كتابات

من يوميات الشاعر الفلسطيني يوسف القدرة 

 

 نحن والمشرّدون

 

مرحباً يوسف!

 

أفكر فيك، وأتساءل كيف حالك؟ إذا كنت آمناً، إذا كان لديك طعام، كيف تكون أيامك ولياليك؟ لقد كنت أكتب مقالات وأجري مقابلات مع الفلسطينيين في النرويج، وأحاول أن أخبر بلدي بما يجري، ونحن جميعاً نعرف، والأغلبية العظمى لا توافق على ذلك. حتى والدتي المسالمة تقول إنها تأمل أن يذهب نتنياهو إلى الجحيم.

 

الجميع في النرويج يرون الحقيقة المروّعة، لكن ساستنا لا يتصرّفون ولا يفعلون ما ينبغي عليهم فعله. الدعوة إلى المقاطعة وفرض العقوبات على إسرائيل. يبدو الأمر كما لو أننا جميعاً في قبضة الولايات المتحدة الأمريكية. الولايات المتحدة هي ضمانتنا الأمنية ضد روسيا العدوانية. وفي هذا الترتيب، علينا أن نقبل ما تطلبه الولايات المتحدة منا. حسناً، اللعنة على ذلك. حان الوقت للدفاع عن أنفسنا والبدء في القيام بدورنا لوقف القتل الجنوني للأبرياء.

 

من الصعب أن أرى مثل هذه الأوقات، لكنني التقيت بأشخاص طيبين في إسرائيل. من يريد للفلسطينيين حياة كريمة ودولة خاصة بهم وسلام. والغالبية العظمى من الناس في النرويج وأوروبا يريدون نفس الشيء. آمل، وأعتقد أنه في يوم من الأيام، سترتفع أصوات هؤلاء الأشخاص بصوت أعلى من أي طائرة بدون طيار أو صاروخ أو رصاصة. أفكر فيك، وأهتم بك، وآمل أن أراك قريباً.

 

صديقك أويستين

 

*****

عزيزي أويستين

 

تحيّات طيّبات لك ولأطفالك وللعائلة، من غزّة التي تدخل شهراً عاشراً من العدوان الإسرائيلي الإحلالي، الذي ينتهج العقاب الجماعي والإبادة الجماعية وصناعة كل هذا الخراب، ضدنا نحن المدنيين.

 

يعجبني أكثر قول أمك المسالمة: “فليذهب نتنياهو إلى الجحيم”. كم لامست أمك الحقيقة، هذا الرجل المريض نفسياً وجيشه المختل لا يناسبهم سوى الجحيم

لقد كانت رسالتك الأخيرة مؤثرة، مُدرِكة لما يحدث بالضبط في هذا العالم. لقد توقفت مطولاً مع جملة: “يبدو الأمر كما لو أننا جميعاً في قبضة الولايات المتحدة الأمريكية”، فإذا كانت أمريكا هي الضمان من “عدوانية” روسيا ضد النرويج كما قلت، فالطبيعي أن يتساوق ساسة بلادكم مع توجهات الإدارة الأمريكية، إلى أن تتحرّر بلادكم من قبضة أمريكا ومصادرتها حرية رأيكم في ما يجري، كنظام على الأقل.

 

يعجبني أكثر قول أمك المسالمة: “فليذهب نتنياهو إلى الجحيم”. كم لامست أمك الحقيقة، هذا الرجل المريض نفسياً وجيشه المختل لا يناسبهم سوى الجحيم، ولا زلنا ننتظر من عالم، بلا ازدواجية معايير، أن يقدّم الاحتلال وجيشه إلى المحكمة الدولية، وأن يتخذ العدل مجراه قبل أن يذهب العالم برمته إلى الجحيم، من أجل مكاسب شخصية لنتنياهو وإطالة عمره السياسي.

 

تأخرت عليك في الرد على الرسالة، لأنه منذ شهر مضى، وجيش الاحتلال بطائراته ودباباته وآلياته، يدكّ كل حي فوق تراب مدينتنا الوديعة خان يونس، ويتقدم بريّاً فيها من شرقها وشمالها، يدكّ البيوت والبيوت حياة، ويدكّ الأراضي الزراعية ويقتلع الأشجار ويخرّب الطرقات، ويمحو في طريقه العناوين والذكريات بقوة الانفجارات المهولة.

 

ليال كاملة من الأحزمة النارية وقذائف المدافع من الدبابات والزوارق البحرية، منذ غروب الشمس وحتى شروقها لا تتوقف الأصوات المرعبة. تستطيع أن تشعر بالأرض تحتك تهتزّ، كذلك البنايات والشبابيك. أنت إن كنت في بيتك مضطر لأن تترك الشبابيك مفتوحة بسبب ضغط الهواء الناتج عن الانفجارات. شبابيك مفتوحة في هذا البرد؟ لا بأس، فلك أخوة في “الإنسانية” ينامون في الخيام والشوارع، لا يسترهم سوى الشوادر أو القليل من القماش كيفما اتفق، لا اتصالات ولا إنترنت، وعتمة كاملة يتخلّلها وميض من هناك وهناك، تستطيع من خلاله تحديد جهة القصف، لأن الصوت غالباً خدّاع، خصوصاً الصوت الأقوى والأقرب.

***

 

 

 

 

المشهد الأول

الأيام أخذت شكلاً يلائم الزمان والمكان. روتيناً ما تشكّل يوماً بعد يوم على مدى أكثر 120 يوماً مضت، كلما انطفأت الحياة في مكان، اشتعلت في مكان آخر. الأسواق تعرف كيف تسري كنهر صغير بين الخيام، تلك التي تبدو كتلةً واحدةً موزّعة كيفما اتّفق.

 

الظرف القائم وإمكانياته فرضا أسلوبهما على متن اليوم، تستيقظ العائلات مع تبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، يبدأ كل فرد من العائلة بدوره المنوط به، الأطفالُ يبحثون عما تيسّر من الأخشاب والكرتون، الأمهات يعجنّ خبز اليوم، الرجال في طابور الماء، أو في الأسواق يُحضرون ما يمكن أن يكون قوت يومهم، وفيما الخبز ينضج في فرن من أفران الطين التي انتشرت حول الخيام، توقد النار لإعداد الفطور والشاي، يمكن للجميع حضور الشمس تُشرق من بين ألسنة الدخان المتصاعدة على بعد كيلو متر أو اثنين شرق المدينة، هكذا تجتمع العائلات لتناول الفطور على أصوات الانفجارات.

 

نرى مهرجاً ودبدوب، وحولهما عشرات الأطفال، يغنون “لا تبالي يا غزة، وتحلي بالعزة”، ثم يختار المهرج طفلاً ليلقي قصيدة أو أغنية، إذا صفّق جمهور الأطفال، سيمنحه الدبدوب قطعة بسكويت بالعجوة هدية

المشهد الثاني

في الشارع، يجتمع بعض الأشخاص في طابور، وحين ترى الناس طابوراً فيجب السؤال عن السبب، الجميع يخرج بعد تناول ما تيسّر من الفطور للبحث في الشوارع والمدارس المحيطة عمّن يسجل أسماء النازحين أو السكان المحيطين بالمنطقة للطحين أو الكوبونات أو الخضروات، هكذا يصنعون طابوراً يطول للتسجيل، متى انتهى دورك هنا فسوف تستعجل الخطى، فثمة طابور آخر بعده، من جهة أخرى للاستلام لتسجيل سابق، لتجد نفسك وقُضي نصف النهار لتعود لخيمتك مرّة غانماً القليل من المعلّبات والخضروات، ومرّات كثيرة خائباً، صفر اليدين.

 

يمكن للجميع حضور الشمس تُشرق من بين ألسنة الدخان المتصاعدة على بعد كيلو متر أو اثنين شرق المدينة، هكذا تجتمع العائلات لتناول الفطور على أصوات الانفجارات.

وكذلك طوابير الشباب الذي لن يكلّ، همّه أن يشحن الموبايلات، يتحلّقون حول مخارج الطاقة الشمسية التي توفرها كلية تدريب خان يونس “الصناعة”، أو العيادة التابعتين للأنوروا، ثم بعد ساعة أو ساعتين من الانتظار، ومتى شُحنت الموبايلات يجتمعون حول راوترات الإنترنت المنتشرة على أعمدة الشوارع، ليكونوا على اتصال مع العالم، هذا إن توفّر الإنترنت، الذي غالباً ما يكون غائب لسبب ما.

 

المشهد الثالث

في السوق، والسوقُ كما وصفناه نهرٌ صغير يجري في منتصف الخيام، كل بائع يفرد بضاعته على طاولة صغيرة أمامه، وأغلب البضائع هي معلبات مُنحت كمساعدات للعائلات، بعضهم يقوم ببيعها من أجل الحصول على القليل من المال، الذي يمكن أن يساعد في مصروفات أُخرى، كالحطب الذي تجاوز سعر الكيلو منه حدود الأربع دولارات، أو الخضروات قليلة الأنواع مثل البندورة التي تجاوز سعر الكيلو منها الدولار والنصف، والبطاطا أربع دولارات، والباذنجان الدولاران، والبصل أربعة دولارات، وأربعة قرون فلفل بنصف دولار، ورأس الثوم بدولار.

 

تلك المعلبات أيضاً تباع بأسعار خيالية، تتجاوز أربع أو خمس أضعاف السعر الأصلي، أما حاجات الأطفال فصارت تستنزف العائلات من أسعارها المجنونة. فالشيكل (الذي يعادل رُبع دولار تقريباً) والذي كان مصروفاً ليومٍ كاملٍ للطفل الواحد، لم يعُد له معنى، ولا يمكن شراء شيء به. مثلاً علبة المشروب الغازي أصبحت بدولارين ويزيد، كيس النسكافيه لكوب واحد بدولار، وقطعة البسكويت بدولار، وكيس الشيبس بدولارين، وهذه مجرد أمثلة بسيطة عن عن سعار الأسعار.

 

أما اللحوم، فصارت أقرب إلى الأمنيات، إذ أصبح يتجاوز سعر الكيلو منها العشرين دولار.

 

وإذا جاء الحديث عن الملح، فقد وصل سعر الكيلو خمسة عشر دولار في مرحلة من المراحل، والسكر خمس دولارات، والرز خمس دولارات. أما القهوة، فقد وصل سعرها إلى ما يزيد عن الأربعين دولار، وغالباً ما تكون مغشوشة.

 

أما أسعار الخيام فتتراوح ما بين أربعمئة إلى تسعمئة دولار للخيمة الواحدة، حسب نوعها، الذي ينسب إلى البلاد التي تبرعت بها.

 

حين ترى طابوراً فيجب السؤال عن السبب، قد يكون لتسجيل أسماء النازحين للطحين أو الكوبونات أو الخضروات، ومتى انتهى دورك هنا فسوف تستعجل للاستلام من طابور سابق، لتعود لخيمتك مرّة غانماً القليل من المعلّبات والخضروات، ومرّات كثيرة صفر اليدين

المشهد الرابع

في الأراضي الزراعية المحيطة بمنطقة المواصي من خان يونس، الكثير من أشجار الكينا المعمّرة، وكذلك أشجار الحمضيات والزيتون والنخيل والحمّامات الزراعية، سيتضح فيما بعد حجم الخراب البيئي الذي نتج عن قلع تلك الأشجار بأنواعها، فقد قطّع الناس حطبها وباعوه بالكيلو، بسبب أزمة الوقود وحاجة الناس للحطب لطهي الطعام، معتدين بذلك على حقوق أصحاب الأراضي. ليس هذا فحسب، فقد سُرقت الأنابيب من تلك الأراضي، والنايلون من الحمّامات الزراعية، مجموعات من اللصوص على هامش العدوان نهبوا كل شيء من الأراضي الزراعية.

 

المشهد الخامس

 

في ساعة الغروب، تعود العائلات إلى الخيام، تهبط العتمة سريعاً لتمحي المكان وتفاصيله، يصير كتلة صامتة يكسرها ضوء خافت من هناك أو بكاء طفل من هناك، البرد بدوره يشتد، يتحلّق الرجل على أطراف الخيام، يشعلون ناراً، تشترك كل مجموعة في موقد، يكون لهم مصدراً للدفء، ويمكنهم إضافة غلّايات الشاي لعائلاتهم المتكومة في خيامها، ويمكن كذلك تحميص بعض قطع الخبز الزائدة لتكون عشاء اليوم.

 

 

المشهد السادس

في العيادة القريبة، التابعة للأونوروا، ترى طابوراً من النساء اللواتي جئن ليكشفن عن أطفالهنَّ، جوقة من البكاء والصراخ والأنين، مصابون بالسخونة والقيء والكحة وغيرها من أعراض تتشابه، يصرف لها الطبيب الأدوية ذاتها، ملامح ذابلة على وجوه أهلكها سوء التغذية وغياب الرعاية الصحية.

 

على هامش اليوم، يمكننا أن نرى مهرج ودبدوب، يلتف حولهما عشرات الأطفال، يغنون “لا تبالي يا غزة، وتحلي بالعزة”، ثم يختار المهرج طفل ليلقي قصيدة أو يغني أغنية، إذا صفق جمهور الأطفال، فيمنحه الدبدوب قطعة بسكويت بالعجوة هدية. هكذا يقضون ساعتين ما بين الأغاني والأشعار والهتافات، يملأ صراخهم سماء المخيم.

 

 

 

“ثمة خبر سار، اليوم تدفّق ماء البلدية إلى بيوت الحي”

عزيزتي بيسان

انتهت أيام الهدنة! ستسألين عن الفرق بين أيام العدوان من البر والبحر والجو، وبين أيام الهدنة.

نعم، ثمة فرق واضح، العدوان كان من الخارج، مع تنبه شديد من كل الحواس، سمعك يتجاوب مع كل صوت، وفي نظراتك تلفت مستمر بين السماء والأرض، وعن يمينك وعن يسارك، أعصابك مشدودة على آخرها، لا مجال للاسترخاء إلا إذا أنزل الله عليك السكينة في لحظات نوم تنقطعين فيها عن كل هذا الجنون.

أما ونحن في الهدنة، فثمة عدوان من نوع آخر، لن أحدثك عن صعوبة توفير الماء والغذاء وإلخ، ثمة عدوان أشد صعوبة، يأتي من الداخل، من داخلك أنت، كشخص أجّل ردود فعله وخزّن مشاعره طوال ثماني وأربعين يوماً، تحوّل فيهم إلى آلة من الصبر والاحتمال والاحتساب.

عيناك تتحولان إلى عدو حين تنفتحان على هول الكارثة، على فيديوهات تأتي من كل الجهات تأكد أنه لم يعد شيء كما كان، أما المقابر الجماعية، فمفتوحة للجثث التي تحللت في الطرقات منذ بدأت العملية البرية، كذلك أنفك الذي الذي انفتح على روائح الموت والغبار، جسدك الذي يبدو هزيلاً، يشتاق إلى حمام طويل غير ممكن في ظل شح الماء.

إنسي غزة التي في ذاكرتك، لم تعد موجودة، ثمة غزة أخرى، من سيبقى على قيد الحياة، عليه أن يعمرها، غزة جديدة معمّدة بدماء أهلها الطيبين، البسطاء، الذين ساهم العالم في سحقهم وسحق مدينتهم

القلب المجنون الذي في صدرك، كيف احتمل تأجيل كل هذا الحزن، ليس أقلها غياب عصافير الدوري من مشهد الصباح، وتكوم القطط على نفسها ميتة على جنبات الطرق من الجوع والعطش والبرد، كذلك اختفاء الكثير من شجر الشوارع الذي تحول إلى حطب لإيقاد النار

بيسان

إنسي غزة التي في ذاكرتك، لم تعد موجودة، ثمة غزة أخرى، من سيبقى على قيد الحياة، عليه أن يعمرها، غزة جديدة معمدة بدماء أهلها الطيبين، البسطاء، الذين ساهم العالم في سحقهم وسحق مدينتهم.

ستعاودين السؤال عما أفعل في الهدنة، لا شيء، أشعر أنني أقل حيوية، قضيت اليوم الأول في نوم أهل الكهف، كأنني أخزن نوما لليال لا نوم فيها. وخسرت 10 كيلوغرامات من وزني خلال أيام الحرب. كل ما فعلته سابقاً من رياضة شديدة وبرامج غذائية وصوم متقطع لم يأت بهذه النتيجة السريعة.

نعم، ما زلنا بلا كهرباء، بلا ماء صالح للشرب، بلا مواد غذائية إلا بعض خضراوات الموسم، الطوابير على كل شيء، دخلت شاحنات تم تخزينها، لا يدري الناس متى يتسلمون ما قد يسد جوعهم. حاول الكثير من الناس العودة إلى تفقد بيوتهم من الجنوب الشمال، ولكن دون جدوى، فالآليات العسكرية تقطع الطريق عليهم وتمنعهم من التقدم، على عكس من يريد الخروج من الشمال إلى الجنوب.

خسرت 10 كيلوغرامات من وزني خلال أيام الحرب. كل ما فعلته سابقاً من رياضة شديدة وبرامج غذائية وصوم متقطع لم يأت بهذه النتيجة السريعة.

كل الوجوه منهكة، كل العيون شاردة، حتى السماء رمادية، نهارنا حار، وليلنا في منتهى البرودة، فالخيام لا تطاق في النهار ولا تقي برد الليل.

كيف حال اسطنبول؟ ما زلت أتذكر جحيم متابعة الأخبار من الخارج، تابعنا عدوان مايو/ أيار 2021 من هناك، أريد أخبرك سراً، الأمر أهون بكثير رغم كارثية ما يحدث حين تكونين داخل المشهد، فأعانك الله على قسوة الغربة وقسوة المشهد من الخارج.

 

 

 

 

 

القيامة الصباحية في النزوح

جود، ابنة أخي، حزينة على شنطتها وكتاب التلوين ودفترها وقلمها وبرايتها وممحاتها، وبعض ملابسها التي ذهبت في قصف شقتهم، ضمن القصف الذي طال أبراج “تيكا” جنوب غزة.

لكن مهمّة العثور على بدائل للمفقودات السابقة تبدو أسهل بالنسبة لمهمة مستحيلة اسمها “رغيف خبز”، فقد أغلقت الكثير من المخابر أبوابها، إما لنفاد الوقود المشغّل لها، أو لنفاد الطحين، أو كلاهما، هذا بالإضافة إلى نفاد كل شيء يمكن أن يُؤكل من المحلات الكبيرة والصغيرة.

مهمة لا تقل صعوبة عن العثور على الخبز هي العثور على حبة فلافل ساخنة في قطاع مدمر، فالفلافل جزء أساسي من وجبة الإفطار التي غابت منذ شهر، والناس لم تعد تجد ما يمكن أن يؤكل، وزادت ندرة الطعام مع الأعداد الهائلة التي جاءت تحتمي من نيران غزة المدينة وشمالها وشرق المدن، في ما افتُرض أنه مأوى.

الصباح هنا قيامة للبحث عن رغيف الخبز، وقيامة للبحث عن شربة ماء. اقترحت على أخي أن حبات الفلافل يمكن أن توفّر غموساً للناس، ويمكن أن تؤكل وحدها، لا سيما إذا كانت هناك عائلات لم تتمكن من الحصول على الخبز.

العثور على مكونات الفلافل

بدأ بالتشكيك في القدرة على توفير ما يمكن أن يحقّق الفكرة: الحمّص وطحنه مسألة ليست سهلة، توفير الخضار التي يمكن أن تضاف، وكلفة “بهارات” الفلافل، وزيت القلي، ثم بديل الغاز للنار.

 

كيف يمكن العثور على مكونات الفلافل في غزة؟ الحمص، الماء النظيف، البهارات، الزيت، والغاز؟ بصعوبة بالغة لكنها ليست مهمة مستحيلة

لندخل في التجربة، كان اقتراحي توفير كيس حمّص ونقعه، ثم في الصباح سييسّر الله الأمر. بالفعل، دبّر أخي الحمّص، وتمكنا من توفير المواعين لنقعه. بدا الأمر سهلاً.

 

دبّرنا ماكنة طحن يدوية. مرّ الليل. مع الفجر صحونا على أمل أن نتمكّن من تذوّق الفلافل اليوم. جربنا الطحن على الماكنة. إنها تعمل، لكنها تعمل ببطء، واحتمال أن ننتهي من الكمية بعد يوم القيامة.

 

إقناع أمي بإعارتنا جرة الغاز

لدينا ماكنة طحن كهربائية، لكنها تحتاج إلى مولد كهربائي خمس كليوات، إنما يمكن للمولد أن يعمل على الغاز. كان تدبير أمر المولد سهلاً، أما الأمر الثاني وهو الغاز، فسنحتاج لأن نقنع أمي أن نستخدم الغاز الخاص بفرن الخبز عندها. هذا الأمر ليس سهلاً.

 

لكن المدخل لإقناع أمي ليس صعباً، وكان واضحاً لنا على مرأى شبابيك البيت، فالناس لا تجد ما تأكله، والفلافل ستكون مساهمة لوجه الله تعالى، والمولّد لن يستهلك الكثير من الغاز… وأخيراً اقتنعت.

أقنعنا أمي بإعارتنا جرة الغاز التي تستخدمها للخبز لتشغيل ماكينة الطحن بإخبارها أن الناس لا تجد ما تأكله، وبالفعل وافقت

بدأنا في طحن الحمّص بعد أن عمل المولد، وعلى نفس واحد، أنهينا طحن الكمية التي نقعناها خلال الليل. كان الشك أن الكمية كبيرة جداً على تجربة، لكنها ستنتهي ولو كانت عشرة أضعافها.

“جهّزوا النار ووعاء للزيت واتركوا الزيت يحمى ريثما نجهّز وجبة بالكلفة”، ومن ثم ظهر سؤال: من سيعمل على قالب الفلافل ورمي الحبات في الزيت؟ وأيضاً كان الجواب جاهزاً: “أبو يزن طبعاً”، أجابوا جميعاً. وأبو يزن هو خريج “أبو مازن”، أفضل مطعم في حي الأمل.

 

 

غزة خان يونس 

“وين عيلتك؟ الحمد لله، اطمنت عليهم ودفنتهم قبل ما أنزح”

أحدهم وصل للتوّ من شمال القطاع إلى جنوبه، بعد أن فصلتهما آليات وقوات الاحتلال الاسرائيلي مع بداية العملية البرية.

بدا الرجل مرتعباً، بلا ملامح، وجهه قد خطف شيء ما لونه. كنتُ رامياً بجنبي على سيارة أخي في انتظار شحن بطارية الموبايل التي فرغت تماماً من طاقتها، تاركاً ضوء الشمس يغسلني من تعب تسلل إلي.

جاء الرجل باتجاهي، سألني متلعثماً:

– بلاقي هون محل أنام فيه بس، المكان أمان هون؟

صادف سؤاله عن الأمان سقوط صاروخ بغتة على هدف ليس بالبعيد منّا، وتشكلت سحابة دخان حجبت ضوء شمس الصباح.

بعد أن هدأ قلبي من رجفته إثر الصوت فقط، نظرت للرجل مبتسماً، لكن لم يبتسم هو لي، قال:

– هادا ولا إشي يا عمي، هاد مزح بالنسبة لشو عشنا.

– من وين يا عم؟

– من حي الزيتون، وصلت قبل ساعة.

– كيف؟

سألته مستغرباً. فلم يعد الأمر سهلاً مع وجود الدبابات على الطرق الواصلة بين غزة والجنوب، وشخصياً لم أصادف من استطاع القدوم منذ أن تم فصل القطاع إلى نصفين بقوة السلاح من السماء والأرض والبحر.

أحدهم وصل للتوّ من شمال القطاع إلى جنوبه، بعد أن فصلتهما آليات الاحتلال الإسرائيلي، بدا الرجل مرتعباً، بلا ملامح، سألني متلعثماً “بلاقي هون محل أنام فيه بس، المكان أمان هون؟ وصادف سؤاله عن الأمان سقوط صاروخ على هدف ليس بالبعيد منّا

– كيف وصلت يا عم؟

– مشي.. مشيت من الزيتون في شوارع فرعية لحتى وصلت دوار دوللي، ومن هناك لقيت عرباية كارو، وركبت مع الراكبين لحوالي ثلاثة كيلو متر تقريباً على شارع صلاح الدين، وبعدها نزلت ومشيت.. مشيت.. مشيت.

– بس في دبابة بتقطع الطريق، كيف تجاوزتها؟

– دبابات مش دبابة، والجثث هناك كثيرة كثيرة، وبدت تتحلل وما في حدا مسترجي يوصلهم.

– تجاوزت الدبابات مشي على رجليك؟

– لا يا عم، قبل ما أصلها وقفتلي سيارة فيها عيلة، وركبت معهم، عند الدبابات وقفت السيارة ونزلنا كلنا، ورفعنا إيدينا، والرجال رفعوا ملابسهم عن الخاصرة، كلنا عملنا هيك من الرعب والخوف، وعيوننا بتتمرجح بين الدبابات والجثث، والله الخوف أكلنا أكل يا عمي، ظلينا رافعين إيدينا وندور حولين حالنا، ونوقف وندور ونرجع نوقف وندور، وبنخطف نظرات لبعضنا وللجثث زي اللي بنسرق…

وصف الرجل حالة الانتظار والدوران والذعر السابقة بين الجثث والدبابات بأنها استمرت لساعة، قبل أن يسمع المرعوبون صوتاً لعله من إحدى الدبابات يقول لهم “يلا روخو”، يكمل:

– ما شفنا جنود على الأرض، شفنا جثث.. جثث كثيرة على جنبات الطريق، بعضها بدا يتحلل.

نظر إليّ، وبصوت خافت، قال لي كأنما يستودعني سراً: “عطشان، ما في شربة مي؟”

صمت قليلاً، وشاطرته الصمت، ثم نظر إليّ، وبصوت خافت، قال لي كأنما يستودعني سراً له

– عطشان، ما في شربة مي؟

ناديت على صاحب بسطة المشاريب القريب:

– اتنين قهوة ودبر قزازة عبيها مي حلوة بحياة إمك.

ثم نظرت إلى الرجل وسألته

– أكلت شي؟

– والله ما أكلت شي من يومين.

– أنا كمان ما أفطرت، بنفطر مع بعض.

في انتظار زجاجة الماء، شرح لي الرجل كيف أنه بالأمس صلى صلاة الفجر وخرج من حارته، أو ما تبقى منها، ووصل فجر اليوم، الطريق الذي يأخذ ساعة على أعلى تقدير، أخذ معه أربعاً وعشرين ساعة من الرعب والتعب والرجاء كما يقول.