كتابات

خيانة المثقفين .. أخلاقيات وقيم اتجاه مجتمعهم

محمد برو

كتاب “خيانة المثقفين” واحدٌ من أهمِّ الكتب التأسيسية، التي تناولت دور المثقف وأهميته في محيطة الاجتماعي، وخطورة تقاعسه عن هذا الدور الطليعي، وركونه إلى الدعة والحياة الباذخة، التي تتعالى عن الاهتمام والانخراط في قضايا الشأن العام، التي تتمحور حولها حياة الناس ومشكلاتهم، نشر الفيلسوف الفرنسي “جوليان بندا” “1867-1956” هذا الكتاب في طبعته الأولى عام “1927” بعيد الحرب العالمية الأولى، ثم أعاد طباعته ثانيةً بعد أن قدَّم فيه إضافات مهمة، بعيد الحرب العالمية الثانية عام “1946” عقب خروج القوات الألمانية من فرنسا، وقد عانت فرنسا يومها الكثير من تخاذل طبقة من المثقفين، وتقاعسهم أو نأيهم بأنفسهم عن قضايا الشارع، الأمر الذي سماه “جوليان بندا” خيانة المثقفين.

يصور جوليان بندا هذه الأزمة العنيفة التي طرأت على المثقفين، فلامست أخلاقهم وإنتاجهم، ومواقفهم من المشكلات الهامة والخطيرة، التي بدأت ترخي ظلالها بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، فأين يقف المثقف في هذا الاضطراب الوعر، الذي حلَّ بالمجتمع والأفراد على حدٍ سواء، وهل يصح له النأي بنفسه عن مشكلات الناس اليومية والتي تلامس كل مناحي حياتهم، وهل لهذا المثقف الذي قصر حياته على مجاني الفكر ويقظة العقل المتفكر، والنفس المترفعة عن الدنايا، أن يغفل عن خطورة دوره ومسؤوليته تجاه محيطه العام، فيبني لذاته برجاً عاجياً ينعم فيه ببرودة الفكر وكسل الروح.

والمثقف الممتاز حسب تعبير “جوليان بندا” مسؤول بالدرجة الأولى عن ثقافته وتكوينه العلمي، أو الفلسفي أو الأدبي أو الفني، وهو إلى ذلك مسؤولٌ عن نتاج هذا العقل وفيوضاته، وتأثير هذا النتاج في بيئته المحيطة، والبعيدة على حدٍ سواء، وأن يكون مثالاً حياً لهذه الثقافة التي ينشرها، فلا يصح أن يكون منظراً سياسياً يحرض المحيطين به على الوقوف بوجه الجور، ويكون هو نائيا عن هذا التمثل، متعاليا ومتباعدا خشية أن يناله ما ينال عامة الناس، وهو فوق ذلك مطالب أن يكون صريحاً مجاهراً بآرائه فلا يخشى غضب السلطة الحاكمة، أو سخط الجماهير الغفيرة ولا تغيره ميول الأكثرية أو ضعف الأقلية، لأن جوهر ما يحركه إضافة لقوة المنطق وسطوة العقل، إنما يكمن في تمسكه بالكرامة والحرية، التي تشكل أحد أهم مقاصد الفكر والثقافة.

يحفل التاريخ القديم والمعاصر بمفكرين وفلاسفة وخطباء، كانوا في المقدمة من كل قضية تلامس حياة الناس البسطاء، فكانوا لسان حالهم وضميرهم، وصوت مشكلاتهم، وفي طليعة المبادرين والمضحين، وهم بهذا نالوا ما يستحقون من ذكرى خالدة وتقديرٍ كبير، بل تساموا حتى بلغوا مصاف الأبطال العظماء، ولا يمكن بحالٍ من الأحوال مقارنتهم بمن كانوا ممالئين للسلطة، مداهنين في مواقفهم يمجدون القوي ويتعالون على عامة الناس وحقوقهم المضيَّعة.

وقد أشار المفكر الفلسطيني “إدوارد سعيد” إلى الكتاب، وإلى مدى أهميته في كتابه “تمثيلات المثقف”، ويرى بندا أنَّ المثقف الحقيقي، والأمين على دوره الريادي يرقى لمنزلة “حفيد الأنبياء” صاحب الرسالة الفكرية والموقف الأخلاقي، بما يستدعي هذا من تضحية ونضال، وقد عبَّر عنه “إدوارد سعيد” بأنه يمثل الحقيقة في مواجهة القوة، ولذا نجد إلى اليوم أن المثقف الحقيقي يتعرض للتهميش والتضييق والنفي والاعتقال.

وقد أحدث كتاب “خيانة المثقفين” في طبعته الأولى زلزلةً عميقةً في الأوساط الثقافية الفرنسية ،إثر صدوره عام “1927” وشطر الرأي العام إلى شطرين، أما في طبعته الثانية عام “1946” فقد هاجم فيه طبقةً من المثقفين الذين تخاذلوا عن دورهم المأمول، بل ذهب بعضهم ليكون من أدوات المحتل النازي آنذاك، بينما كانت مهمتهم تقتضي منهم البعد عن كل التبريرات التي تسوغ لهم تقاعسهم بحجة ما يسمونه بالواقعية السياسية، جدير بالذكر أن الترجمة الحقيقية للكتاب هي “خيانة الكهنة”، ولم يفرق جوليان في هجومه بين يمين أو يسار فقد كان يتحدث عن أهمية الدور الذي تنكَّب عنه الكثيرون، سواء بالوقوف مع الجهة الخطأ، أو بالتزام الصمت الذي هو شكلٌ من أشكال الخيانة.

ويستند “بندا” فيما يذهب إليه، إلى حكاية ينقلها عن الروسي العظيم “تولستوي” أنه خلال مسيرةٍ عسكريةٍ شارك فيها حين كان ضابطاً، رأى واحداً من رفاقه الضباط يضرب عسكرياً حدث له أن ابتعد بعض الشيء عن صف العساكر. فقال له تولستوي: أولا تشعر بالخجل إذ تضرب واحداً من أبناء البشر أمثالك؟ أفلم تقرأ ما يقوله الإنجيل؟ فما كان من الضابط الآخر إلا أن أجابه: وأنت أتراك لم تقرأ التعليمات العسكرية؟ ويعلق بندا قائلا، إن “هذا الردّ هو الذي دائماً ما يختبئ خلفه رجل الروح حين يريد تسيير الأمور الدنيوية.

خيانة المثقفين 2020 ، نشر دار الروافد وابن النديم للنشر ، يقع الكتاب في 275 صفحة