ المدينَةْ”
من قصائد عام 1971
رحل فخري بلا أي نعي رسمي يستحقه.. رحل منسيا وهو الذي كان صاحب جولات وصولات في المعارك الثقافية والشعرية منذ الستينيات، كما كان الملهم لعدد كبير من الشعراء اليمنيين الشباب في التمرد الفني على التقليد والاتباع.

مبكرا في الخمسينيات درس في مصر ثم تخرج في الجامعة الأميركية في بيروت. وتكمن أهمية فخري بقصائده الإستثنائية في وقت كان يصعب على الذائقة استساغتها وتقبلها، فضلا عن انفتاحه التنظيري الممنهج على التجريب، كما بدعمه لجيل الشباب وكتاب قصيدة النثر في جنوب اليمن خلال السبعينيات، حيث تكونت حينها الموجات الأولى للشعر اليمني الحديث. يقول في احدى قصائده:
ويسْقطُ الثَّمَرُ، على الجَسَدْ
نقياً كآهات البَحرْ
يافعاً كالنَّشْوَةْ
نابَهاً، كأنَّهُ الضَّميرْ
أشربُ من دمِ الوَرْد، معَكْ
وأعافُ الذهَبَ والمَاءْ
في لحْظَة الشَّعرْ…

(.. )

نيرودا
يا قلبَ السَّلامْ
ماتَ الشُّعراءُ، بَعْدَ لوركا
وتبادلَ نوح مع ماياكوفسْكي
أنْخاب الطُّوفانْ
وتعَلَّقَ النَّاسُ بكْ
كأنَّكَ القِطارُ الأخيرْ…
من قصائد عام (1974)
حظي فخري بصداقاتٍ شعرية عميقة مع مجايليه العرب، وبالذات محمود درويش وادونيس اللذين كانا يحطان في عدن دائما، وكان فخري قد عين وكيلا لوزارة التجارة ثم وكيلا في وزارة الثقافة في جمهورية اليمن الجنوبية؛ لكنه “كان يأبى دوما ان يكون مسمارا في كرسي أي وظيفة إذ كان الإبداع والاطلاع هما غايته”. عرف فخري بتمرده الفني، وخوضه سجالات نقدية وفكرية ضد المنبرية، ورغم وقوف شعراء كبار عموديين ضده، والتهكم منه، إلا انه كان قادرا على تطويع الذائقة العامة، والارتقاء بها الى قبول الجرس الداخلي.
وما بين النصف الثاني من الستينيات، كان فخري بمثابة ظاهرة، اختط منهجا، دون أن يقصد ذلك أو يسعى له، وقد اتسع من خلال الأجيال التي سارت وراءه، حتى كان شاعرا احتجاجيا تجديديا على القديم، وسرى في أبناء جيله كمؤثر، ربما لروحه الصعلوكية والفروسية التي أخذت بيد الشباب وتهكمت على كهنة الضوابط التقليدية في القصيدة اليمنية تلك الفترة.

لماذا عصافير بلادي
تحلم بالوزن الثقيل، قبل الموسيقى
هل رأت في نومها شمساً بلا ظلال
وثماراً لم تضعها يد الرب
في أسنان الأشجار
ألا ما أطيب هذا الزمان
يأكل الكتب،ويربي الدواجن في غرف النوم
ثم يخرج الأفلام الخليعة عن الأجداد!
من قصائد عام (1972)
قال وزير الثقافة الأسبق خالد الرويشان؛ تعليقا على رحيل فخري المفاجئ في زحمة اخبار الحرب الناشبة: اليوم يذبل ويموت أروع من أنجبتهم هذه البلاد بصمت مأسوي.. في الواقع البلاد تموت بما فيها ومن فيها.

بينما قال حال رحيل فخري الروائي علي المقري: فقدت اليمن الشاعر الكبير عبدالرحمن فخري (1936 عدن ) أحد أبرز كتاب القصيدة الحديثة وشاغل الوسط الأدبي بنصوصه الجريئة طوال السبعينات.. رحل في وقت لم يعد أحد يسأل عن أحوال الأدباء والفنانين حيث تعلو أصوات المدافع والصواريخ ولا يسود غير الضجيج.
كان الدكتور والشاعر اليمني الكبير عبد العزيز المقالح رحمة الله عليه قد أقر بالدور التأسيسي الحداثي لفخري بالقول: لن ينسى تيار الشعر الجديد في اليمن دور الشاعر عبدالرحمن فخري في الدفاع عن هذا الاختيار ومقاومة أنصار المحافظة الأدبية بعامة والشعرية بخاصة.

وفي تعليق جريء للناقد الراحل محمد ناجي أحمد قال: لم يكن عبد العزيز المقالح، وعبد الله البردوني سوى احتكار ثنائي لسلطة المعرفة واختزالها بجغرافية… صورة المثقف الشعبي، وكلاهما إزاحة لمثقفين فاعلين نقديا وجماليا كعبد الودود سيف وعبد الرحمن فخري.
في الواقع كان فخري من الأشخاص الاعتباريين في عدن، إذا جاز التعبير، ولذلك كان الأكثر ألفة في الذاكرة الثقافية والأدبية لمدينة نوعية ومؤثرة في التحولات الإجتماعية والفكرية اليمنية. كان مدماكا أصيلا من التحولات المعرفية والفنية والجمالية؛ متموضعا بصفته العجوز الصاخب والمجلجل، والرقيق المشاكس أيضا.
“سأعطي
كل كلب
زهرة!”
فخري الشاعر الذي تحرر من المؤسسة السلطوية والأدبية، تحرر من المؤسسة الزوجية أيضا. لكنه أب مثالي كما عرف عنه ظل باحترام وحب اكبر لولديه فلم تنقطع صلته بهما، ولقد علقت بحزن ووفاء، زوجته السابقة، الدكتورة في الدراسات الشرق اوسطية، سعاد محمد، على خبر رحيله: افترقنا ولكن ذكرياتنا معا بحلوها ومرها لن تفترق.. على يديه تفتحت عيني على ثقافات العالم وكان في ثقافته يجمع بين التقليدي والحديث والشرق والغرب.. كل من عرفه يعرف انه كان رجلا وشاعرا متميزا ومتفردا ولا يكل عن المحاججة والنقاش ولايستسلم لإرضاء التيار أدبيا أو سياسيا. كان من الرعيل الأول في عدن الذي صمم على نيل الثقافة والسفر للخارج مهما استعصت الظروف!
من شعره

“الرمال التي لفعتنا سوافي الرياح
وأقنعة من خيوط السراب
وكم وسدتنا العظام، الصخور، النبات المرير بوادي النهار، هي ذات الرمال التي علمتنا الفراغ المسجى على ظهر كف، تهش الظلال عن الشمس حينا وحينا تشد من الأفق حبلاً ، ليرقى عليه خيال وطيف.
وكم علمتنا نعابث نخل المساء الحزين
نخاصر حلما بعرس الخطايا
ونلهو مع الموت سيفاً بسيف.
وكم علمتنا نسابق ريح الفوارس يوماً، ويوماً ننيخ الركاب على رسم دار، لتبكي الدموع التي ما بكتنا.
وما علمتنا:
بأن الرياح تهب جنوباً لتعرق حقلاً ، رماه الجفاف بعنة رب فقمنا لنعجن طيناً وملحاً ، ونستل روحاً لرب جديد من الصخر يكوي جراح التراب، ويزرع وعدا لكل الفراش بأن من النار ورداً يكون وتمراً وقمحاً وملحاً سيشعل كل السواعد .
وأن السراب كحلم العذارى بليلة صيف
ولكنه وهم من قد يسافر بين الصخور
ينتظر جريحا يعود.. ولكن بوشم كنجم الشمال
وان الصخور، النبات، الطيور، القرود، الملائكة الأبعدين، لهم سرة من خلايا الطحالب، وجه لهم من شظايا الكهوف.
وان الفراغ.. عزاء جميل
ولكنه ليس خرط القتاد، ورقما على الماء والعيس عطشى، وليس نقوشاً بقرن الشفق .
وأن الخطايا جناح العبور إلى مخدع الشمس، كانت لآدم، صارت عليه، ثم صارت له من طقوس الخلاص.
وان الذين يموتون رقصاً بسيف المنايا يموتون عشقاً وشعراً وفتحاً ، ينامون في الليل مثل المرايا، ليكحل برق جفون النهار.
وإن الدموع التي تنزف، دماً وبصاقا، تعري التماسيح منا، وتغري الطيور على القلب، يوماً، بنبع غزير المواعيد يذرو الرمال شمالاً، ويجري على الناس نهراً، وبحراً، وفجراً … يندف فوق الطواحين ملحاً وفلا وقطنا… كما علمتنا وصايا الرمال .. وما علمتنا.”

من قصائد عام 1978.