خاص| انزياحات
“أغسطس ٢٠٢٤” ربما لن أكون سعيدًا بعد أن مات الأمل، لكنني تعلمت هذه الليلة كيف يعيش الناس بالصبر في هذه المدينة؟
أنا الآن في المنزل بعد أن عملت طيلة هذا النهار الطويل في مساعدة أحد الزملاء المصورين، لم أجني شيئًا من المال، ولم أحصل على فرصة عمل أيضًا، لكنني مطمئن بعض الشيء ما زالت أتناول رغيف وفاصوليا وشاي أحمر.
تجولت في المدينة بعد عشر سنوات من الحرب، هذه المرة صادفت وجوه مختلفة عن تلك الوجوه التي كانت تظهر على شاشة التلفاز في القرية، أخبرني محمد؛ كيف كان الناس يقابلون الموت؟
-كانوا يحملون أسلحة مختلفة ويظهرون مدججين بالأحزمة القتالية يدافعون عن فتيات المدينة.
فتيات تعز جميلات بالفعل ما إن تصادف واحدة تُعجب فيها من أول سلام وضحكة على الرصيف المزدحم، ما إن تذهب وتأتِ أخرى أجمل منها تظن أنك قد وقعت في حبها، هكذا هو عهد الجميلات يسحرن القلوب ويعودين في المساء بمضض إلى حضن رجل آخر.
قضيت من عمري ما لا تحصى من الهزائم النفسية والخوف من أصوات المدافع والرشاشات العسكرية وقذائف الإر بي جي لكنني لم أموت منها، تذكرت قصة، أخبرني بها صديق جريح في الحرب عن الموت خلال السنوات الماضية:
-كان الموت القاتل سيد المكان، يأتي بأشكال مختلفة ويأخذ من يريد بأجساد مكتملة أو يمزقهم إلى اشلاء، كان الناس لا يخافون منه حتى الأطفال كانوا يذهبون إلى معانقة السماء الزرقاء في كل مساء بأجساد ممزقة وهم يبتسمون، الكثير من الشباب كانوا يحملون أرواحهم بحماس التحرر ويقاتلون بشجاعة الحق، لأن عدوهم واضح قناصات وقذائف وألغام بعضهم يعود بنصف جسد وبعضهم في أكياس بلاستيكية، الآن أصبح الموت جبانًا، خطيرًا ووهمي، تموت بلا سلاح مستخدم، لا تعلم من القاتل الشبح كون الجريمة بلا أثر على جسد الضحية.
الآن أشعر أن الموت يغمرني ببطء، مع ذلك عدت للبحث عن الحياة في الأزقة التي تدعي أنها مليئة بالأمل، وتعاود ترميم جروحها بضحكات الباعة والمتجولين.
كلما شرعت لكتابة ما حدث لي ذلك اليوم، صباحية السابع من أغسطس، حينما مررت في أزقة حي الثورة المكان الذي يبعد عن سكني حارتين وبعض تشققات الشارع الحزين من الحصار و الصبيات الترابية المكتظة على صدري من بقايا الحرب، أتوقف كثيرًا عن فعل ذلك، المجازفة بكتابة شيء مررت به شعور يثقل صدري، خوفًا أن لا أعطي شعور الألم حقه أو الأمل أيضًا، جُل ما بدأت بكتابة قصة عادتني الغصة مرةً أخرى.
شاهدت مدى تغير ملامح المكان من الدمار، يتسكع الموت فرحًا بقهر الصبايا اللواتي يحلمن برجال شُقر ولا يحصلن إلا على شاب مبتور الأطراف، وخيبة الأمهات اللواتي يتشردن من مكان إلى آخر دون جدوى لوجود الطعام الكافي لأطفالهن، وحسرة الآباء الذين يصابون بالأرق من التعب بعد العمل الشاق دون أن يجنوا قليلًا من المال.
هنا في المدينة قصص لم يكتب عنها أحد، لم تلتقطهن العدسات اللواتي يظهرن سحر المدينة وجمالها في عتمة الليل، قصة أخيرة هنا طفلة صغيرة في الثالث عشر من عمرها تبيع السندوتشات أمام كافتيريا لا بأس بها من حيث الديكور، تنادي العابرين المتهالكة جيوبهم:
-كم سندوتشات؟.
لا يشتري منها إلا المتسلفين، وأب لطفلة على كرسي متحرك يقف أمام الكريمي يرفع يد التسول بعد انقطاع الراتب، وشاب غضوب مثلي عائد من العمل يحمل شهادة الفشل، في الشارع المقابل أيضًا لاحظت فتاة جميلة يبدو أنها عروسة منذ بعض أشهر خارجة من مختبر خاص بالنساء والولادة تبكي على كتف زوجها المرتبك من نظرات الناس إليه، كأنهما خسروا طفلتهما الأولى في رحمها الضيق.
بعد أن تعبت من السير على الرصيف المتعب مثلي، تأملت لجسدي النحيل كيف يموت ببطء؟ حينها عرفت أن الموت يبدأ بعد انتهاء الحرب، حيثُ يصبح الفقر والبطالة سيد المكان والملك الفرعوني الذي يتحكم في أخلاقيات وإنسانية الناس.
مؤلم أن تشاهد كل هذه القصص ولا تستطع فعل شيء لأجل أحد حتى نفسي لم أستطع مساعدتها في تخطي الفراغ القاتل رغم محاولاتي المتكررة بالبحث عن العمل، أفكر الآن بعد أن توقفت من العمل، كيف سأحصل على قيمة وجبة طعام تستر أحشائي من الجوع أمام مسخرة أصدقائي؟.