كتابات

بيانات أدونيس ..الخريطة البيضاء للكتابة

د. حاتم الصكر - انزياحات
د. حاتم الصكر - انزياحات

* عن مجلة (الفيصل)

 

«ولئن كانت الكتابة خريطة رُسمت عليها حدود الأنواع،

وعُينت رفوفها وأدراجها، فإن هذه الخريطة اليوم بيضاء دون أدراج ولا رفوف».

 

أدونيس

 

– بيان من أجل كتابة جديدة

 

اخترت من أجل البحث عن الرؤية الشعرية وتمثلاتها في البيانات الشعرية لدى أدونيس، أن أتقصى الحداثة ونقدها والكتابة ومركزيتها فيما كتبه أدونيس كبيانات مجنَّسة وصريحة في مقصديتها لخلق تلك الخلخلة في المنظومة الفكرية والمعرفية التي تكمن وراء القصيدة، كمرجعيات فاعلة في خلق الرؤية وتنويعاتها النصيّة.

 

لقد كان أدونيس منذ بداية كتاباته الموازية لشعره قد أكد على قضيتين مركزيتين في الفكر الشعري والنقدي، هما الصلة بالتراث والموقف من الغرب.

 

ولعل مقدمة الجزء الأول التي تتوقف عند عصور الشعر الجاهلي والإسلامي والأموي، على رغم أنها مبكرة (1964م)، تهبنا فرصة التعرف إلى ما كان يشغل أدونيس في موضوع قراءة التراث وتقييمه.

 

لقد باغتَ أدونيس لا التقليدين فحسب، بل الحداثيين والمجددين أيضًا بالدعوة إلى ما أسماه «إحياء الشعر العربي.. والنظر إلى القيمة الفنية الخالصة التي تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتتخطى الاعتبارات التاريخية والاجتماعية»(1).

 

وكان هدفه من المختارات «إعادة النظر في الموروث الشعري العربي بحيث نفهمه فهمًا جديدًا، فنعيد تقييمه، ونمارس قراءته على ضوء هذا كله…»(2)، ولربط تلك القراءة الموعودة والمأمولة في زمن التحول الكبير في الكتابة لذلك الموروث المضاء بالوعي الجديد، نوّه في تقديمه الموجز بضرورة التزام منظور التجاوز الدائم عند قراءة نصوص الموروث وتقييمها، لكيلا يوصم بالنكوص ومحاولة رهن الحاضر الشعري بالموروث، وما جمد في بعض نصوصه من نظْم تقليدي وقواعد تجاوزها التجديد والتحديث كفعلين من منجزات الشعر المعاصر. وكان بذلك يحقق هدفين: إبعاد صفة التنكر للتراث عن جماعة «شعر»، وتأسيس وعي لقراءة جديدة لا تتعالى على التراث، أو ترفضه كاملًا وكأنه صفقة واحدة.

 

وهو تذكير للحداثيين والمجددين بأن التراث الشعري لا يعني الماضي وملفوظه الشعري برمّته. في مقابل تنبيهه على أن الحداثة ليست زمنية أو مكانية. وبالتالي لا تحصر فيما يكتب في عصرنا. بل لكل عصر حداثته. ما دامت القيمة الفنية الخالصة بحسب وصفه، لا تتحدد في الزمان والمكان. وهذا ما سيعود له عام 1979م حين كتب بيان الحداثة. فيؤكد حداثةَ التراث بوصفها فنية عابرة للأزمنة.

 

لكنه يقترح صلة نموذجية خاصة بما يسميه «المعرفة الماضية» بالتعلم ممن أنتجوها ضرورة إنتاج رؤية جديدة ونظام جديد من المقاربة والمعرفة.. لأن نكملهم لا بتكرارهم، بل باللهب الذي حرّكهم، لهب السؤال والبحث، واكتناه العالم والإنسان، وهذا يقتضي سؤالهم ومواجهتهم(3). وبهذا يضع وصفًا نابذًا التقليد والاتباع، ومبررًا رفضهما كرؤية. ويعول على الصلة الذاتية بالتراث لا القراءة الجمعيَّة المكرسة.

 

ولكنه في الجانب الآخر يتقاطع مع القائلين بالقطيعة مع التراث، والذاهبين إلى القول بغربية المرجع الحداثي. وبذا يتوسط أدونيس باعتدال العارف والقارئ المنقب في العقلين الغربي والتراثي وفق قراءة متوازنة.

 

تلك قضيتان تلحان في مقاربة أدونيس للحداثة وللرؤية الشعرية خاصة. وقد أوردهما ضمن أوهام الحداثة الخمسة التي تصدرت البيان حتى قبل تعريف الحداثة مصطلحًا وبسطها مفهومًا. وتقديم الأوهام في مطلع البيان يعكس قلق أدونيس من وقوع الرؤية الشعرية تحت سطوة تلك الأوهام التي يخلقها الحداثيون في خطابهم. ويتولى البيان ردها وتفنيدها، مقابل سَوق البدائل عنها.

 

 

 

ثمة وهمان كبيران ظلا يشكلان الرؤية الشعرية لعديد من شعراء الحداثة العرب: وَهْم الزمنية الذي يربط الحداثة حصرًا بالراهن من الوقت، فيما يرى أدونيس أن ثمة شعرًا كتب في زمن ماض ولا يزال حديثًا، مصوتًا بهذا لقراءة الموروث الشعري برؤية جديدة. ووهم المغايرة، أي الاعتقاد بأن الحداثة هي التغاير مع القديم موضوعاتٍ وأشكالًا. وكلا الوهمين عائد إلى الموقف من قراءة التراث ودورها في تشكّل الرؤية. ويبدو الاعتدال والتوازن والدقة في ضبط المفاهيم لدى أدونيس واضحًا في مسألة أخرى هي الصلة بالغرب. وما أسماه وَهْمَ المماثلةِ، أي رؤية الغرب مصدرًا للحداثة، بحيث لا تكون خارجه، مما يؤدي بحسب البيان إلى الاستلاب والضياع في الآخر حد الذوبان. ويؤكد أن شاعر «المماثلة مع الآخر الغربي لا يكتب شعره الخاص، بل يعيد إنتاج شعر الآخر»(4). ولا يفوت أدونيس التأشير إلى شعرية الكتابة وفنيتها ومكانتها في الرؤية، فيرى أن ثمة وهميْنِ يتحكمان في الحداثة العربية لدى بعض الشعراء، وهما: وَهْمُ التشكيل النثري في قصيدة النثر؛ إذ تُبنَى رؤية مغلوطة تقوم على الاعتقاد بأن كل ما يكتب من شعر بلا وزن هو شعر حديث. ووهم الاستحداث المضموني المتمثل في عد النص حديثًا؛ لأنه يتناول إنجازات عصره وقضاياه في مجرد مضمونيته.

 

هكذا يقترح أدونيس حلولًا لثنائيات فاعلة في تشكيل الرؤية الشعرية، كالشعر/ النثر، الشرق/ الغرب، القديم/ الحديث، الاختلاف/ الائتلاف، وهي من الموضوعات المهمة التي ستتناولها بيانات الشعراء التالية لبيان الحداثة بصياغات مختلفة، لا يخفى أثر أدونيس في أفكارها ومقترحاتها ولغتها أحيانًا.

 

من أجل كتابة جديدة

يعود أدونيس في «بيان من أجل كتابة جديدة» لشغف البيانات وطابعها الثوري وكونها مناسبة لإعلان النيات النقدية له، وعرض جهازه المفاهيمي المتغير والمجدد، وإثارة الأسئلة حول مرجعيات الرؤية الشعرية وأبرز مقوماتها؛ كمفهوم الكتابة والحداثة والتراث والعالم وسواها من الإشكاليات الفاعلة في الفكر الشعري ومشروع الحداثة بنسختها العربية. ولمجيء البيان ضمن مشروع أدونيس الأساسي في مراجعة جدل الإبداع والاتباع عند العرب التي درسها في الأجزاء الأربعة من كتابه «الثابت والمتحول». وأبرز ما ركز عليه البيان هو التتمة المطلوبة لفكرة الشفاهي والكتابي في الثقافة العربية؛ إذ يرى أدونيس في مطلع الجزء الذي ضم البيان، ضرورة إدراك معنى انتقال العرب من الخطابة إلى الكتابة، أو من الشفوية إلى التدوين(5). وفي البيان يؤكد ما في الخطابة من مزايا شفوية تجلب معها سياقات يسمي منها الجمهور المستمع كون الخطابة تفترض سؤال ماذا أسمع؟ مقابل سؤال الكتابة: ماذا أقرأ؟(6)

 

يختم أدونيس ببيان الكتابة الجزء المخصص لصدمة الحداثة التي يرى أنها نتيجة أو حاصل لثنائية العرب/ الغرب، وهذا البيان وإن بدا نشازًا في إستراتيجية الأطروحة ومنهجها العلمي ذو أهمية خاصة؛ لكونه دعوة للخروج على الخطاب البلاغي الشفاهي. فلقد رأى أدونيس أن القارئ الذي سيصبح مصطلحًا كتابيًّا قد حل محل السامع (الجمهور) الذي هو جوهريًّا مصطلح خطابي.

 

لقد حركت الكتابة الثوابت وأولدت المتحولات ذات المنشأ الكتابي، فالتحول نحو الكتابة، كما يرى أدونيس، تحول نحو تعبير مغاير، ولَّد تحولًا نحو ثقافة جديدة وتقويم جديد(7).

 

وأعتقد أن «بيان من أجل كتابة جديدة» أخطر أثرًا وأوضح رؤية ومنهجًا من «بيان الحداثة» وتعديلاته، والاستطراد عليه في بيان (بعد ثلاث عشرة سنة). فقد بدأ من أس مشكلة الكتابة والوقوع في الحالة الشفاهية التي رمز لها بالخطابة في مقابل الكتابة، والشفاهية في مقابل التدوين.. فالخطابة كنسق نصي مُلقى مشافهةً فنٌّ قوليٌّ يخاطب جمهورًا مستمعًا أميًّا لاستمالته وكسبه. ولغرض الإقناع ولطبيعة قناة توصيل الخطبة، صار الوضوح والتقرير والمباشرة هي سبل الخطيب الذي يؤثر بجمال صوته في الجمهور، وبانتقاء العبارة وإيقاعها القائم على السجع تقليدًا للشعر، مع الحركة الجسدية والإشارة والوقفة وغير ذلك(8). وبدورنا نضيف الحِجاج عنصرًا مضمونيًّا في الخطابة. فقد كان حاضرًا بقوة بعد اختلاف المسلمين والعرب وحروبهم.. وقد علل أدونيس ارتباط الخطابة بالدين والمجتمع والسياسة والحماسة بأنها طريقة تعبير تناسب الإقناع كهدف للخطابة، التي نشأت في بيئة أمية يثيرها القول والسماع. فقامت على المنطق بغية الوصول إلى التصديق من المستمعين.. لذا بنيت بناءً منطقيًّا من ناحية الشكل. وهنا إشارة إلى تقسيمها البنائي إلى مقدمة وعرض برهاني ونتيجة(9).

 

لقد تسلسل الحجاج لدى أدونيس في هذا البيان، من المنبع والمصدر الشفاهي للقول بمزاياه الموضوعية والمضمونية والفنية والجمالية وربطه بالبيئة والسياق، إلى الظلال الأسلوبية والملامح الفنية التي تركها في الفنون القولية، ووصل إلى ما فعلته الكتابة الشعرية من تحول في الرؤية والإنجاز النصي.

 

وفي البيان يرفض أدونيس فكرة الشعر الجديد؛ لأن الجديد ترميم في بعض نواحي القديم وتهذيب في بعضها وزخرف. لكن الاعتراض يكمن في خلط أدونيس للحديث مع الجديد في رفضه. مع أنه في كتاباته كلها، وفي بيان الحداثة وما بعده، يرى أن التحديث فعل انشقاق وهدم ونقض، وحركة استحداث وابتداع.. وأحسب أن الفقرة الأكثر دلالة هي ما سجله أدونيس حول الأنواع والأجناس الأدبية وحدودها.

 

إذ يدعو إلى إلغاء وزوال تلك الحدود النوعية في الكتابة من أجل نوع شعري واحد أشمل هو الكتابة.. وهذا ما سيجسّده عمليًّا في سيرة المتنبي (الكتاب – أمس المكان الآن) وممارسته لحرية الكتابة، جامعًا بين أشكال شعرية مختلفة ومازجًا الأخبار والسرد والمقتبسات والوقائع التاريخية المتصلة سياقيًّا بحياة المتنبي في صفحات الكتاب. فقد دعا في البيان إلى الانتقال إلى علم جمال الكتابة، فتكون القصيدة سؤالًا حتى في تلقيها. كما يقترح خريطة جديدة للكتابة بناءً على ذلك، مبررة بحدوث «الإعصار الذي يمحو حدود الأنواع، ما يستلزم الانتقال من خريطة الماضي التي حددت الأنواع ورسمتها وبوَّبتها، من على خريطة الكتابة»(10). وهي خريطة بيضاء كما يصفها،(11) حيث لا نعود نلتمس معيار التمييز في نوعية المكتوب، وإنما نتلمسه في درجة حضوره.

 

يخلص أدونيس إلى أن الحداثة الشعرية العربية على الصعيد النظري هي طرح الأسئلة من ضمن إشكالية الرؤية العربية الإسلامية حول كل شيء من أجل استخراج الأجوبة من الواقع نفسه، لا من الأجوبة الماضية. وهذه أهم قاعدة تنظيرية للرؤية الشعرية التي لم يرها التقليديون متابعو أجوبة السلف، ولا المجددون والمحدثون المفترض انتماؤهم لحركة الواقع.

 

لقد صارت القصيدة هي الكتابة. وهي ليست شكلًا سابقًا يلاحق فكرة لاحقة. فالشكل يصنع فكرًا(12). ويستفيد أدونيس كثيرًا من نظريات القراءة وجمالية التلقي، ويوسع فكرة النص والكتابة، وموضعة القارئ في عملية الكتابة عبر إسناد مهام تأويلية وتكميلية للبنية النصيّة وفراغاتها الجمالية وفجواتها. فيؤكد أن القارئ صار مصطلحًا كتابيًّا يحل محل الجمهور السامع كمصطلح خطابي.

 

لكن الملحوظ أن أدونيس لم يركز على المنتج للنص أو الباث في عملية الكتابة، ربما لصالح العمل المنتَج. بتأثير من النظريات النصية.

 

هوامش وإحالات:

(1) صدر الكتاب بطبعته الأولى عن المكتبة العصرية، بيروت، عامي 1964م، و1968م. والمقتبس هنا من ج1، طبعة دار المدى، دمشق 1969م، ص 16.

(2) أدونيس (علي أحمد سعيد)، مقدمة للشعر العربي، ط3، بيروت، 1979م، ص11.

(3) أدونيس، فاتحة لنهايات القرن، بيانات من أجل ثقافة عربية جديدة، دار العودة، بيروت،1/3/1980م، ط1، وفيه بيان الحداثة، ص337.

(4) الاقتباسات هنا من (بيان الحداثة). تراجع للاستزادة في مكانها من البيان. في فاتحة لنهايات القرن، ص 216-311، وأعاد اليوسفي (محمد لطفي) نشره في كتاب (البيانات) الذي صدر عن أسرة الأدباء والكتاب في البحرين عام 1993م، وظهرت طبعته الثانية، طبعة الجيب عام 1995م عن دار سراس للنشر في تونس، ص21-54. وأثبتُّ المرجعين ليكون البيان في متناول من يتوافر له أحدهما.

(5) الثابت والمتحول- بحث في الاتباع والإبداع عند العرب، الجزء الرابع، صدمة الحداثة وسلطة الموروث الشعري، طبعة الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2016م، ص19.

(6) نفسه، ص253.

(7) نفسه، ص261.

(8) يفصِّل أدونيس كثيرًا في هيمنة النسق الشفاهي دون تسميته نسقًا، وتحكمه في مضمون الخطابة وشكلها معًا. ويركز على منطقيتها وأصولها وبروتوكولات الاستهلال والعرض والأداء وسواها.

(9) نفسه، 255.

(10) نفسه، ص264.

(11) يحيلني وصف الكتابة بالبيضاء إلى رولان بارت الذي يقترح قراءة «يراهن على بلوغها اليوم تحولًا تصبح فيه موضوعًا لغياب. كتابات (محايدة) يسميها درجة الصفر للكتابة، هي كتابة متخلصة من أية اعتبارات خارجية، كالقراءة واللغة، بيضاء أو بريئة أو محايدة. يُنظر: الكتابة في درجة الصفر، رولان بارت، ترجمة محمد نعيم خشفة، دار الإنماء الحضاري، بيروت 2004م، ص100.

 

(12) الثابت والمتحول،ج4، ص 267.