ماذا بوسع القصيدة أن تفعل وهي تواجه تفاصيل الحرب المتلاحقة؛ من تشرد وفقدان وخراب وهلع ورجاء ويأس؟! ثم ما الذي يتبقى من الوطن، حين يتحول نصفه إلى قتلى؛ ونصفه الآخر إلى قتلة؟! لقد أثخنت الحرب يوميات الشعراء في اليمن، كباقي الفئات المجتمعية؛ وهي الحرب الدؤوبة التي فاقت المخيلة، كما تنطوي على واقعية سريالية ذات مفارقات صادمة وعجيبة، لم يتحملها العقل، بقدر ما أثخنت العاطفة.
وعلى سبيل المثال، أعرف شاعرًا تشرد كلاجئ في أربع محافظات هو وعائلته.. وآخر طالته ثلاث رصاصات آثمة وسط العاصمة من بلاطجة، والأرجح بسبب آرائه، فيما أجرى ثلاث عمليات في ثلاث دول.. وآخر قطعت الميليشيات راتبه ومصدر دخله الوحيد، فقرر ترك المدينة والعودة إلى قريته علّه ينجو.. وآخر وقعت قذيفة عشوائية على منزله وما زال يسكن فيه متصالحًا مع كل هذا العبث.. وآخر غادر اليمن لمدة وجيزة كما قال، ولم يستطع العودة منذ عام ونصف؛ لأن الحرب دمرت منزله وتشردت عائلته وهو بعيد لا يملك قيمة تذكرة العودة.. وآخر قُتل شقيقه في انفجار انتحاري؛ لأنه كان موجودًا في مكان الحادث بالصدفة، وحتى اللحظة لا يزال ممسوسًا لشدة وقع الحادث على ذهنه.. وآخر زادت حالته النفسية سوءًا؛ لأنه يخضع لعلاج عصبي لا يتاح بسهولة من جراء الحرب.. وآخر انضم للمقاومة.. وآخر انضم للحوثيين.. وآخر فقد مصدر رزقه؛ لأنه يعمل في صحيفة قرر الانقلابيون إغلاقها.. وآخر صار يبيع منتجات غذائية مهرّبة على أحد الأرصفة ليسدّ رمقه.
وهكذا.. على نحو فجائي وصلت اليمن إلى مصاف اللحظتين العراقية والسورية الأكثر مرارة عربيًّا، فيما تملشن وتعسكر كل شيء حول اليمنيين على نحو طائفي ومناطقي بغيض.
ثم ها نحن في خضم اللحظة المارقة التي صارت مملوءة بالحقد والهوس والخيبات واللاتسامح واللاعقلانية. والحال أن معظم الخطابات في ظل التجاذبات السياسية والعنفية الحادة، لا تهمها فكرة الوطن والمواطنة للأسف، ما بالكم بالإبداع والتجريب. كما أن اللغة من الطبيعي أن تأتي هشة وخاوية إلا ما ندر.
السخط هوية للشاعر
فحيث تدور المعارك منذ أعوام في كل الجهات؛ صارت العزلة أحيانًا -وغالبًا السخط- هوية الشاعر اليمني الحديث، إضافة إلى المثقف الذي يحترم ذاته والأكثر حساسية، كأقل احتجاج ضد ما يجري.
ووسط هذه التغريبة وأهوالها المزدوجة، يعيش الشاعر اليمني خاصة والمثقف عامة.. في خضم الصراعات المعقدة القائمة اليوم، يحاول المثقف الموضوعي جاهدًا الانحياز إلى ما يمثل جامعًا وطنيًّا، والتموضع داخل حلم المدنية والعدالة والقانون.
الحاصل أنها الهزة الأشد عنفًا في المجتمع اليمني التائق للتغيير. كما طالت اللغة ومحمولاتها. لذلك فإن التفاؤل تقابله امتيازات التشاؤم بما تحمله هذه الامتيازات من إدانة مثلى للواقع. لكن هل ستكون النهاية كما تخيلها الشاعر أحمد العرامي مثلًا والذي صار لاجئاً في السويد:
«آخر رصاصةٍ في حوزةِ الحرب
ستقف حائرةً بين قاتلين،
هكذا يمكن للكلاب المشردة
شنق حزن الأمهات في الهواء»!
أما ونحن في صميم الحرب، فيمكننا أن نجد خلاصة اللاشيء أيضًا بمحاذاة كل الأشياء، تمامًا كما في قصيدة «هدنة» لجلال الأحمدي الذي صار لاجئاً في ألمانيا:
«هذه الليلة
يمكن للدموع
أن تصطاد فرائسها بسلام
يمكن لأغنية معطوبة
أن تدور وحدها بالشوارع
دون أن يعتقلها حاجز
أو أن تلاحقها الكلاب
والعتمة على غير العادة
تفتح حصانًا للنسيان
وآخر للقبلة
كل الأشياء تبدو بليدة
وغامضة
لا منتصر
ولا مهزوم
حتى إن البنادق مع قتلاها
تنام
جنبًا إلى جنب
بعد أن توقفت
عن السعال»
غير أن الأحمدي يبدو مكللًا أكثر بالتهكم واللوعة معًا، كما في نص آخر:
«تمنّيتُ لو أكتب لكِ عن الحرب
لكن كيف أكتب صوت الرصاصة!
حشرتُ لك جثثًا كثيرةً
لكنّكِ لا تقرئين!
تريدين أن تعرفي كيف تبدو رائحة الجنود
افتحي حقائبكِ
إنها تشبه التّعب والذكريات الجريحة».
على حين أن الشاعر أوراس الإرياني ما زال يصرخ ببوهيميته الحنونة وصرامته الساخرة من قلب صنعاء:
«بينما كنت أجهز قلبي للحب أضعت رأسي.
بعد كل قصيدة كتبتها إليك أعد أصابعي.
عندما وضعت أذني في قلب المطر
سمعته يتحدث عن الحرية ويئنّ».
يبقى «الشهداء أقل ضحايانا، نحن الضحية ﻻ الراحلون» كما يقول الشاعر فارس العليي، ويضيف :«ربما ذهبت القصائد أحيانًا لأداء لعبة الغموض عندما تنحذف من شعرية الإحساس الدائم بأنك شاعر ومكون لموقف ينحاز دائمًا للخفة، ﻻ أدري كيف أشعر الآن على نحو مخاتل يحفز إيقاع سلوك عامل بلدية أو فلاح مهمل للأرض ويشعر بلا جدوى الاستمرار في الاعتناء بها».
شعور بلا جدوى الشعر
ويتابع العليي : «إنه شعور يلخص اعتقاد إمكانية أي شعرية داخلية، شعور عابث مغمور بالضياع وشعور بالقلق واللاجدوى من الشعر وأن ﻻ وظيفة يمكن أن يرتبها في الوجود الإنساني، سوى المواقف غير المكتملة لجمل وعبارات تتنافر في الجمال بما لا يفضي بدلالة تقول على وجه التحديد شيئية، وطالما تستمد الحداثة الشعرية بصورتها الحالية هذه الفوضى والعشوائية والتسارع المحموم للنقائض حد تلاشي الإشارات وتوهجاتها الفجائي، فإن الصورة المنعكسة من الاضطرابات العملية لتقدم العالم نقوم نحن الشعراء بتكريسها في النصوص بصورة تعقيدية تنال مما تبقى من هوامش بالإمكان الإمساك عندها برأي يأخذ مكانه في العالم».
لكنه يستدرك: «لست ضد هذا إنما أشعر بالامتعاض من التأويل والأسلوبية وإصرار التفكيكية على تشتت الوجود، والتلقي المقرفص ونحن هناك في السريالية غائطين حينًا وجافين دون قطرة واقعية لتبليل ريق فجائعنا من تخوم لا معقولة وتفوق التصور والاحتمال».
ومن ناحيتها تتأسف الشاعرة والروائية نبيلة الزبير، على تحول أصدقائها إلى أطراف وخصوم، «لكن الأكثر إيلامًا أن يكون في أصدقائك من هم أطراف وخصوم بالمؤازرة… أنا لا خصم لي سوى من يباعد بيني وبين وطني… وطني يتسع لهم جميعًا، ووطنهم يضيق بي!». وتضيف: «لكثرة أعداد القتلى والموتى التي تشهدها أيامنا هذه تعذر علي القيام بواجب العزاء أولًا بأول. فليعذرني المحزونون وليتقبلوا حزني. كذلك؛ لكثرة جرائم الحرب وسرعة تواليها بات يتعذر إدانتها أولًا بأول».
أما الشاعر محمد اللوزي فهو يؤكد لفوضى ذاته الرائعة:
«لم تكن شاعرًا
بقدر ما كنت أعمى
تتحسس ما تراه من كرنفالات
بيدين معزولة عن العالم
ولا تفقه مما لمسته شيئًا.
بالغت فيما ترى
حتى إنك رأيت الشيء قبل أوانه
ورأيت فيه ضده
تفحصته بيديك وهلة أخرى
ورميت في البئر أصابعك.
لم تكن غرابًا
أو زئيرًا يطارد غزالة
وكنت بمعزل عنك
ناهيك عن أنك تحسب الجميع أعداء
بما فيهم لثغة الراء حين تنطقك».