كان إدوارد سعيد العربي الأوسع شهرة وقيمة في العالم الغربي، والمثقف الأكثر موسوعية والأكثر تمرداً — كما يسميه بعض النقاد — رغم أنه ضد الثقافة السائدة، وهو المفكر، والأديب، والناقد، والسياسي، والعازف. انطلق من دراسة الأدب الإنجليزي ليصل إلى صياغة نظرية فكرية حول (دور المثقف والأدب في المجتمع وعلاقة السياسة و التاريخ بالثقافة).
(بروفسور الإرهاب) كان اسمه في أمريكا، لأن اسمه ارتبط بقضية بلاده فلسطين منذ عشرات السنين، وهو أول من دعا إلى فكرة الدولتين على أرض فلسطين، وصاغ فكرة (الاستقلال) بدلاً من (التحرير). ألف عدد اً من الكتب عن القضية الفلسطينية ، من أشهرها مسألة فلسطين وغزة — أريحا سلام أمريكي .
كان عام 1967م عام يقظة فكرية وسياسية لإدوارد سعيد ، فانضم إلى المجلس الفلسطيني سنة 1977م. واستقال منه عام 1991م أي بعد اتفاقية أوسلو فأصبح أحد كبار منتقدي هذه الاتفاقية بل اعتبرها استسلاما.
إدوارد سعيد هو صاحب كتاب ( الاستشراق ) الذي لاقى صدى عالمياً، والذي قال عنه (ماكسن روبنسون) إنه أحدث صدمة في أوساط المستشرقين والذي تبنى فيه فكرة (أن الاستشراق اختراع غربي آخر للاستعمار).
جمع إدوارد سعيد في شخصه ثلاثة هموم، كان الأستاذ الجامعي الذي تخرج على يديه نخبة من الأساتذة والكُتاب الذين ينتمون إلى مختلف بلدان العالم، والناقد الأدبي والفكري المعروف، والمناضل ضد القمع والتسلط، الذي بلور نظريته حول الثقافة والمثقف، واضعاً نفسه موضع القلة الفاعلة في الثقافة المعاصرة.
إدوارد سعيد .. عاش حياته كمن يسابق الزمن، كتب المقالات، حاضر، أنجز مذكراته (خارج المكان)، نشر الكتب، وقاوم بشجاعة ملفتة سرطان الدم (لوكيميا) الذي أُصيب به ثم رحل مخلفا وراءه أعمالا تستحق القراءة المتأنية والتأمل .
تفحص إدوارد سعيد في كثير من كتاباته ما هو عليه اليوم ذاك الدور المتغير باستمرار للمثقف. ووضع البروفسور سعيد سبلا يمكن للمثقف فيها أن يخدم المجتمع على خير وجه، في مجابهة وسائل إعلام مهاودة جداً، وجماعات تسعى إلى المنفعة الذاتية، تحظى بالحماية على حساب المصالح الأكثر أهمية للمجتمع ككل. واقترح إدوارد سعيد تعديل بصيرة المثقف لمقاومة إغراءات الجبروت، والمال، والتخصص.
ويرى إدوارد سعيد المثقف كرئيس تحرير أو صحفي، أو أكاديمي، أو مستشار سياسي — أي بكلام آخر، كمحترف متعمق في تخصصه — انتقل من موقع الاستقلالية إلى إقامة حلف مع منظمات مؤسساتية شديدة القوة والبأس. ويخلُص إلى أن على المهاجر، المنفي والمغترب والهاوي، حماية الدور التقليدي للمثقف، كالصوت المعبر عن الاستقامة والشجاعة، القادر على قول الحق جهراً، لمن هم في مراكز النفوذ والسلطة.
يرى إدوارد سعيد أن (المثقفين) هم تلك الشخصيات التي لا يمكن التكهن بأدائها العلني، أو إخضاع تصرفها لشعار ما، أو خط حزبي تقليدي، أو عقيدة جازمة ثابتة.
وسعى — سعيد — إلى اقتراح وجوب بقاء المثقف أميناً لمعايير الحق الخاصة بالبؤس الإنساني والاضطهاد ، رغم انتسابه الحزبي، وخلفيته القومية، وولاءاته الفطرية. ولاشيء يشوه الأداء العلني للمثقف أكثر من تغيير الآراء تبعاً للظروف ، والتزام الصمت الحذر، والتبجح الوطني، والردَّة المتأخرة التي تصور نفسها بأسلوب مسرحي.
يقول ( أنطونيو غرامشي ) إن بإمكان المرء القول (إن كل الناس مثقفون، لكن ليس لهم كلهم أن يؤدوا وظيفة المثقفين في المجتمع ). ويصنف الذين يؤدون الوظيفة الفكرية في المجتمع إلى نوعين: يضم أولهما المثقفين التقليديين مثل المعلمين ورجال الدين والإداريين ممن يواصلون أداء العمل نفسه من جيل إلى جيل. ويشمل ثانيهما المثقفين العضويين، الذين اعتبرهم ( غرامشي ) مرتبطين على نحو مباشر بطبقات أو بمؤسسات تجارية تستخدم المثقفين لتنظيم المصالح، واكتساب المزيد من القوة، وزيادة السيطرة. إذن .. كل من يعمل اليوم في أي حقل مرتبط بإنتاج المعرفة أو ينشرها هو (مثقف)، حسب مفهوم ( غرامشي ) .
وهناك على الطرف النقيض، ذلك التعريف الشهير من (جوليان بندا) للمثقفين بأنهم عُصبة صغيرة من ( الملوك — الفلاسفة ) الذين يتحلون بالموهبة الاستثنائية وبالحس الأخلاقي الفذ، ويشكلون ضمير البشرية.
إن ثمة خطراً ناجماً عن احتمال اختفاء وجه المثقف أو صورته في خضم بحر من التفاصيل، واحتمال تحوّل المثقف إلى مجرد مهني آخر أو أحد الوجوه في تيار اجتماعي ما. إن المثقف وُهب مَلَكَةً عقلية لتوضيح رسالة ما، أو وجهة نظر، أو موقف، أو فلسفة، أو رأي، أو تجسيد أي من هذه، أو تبيانها بألفاظ واضحة، لجمهورٍ ما، وأيضاً نيابة عنه.
ولهذا الدور محاذيره، ولا يمكن القيام به من دون شعور المرء بأنه إنسان مهمته أن يطرح للمناقشة أسئلة محرجة علناً، ويجابه المعتقد التقليدي والتصلب العقائدي بدل أن ينتجها، ويكون شخصاً ليس من السهل على الحكومات أو الشركات استيعابه، وأن يكون مبرر وجوده تمثيل كل تلك الفئات من الناس والقضايا التي تُنسى ويُغفل أمرها على نحو روتيني .
وعبر — سعيد — عن هذا الأمر من منطلق شخصي بقوله: أنا ، كمثقف ، أعرض اهتماماتي أمام جمهور أو مجموعة من المؤيدين، إلا أن المسألة لا تقتصر فقط على كيفية تعبيري بوضوح عن هذه الاهتمامات، بل تتعداها أيضاً إلى ما أمثله بنفسي كشخص يحاول تعزيز قضية الحرية و العدالة، فأنا أتحدث عن هذه الأفكار أو أكتبها لأنها بعد طول تفكير هي التي أؤمن بها، ولأنني أيضاً أريد إقناع الآخرين بوجهة النظر هذه.
وعليه لا وجود البتة لمن يسمى بمثقف خاص، لأنك تدخل العالم العام منذ اللحظة التي تكتب فيها كلماتك ثم تنشرها. وكذلك، لا يوجد مثقف عام فقط، أي إنسان يعيش كمجرد رئيس صوري، أو متحدث باسم أفراد أو هيئات، أو رمز لقضية، أو حركة، أو موقف. فعلى الدوام ثمة نبرة شخصية و حساسية خاصة، وهاتان السمتان هما اللتان تعطيان معنى لا يُقال أو يُكتب.
إن الغاية من نشاط المثقف هي إعلاء شأن حرية الإنسان ومعرفته . (…) وإن الحكومات ما زالت تضطهد الشعوب على نحو واضح، وسوء تطبيق العدالة ما زال يحدث، و استمالة القوة للمثقفين واحتوائهم ما زالا قادرين بفعالية على خفض أصواتهم، وانحراف المثقفين عن مهمتهم لا يزال السمة السائدة في معظم الأحيان.
ليس الغرض من تمثيلات المثقف — أي قدرته على التعبير بفصاحة عن قضية أو فكرة ما للمجتمع — تقديم حصانة ذاتية لنفسه أو توفير مكانة مميزة له، ولا يقصد بها في الدرجة الأولى توفير الخدمة في صفوف بيروقراطيات قوية مع أرباب عمل كرماء. فالتمثيلات الفكرية هي النشاط بعينه، وتعتمد على نوع من الوعي يكون مرتاباً، و ملتزماً، ومكرساً على نحو مطّرد لاستقطاب الأسباب منطقياً وإصدار الأحكام خلقياً، الأمر الذي يؤدي إلى تدوين آراء المرء وتعريضه للخطر. وثمة سمتان حيويتان للنشاط الفكري هما معرفة كيفية استعمال اللغة جيداً ومعرفة زمان التدخل باللغة.
وقد طرح — سعيد — سؤالاً هو : ماذا يُمثل المثقف اليوم ؟
و أجاب عليه بأحد أفضل الأجوبة عن هذا السؤال وأكثرها أمانة — كما يعتقد سعيد — صدر عن عالم الاجتماع الأمريكي ( ميلز )، وهو مفكر متطرف في استقلاليته، ذو رؤية اجتماعية متقّدة وقدرة عقلية لافتة للنظر على توصيل أفكاره بأسلوب نثري واضح المعالم و مقنع. فقد كتب عام 1944 أن المثقفين المستقلين كانوا يواجهُون إما بشعور قانط بالعجز نتيجة هامشيتهم، وإما بخيار الالتحاق بصفوف المؤسسات، أو الشركات، أو الحكومات، كأعضاء في مجموعة قليلة العدد نسبياً من المطلعين على بواطن الأمور، الذين يتخذون قرارات هامة من دون مراقبة ومن غير شعور بالمسؤولية. وخلاصة القول إن وسائل الاتصال الفعّال وهي عُملة المثقف تجري مصادرتها، مما يترك للمثقف المستقل مهمة رئيسية واحدة يعبر عنها (ميلز) على النحو التالي:
( إن الفنان والمثقف المستقلين هما في عداد الشخصيات القليلة الباقية المجهزّة لكي تقاوم، ولكي تحارب، تُعرِّض أفكار حية حقاً إلى قَولَبة جامدة و بالتالي إلى الموت. ويتضمن الإدراك الحسي الجديد حالياً القدرة على العمل باستمرار لفضح التعميمات المتميزة ذات النمط الثابت عن الرؤية والفكر، ولتحطيم هذه التعميمات التي تُغرقنا بها وسائل الاتصالات الحديثة. ولأن عالَمي الفن الجماهيري والفكر الجماهيري هذين يُكيَّفان أكثر فأكثر لتلبية متطلبات السياسة، تصبح السياسة المجال الذي يتحتم فيه تركيز التضامن والجهد الفكري. وإن لم يربط المفكر نفسه ذهنياً بقيمة الصدق في الكفاح السياسي، فلن يقدر على نحو مسؤول أن يكون على مستوى التجربة الحية بكاملها.)
وأشار — سعيد — إلى أن هذه الفقرة تستحق أن تُقرأ وتُعاد قراءتها، لأنها مليئة بتوكيدات ومعالم مُرشِدة هامة، فالسياسة هي في كل مكان ولا مَنجاة منها بالقرار إلى عالمي ( الفن الصافي ) و (الفكر النقي) أو حتى إلى عالم الموضوعية النزيهة أو النظرية المتسامية. والمثقفون هم أبناء عصرهم، تسوقهم معها (السياسات الجماهيرية للنزعات التمثيلية) المتجسدة في صناعة المعلومات أو الإعلام، ولا يقدرون على مقاومتها إلا بمنازعة صور السلطة، ورواياتها الرسمية، وتبريراتها، التي تروِّجها وسائل إعلام متزايدة الجبروت — وليس فقط وسائل إعلام بل اتجاهات فكرية بكاملها تحافظ على الوضع الراهن، وتُبقي الأمور ضمن منظور للفعل مقبول ومجاز — عبر توفيرهم ما يسمّيه (ميلز) عمليات كشف أقنعة أو روايات بديلة، يحاول فيها المفكر قدر استطاعته أن يقول الحقيقة.
وما أبعد هذه المهمة عن السهولة، ذلك أن المثقف يعيش دائماً بين الانعزال والانحياز ومهمته (في بعض الأحيان) .. تقتضي بنبش أمور نُسيت، وإيجاد صلات أُنكرت، وذكر سُبُل عمل بديلة من شأنها تجنب (الحروب والتدمير البشري الملازم لها).
وجوهر الأمر أن المثقف، حسب مفهوم — سعيد — للكلمة ، لا هو عنصر تهدئة ولا هو خالق إجماع، وإنما إنسان يراهن بكينونته كلها على حسٍّ نقدي، على الإحساس بأنة على غير استعداد للقبول بالصيغ السهلة، أو الأفكار المبتذلة الجاهزة، أو التأكيدات المتملقة والدائمة المجاملة لما يريد الأقوياء والتقليديون قوله، ولما يفعلونه. ويجب أن لا يكون عدم الاستعداد هذا مجرد رفض مستتر هامد، بل أن يكون رغبة تلقائية نشطة في الإفصاح عن ذلك علناً.
ولا يعني هذا الأمر دوماً أن يكون المثقف ناقداً لسياسة الحكومة، بل أن يرى في المهنة الفكرية حفاظاً على حالة من اليقظة المتواصلة ومن الرغبة الدائمة في عدم السماح لأنصاف الحقائق والأفكار التقليدية بأن تسيِّر المرء معها. وينطوي ذلك على واقعية ثابتة، وطاقة عقلية أشبه بالطاقة الجسدية اللازمة لممارسة الرياضات البدنية الشاقة، وكفاح عسير لإقامة توازن بين مشاكل الفردية الذاتية وبين متطلبات النشر والتحدث جهراً في العالم العام، وهذا ما يجعلها جهداً أبدياً، غير منجز تكوينياً، وبالضرورة غير تام. ومع ذلك، فإن محفزاتها وتعقيداتها — كما رآها سعيد — تُغني المرء فكرياً ولو أنها لا تجعله يحظى بشعبية واسعة.