كتابات

“الديوان العدني”الجبل كان أعمى حتى أضاءه البحر

نقلًا عن خيوط- محمد عبدالوهاب الشيباني 

قبل عشرين عامًا، كنتُ شاهدًا قريبًا على ولادة المجموعة الأولى للشاعر فتحي أبو النصر “نسيانات أقل قسوة”، حينما صدرت في العام 2004، بواسطة اتحاد الأدباء والكتّاب اليمنيين، وبعد خمسة أعوام تقريبًا، أصدر الشاعر مجموعته الثانية التي حملت عنوانًا شديد الخصوصية “موسيقى طعنتني من الخلف”، وقبل الحرب بقليل أصدر مجموعة مزدوجة بواسطة دار نشر كويتية، حملت عنوان “أعناق طويلة لظني ورحيق دخان”، وها هو يعود بعد عشرة أعوام ليصدر مجموعته الرابعة بواسطة مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر بعنوان “الديوان العدني”، ويشتمل على مجموعة من النصوص المنفتحة على أفق الكتابة اللامجنسة، وأنتجها غالبًا في فترة إقامته الأخيرة في المدينة.

فتحي أحد شعراء الألفية الثانية الذين تشكّلوا بين جيلين إشكاليين، هما: جيل التسعينيات الشعري الذي شهد التحولات الكبرى الثقافية والسياسية وانهداماتها في ذات الوقت، وعبّر عن بلبلتها بتلك المغامرات المتنوعة في المنتوج النصي المتوزع على كتابة قصيدة النثر والوزن والعمود، وجيل العشرية الثانية أو ما يعرف بجيل سنوات الأزمة والحرب، التي صارت نصوصهم تمثيلًا لحالة التشظي في الحياة وتذررها المصمت؛ بسبب سنوات الحرب العبثية، التي أعادت إحياء وتموضع الخطاب الظلامي والارتكاسي في حياة المجتمع، ونخبته التي بدّلت من أولوياتها في التعاطي مع المنتوج الثقافي، ليصير الشعر بنزوعه التجديدي أقل طلبًا في سوق التلقي، قياسًا بالقصيدة الشعبية والزوامل والقصائد المنهمكة في سردية الحرب وحافزاتها التحريضية.

انحاز أبو النصر منذ تكوينه الشعري الباكر أواخر التسعينيات إلى الشكل الجديد في الكتابة الشعرية، التي تغامر ليس فقط في هتك الشكل والأسلوب السائد والمعمم في القراءة الكسولة، وإنما داخل دينامية الموضوعات نفسها، فجاءت نصوصه، وقبل ذلك عناوينها، أكثر تمرّدًا وليونة قاموسية، إذ لم تعد اللغة الباروكية والتصنعية هدفًا للكتابة ذاتها، كما يحاول الكثير من أبناء جيله الاتكاء عليها، وإنما تلك اللغة المتداولة في اليومي وشيوعه في لغة الخطاب.

هذه اللغة البسيطة والحادّة في آن، سيحملها معه أيضًا في مجموعته الجديدة (الديوان العدني)، واستدللت عليها من مجمل المنشور للقصائد في صفحة الكاتب، وهو ما سأبني عليه هذه الانطباعات الأولية عن الديوان، لتصير تحية أكثر من كونها قراءة متماسكة.

(**)

تُختصر عدن بأنها كانت ذات يوم مدينة كوزموبوليتية، اختلطت فيها الأعراق والأديان، وصهرت الجميع لتصير كجغرافية نتاجًا لهذا التنوع البشري والمعتقدي، وعبر تاريخها الطويل استوعبت كل الهابطين إليها كجائلين، ومن استوطنها منهم فقد حولته إلى ابن مدللٍ لها، لكنها حين تريد أن تكون ملكة متفردة يعود الكثير ليرموها بالبارود!

كل الذين هبطوا إليها جاؤوا من الجبال، وتركوا خشونتهم وغلظتهم تفرغ بدائيتها في حوافيها وأسواقها وفضاءاتها، لهذا سيكبر السؤال وسيستطيل: لماذا يكره الجبل البحر؟ ووحدها عدن من يستطيع الإجابة عن ذلك، وهي التي تعيش في الظلمة بعد أن أضاءت الجبل حين كان أعمى، والجبل بكل تأكيد ليس الذي يحتضنها منذ الخليقة، ويغسل أقدامه بمياه خليجها.

كانت عدن نتاج جماعات متجولة ومتحولة

تحاول ملكًا فيرمونها بقذيفة

لماذا يكره الجبل البحر؟

وحدها عدن من يستطيع الإجابة على ذلك.

تقول الأساطير:

إن الجبل كان أعمى حتى أضاءه البحر

ويا للمفارقة

عدن الآن بلا ضوء!

الطائر العدني هنا يتساوى مع الغراب ونعيقه، الذي صار يشكّل فضاء المدينة التي يحاول الحمقى في كل وقت تشكيلها برغبويتهم اللامدنية الحافلة بالطلاسم، غير أنّ الشاعر يعيد رسمها على شكل رئة ورغبة وقات، وهي ثلاثي التنفس الكبير والقادر على طرد المكبوتات التي راكمتها انسدادات هذا الوقت اللعين.

(**)

عدن المدينة في محمولاتها الشتى تتجسد مثلًا في هذا النص الذي يتظهر على هذا النحو:

أنا الطائِر العدني 

لا حاجة لي للحمقى 

حافِلًا بالطلاسِم 

وصدى نعيق الغِربان 

مع آخر سجائري

أرسُم لعدن شكل الرّئة 

وشكل الرّغبة 

وشكلًا آخر عود مِنَ القات

الطائر العدني هنا يتساوى مع الغراب ونعيقه، الذي صار يشكّل فضاء المدينة التي يحاول الحمقى في كل وقت تشكيلها برغبويتهم اللامدنية الحافلة بالطلاسم، غير أنّ الشاعر يعيد رسمها على شكل رئة ورغبة وقات، وهي ثلاثي التنفس الكبير والقادر على طرد المكبوتات التي راكمتها انسدادات هذا الوقت اللعين.

(**)

ما يسميه الشاعر الاشتباك بالسرد في المنصوص الكتابي، هو أيضًا واحدٌ من تقنيات الكتابة الجديدة التي تذيب الحدود الفاصلة بين الأجناس، لكنّها تُبقي ذلك الخيط السحري الذي تتطرز به اللغة الشعرية دون الوقوع كلية في فخ التقريرية المنفلتة، ومن نصوص الاشتباك التي نشرها الشاعر في صفحته نقلًا من الديوان، نصُّ “الصهاريج حيث تتشابك قصص الملوك والعُمَّال!”.

وصهاريج الطويلة، كما هي معروفة، هي واحدة من عناوين عدن المعمارية والثقافية، إلى جانب العقبة (باب عدن) وقلعة صيرة، كما بيّن تفاصيل ذلك الراحل الكبير المؤرخ وأستاذ الرياضيات عبدالله محيرز، الذي أصدر عن هذه المعالم ثلاثة كتب منفصلة، والذي قال عن صهاريج عدن:

“إنّ نظام التصريف لم يكن مقتصرًا على هدف خزن المياه لتوفيره للمستهلك، مثلما تعمل بقية الصهاريج والخزانات في عدن، بل كان نظامًا دينمائيًّا وتكنولوجيًّا بارعًا يجعله وسيلة لتلقف الماء عبر جدران حاجزة؛ إما منحوتة في الصخر، وإما مبنية بالحجارة والقضاض، وتقوم بثلاث مهمات: تلقف الماء، وحجز الحجارة والطمي الساقط مع الشلالات، وتوجيه الماء عبر سلسلة من الجدران لتصريفه إلى حيث تكون الحاجة إليه”.

وهذه الصهاريج في الديوان العدني تتموضع “سرديًّا”:

في قلب عدن، تحتضِنُ الأرض سِرًّا عتيقًا، صهاريج تمتد في صمتٍ مُهيب. صهاريج المُعجِزة الهندسية التي من زمن بعيد، تشهد على عظمة الحرفيين القدامى.

بين صخور الجِبال، تنبض الصهاريج بروح الحياة. تتجمّع المياه من كُلِّ حدبٍ وصوب، كما تجمع عدن أبناءها من مختلف الثقافات والحضارات. هنا، في هذا المكان، يتجلّى نسيج المدينة الفريد، حيث تنساب المياه بين الأصابع كحكايات الجدات، تنقلها الرياح لآذان المارّة، وتكتبها الأجيال بمداد الحنين.      

مع حلول الليل، تتحوّل الصهاريج إلى عالمٍ من السّحر والغموض، فهل يا ترى بناها الجِنّ؟ 

تتراقصُ ظِلال القمر على سطح المياه، وتنسجُ أشعة النجوم حكاياتٍ خيالية. في تلك اللحظات، تُصبِح الصهاريج مكانًا للسمر والسهر، حيث يجتمِع العُشَّاق، ويبوح الأصدقاء بأسرارِهِم. هناك، تحت قُبَّة السماء، يختلط السِّحر بالواقع، ويُصبِح الماضي والحاضِر نسيجًا واحدًا.

الصهاريج تتحدَّى الجفاف والخراب!

رغم مرور السنين، تظلُّ الصهاريج رمزًا للأمل والاستمرار. مع كلّ فيضان، تمتلئ من جديد، وتستعيد بريقها. تتحدى الجفاف والخراب، وتُثبِتُ أنَّ قلب عدن ينبض دائمًا نبض الحياة. إنَّها ليست مُجرَّد خزّان للماء، بل هي مرآة تعكِس روح المدينة، وتصمد أمام كل تحدٍّ، لتروي حكايات الأمل والشمُوخ لكل من يمُرّ من هُنا.

(**)

نص الدرع العدني هو فضاء تعريفي بالمدينة، وأحد تطريزاتها الثقافية، فعدن بدون البخور والدروع والمشموم والنباتات العطرية، هي مدينة ناقصة وبدون نساء.

الدّرع العدني ليس مجرد ثوب، بل هو رمز لأصالة المرأة العدنية وأناقتها.

الألوان الزاهية والنقوش الدقيقة على الدِّرع تروي حكايات عن الفرح والتقاليد.

في كُلّ حركة، تتراقَصُ الأقمشة مع نسيم البحر، وكأنَّها تتحدى الزمن بثباتها وجمالها. المرأة التي ترتدي الدرع العدني تحمل في طيات ثوبها تاريخًا عريقًا وفخرًا بلا حدود. الدرع العدني، بزينته وألوانه الزاهية، هو تعبير عن الهُوية والثقافة. المرأة التي ترتدي الدرع تحمل في طياته حكايات عن التقاليد والحداثة أيضًا. في كل حركة، تتراقص الأقمشة مع النسيم، وتنبَعِثُ منها روائح الزهور والعُطور. الدِّرع العدني هو رمز للفخر والجمال، يعبر عن قوّة المرأة ورقتها.