كتابات

الذوق.. العصب الحائر

 

هو الباعث الحقيقي للإحساس بالجمال والارتياح. الذوق نعمة تستحق الحمد والامتنان. هو ميزان داخلي “ثيرمومتر” فطري يدلّنا على قيمة وجمال الأشياء، مادية كانت أو معنوية، وهو أشمل وأعمق وأهم من فن آداب السلوك “الإتيكيت” الذي يراه كثيرون مرادفاً للذوق.

نعم هناك قواسم مشتركة بين الذوق و”الإتيكيت” لكنهما مختلفان في نظري. قد يصبح الإنسان مبدعاً في فن “الإتيكيت” لكنه دون ذوق، لأنّ الذوق مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالفطرة السليمة، ولا بد أن يكون متأصلاً في صاحبه مثل أيّ عضو في جسده.

الذوق مصدره الخير للنفس والآخر بمنأى عن الشكليات والتكلّف. “الإتيكيت” له مدارس تضع له قواعد ومبادئ وبرامج تدريب بغض النظر عن طبيعة الإنسان وحقيقته. الذوق لا يتحقق إلّا بنظافة العقل والقلب، سواء كان ذوقاً تحسّسيّاً ماديّاً أو ذوقاً حسّيّاً معنوياً. كلاهما يرتبط بالانسجام، التصالح مع المحيط ثم الإحساس بمعنى الحياة. الذوق والعصبيّة لا يجتمعان؛ والذوق والسّخرية متنافران. الذوق قائم على احترام وقبول الاختلاف الذي غالباً ما يكون وراء العصبية والسخرية.

حياة عامرة بالذوق تعني حياة مشعّة بالجمال الطبيعي. أرسطو يعتقد أن الجَمال هو الانسجام من خلال وحدة تجمع التنوع والاختلاف في كلٍّ منسجم. وأفلاطون يرى أن الجَمال هو الحياة التي وهبها الله لمخلوقاته وبثّ فيها من روحه، ولهذا فالشيء الجميل هو دائماً ما يكون نابضاً بالحياة.

والحقيقة أن الإحساس بجمال الشيء لا يمكن أن يقف على السطح، وإنما يخترقه ولا يتحقق إلّا عند تذوّق ماهيته وإدراك قيمته. لهذا يرتبط الذوق بالجمال وهما وجهان لعملة واحدة مصدرها توقّد الدماغ ونقاء القلب. الذوق مزيج من الخير والانسجام والفطنة والجمال والفطرة السليمة. ومن أنعم الله عليه بالذوق فهو ثريٌّ مهما ساءت أحواله المادية، أما مدّعي الذوق أو قليل الذوق فهو أفقر خلق الله مهما بلغ من الثراء، أو تدرّب في أشهر مدارس “الإتيكيت”.

أن تشعر بمذاق وجمال شيء ما يعني أن تستدل على مكوناته وانسجامها مع بعضها، وهذا يتحقق بصحة الحواس والدماغ وقدرتها على الإحساس وإدراك أسرار هذا الجمال ليتحقق التذوق التحسّسي؛ أما أن تشعر بجمال الأخلاق والتعامل وحسن السلوك والتصرف فيعني أن تستدلّ على خير الدافع النابع من الدماغ والقلب والفطرة السليمة، وبالتالي القدرة على إدراك الجمال فيتحقق بذلك الذوق الحسّي السلوكي .

الذوق عصب الحياة فعلاً وأثراً، هو أساسي في تركيبة الإنسان وإحساسه بما ومن حوله. أراه، مجازياً، يشبه العصب الحائر وليس بعيداً عنه في دوره وأثره؛ كلاهما، الذوق والعصب الحائر، محرك رئيس للعديد من الوظائف الحسّيّة والحركيّة وصحّتها في الإنسان. العصب الحائر أو العصب المبهم سُمّيَ بهذا الاسم لأنه العصب الوحيد من الأعصاب القحفية – الخارج من الدماغ وليس من الحبل الشوكي – وهو ممتد في أنحاء الجسم أو “متجوّل” حسب التسمية اللاتينية. وهو المسؤول عن إرسال الألياف الحسّيّة ونقل المعلومات من الدماغ إلى أعضاء الجسم المختلفة. تماماً مثل الذوق، فهو مؤشر على سلامة وصحة الإحساس والشعور، وهو حاضر ومتجوّل في كلّ لفتة، ورسائله التي يرسلها تنبع من تصرّف الإنسان وتعامله وتربيته؛ وهي قادرة على كشف شخصيته لمن حوله.

صحة الذوق تعني صحة الأفكار والأخلاق والأهداف، وهي دليل على اختيار الخير والحقيقي والصلاح ونبذ الشر والباطل والفساد. يقول توماس جيفرسون: “لا يمكن للقانون أن يتحكم بالذوق”.

انزياحات عن مجلة الناشر الأسبوعي – النسخة العربية التي تصدر عن هيئة الشارقة للكتاب