لن تتوقف الحرب بسهولة
بإسم الحرب يتقاسمون الأموال والمناصب والسلاح والاعانات والأسواق السوداء. على أن الإنقلاب لن ينجح ولن تنجح الشرعية كما لن تتوقف الحرب بسهولة. بل لن تتوقف الحرب بدون نقد ذاتي وطني حقيقي.. وعلى كافة الأحزاب والقوى عقد إجتماعات لمكاشفات ومناقدات من أجل تصحيح المسارات وتفعيل المصالحات الداخلية أولا إلى حين لحظة المصالحة الوطنية الكبرى التي لا بد أن تأتي مهما طالت الحرب وتداعياتها الآثمة.. تلك فقط هي طريق الكلفة الوطنية الأقل.. فيما كل القوى أخطأت بمقادير.
والحال أن أكثر عبارة مضحكة ومفخخة في هذا العالم الحقوقي الداجل هي عبارة “قوانين الحرب”. والمؤسف أن ثارات مابعد الحرب ستكون أسوأ من الحرب. أما خلاصة ماحدث بعد 3 سنوات حرب فهي أن رجالات الحوثي استطاعوا إختراق صالح في صنعاء فيما رجالات صالح استطاعوا اختراق الشرعية في الرياض. غير أن حرب اليمن ستعيد صياغة المنطقة بكاملها. والثابت أن الحرب التي لا تقود إلى الوعي بالدولة والمواطنة يجب لعنها مرتين.
وأما من يقولون “كفاية حرب” فهم يقفزون عن جذر المشكلة الأساسية “كفاية إنقلاب”. وفي كتابه الشهير “فن الحرب” توصل سون تزو في القرن السادس قبل الميلاد إلى أن “الحروب الطويلة ذات مردود سلبي على نتيجة الحرب نفسها ومعنويات الجنود، بل إن موارد الدولة نفسها لن تواكب نزيف النفقات العسكرية في تلك الحالة”. ويضيف الصيني الداهية: “إن كنت تعلم قدراتك وقدرات خصمك، فما عليك أن تخشى من نتائج مئة معركة. وإن كنت تعرف قدرات نفسك، وتجهل قدرات خصمك، فلسوف تعاني من هزيمة ما بعد كل نصر مُكتسب. أما إن كنت تجهل قدرات نفسك، وتجهل قدرات خصمك.. فالهزيمة المؤكدة هي حليفك في كل معركة”.
تلك البديهيات إن لم تؤخذ في الحسبان تكون وبالا على من يقفزون عليها.
صحيح أن أوروبا بكلها تدمرت تماماً خلال حربين عالميتين فضلاً عن حرب الكاثوليك والبروتستانت قبلها بقرون لكنها عادت أقوى وتخلصت من نزعات عنفية كثيرة.
أما العرب فيتعاركون بلا أفق والأنكى اعتقادهم بأن صراعهم نهاية التاريخ وأنهم لن يتصالحوا ويتطوروا يوما ما.
لذلك حين يتم الإعلان بشجاعة ونضج عن تشكيل “حكومة جبر ضرر الحرب” سيبدأ الحل الضامن للجميع.
وليس من حل منصف للشعب سوى بحكومة جبر ضرر الحرب تنموياً وإنسانياً وتعميرياً وتعويضياً بدون تمييز مع تأجيل كل الخلافات السياسية لمدة لا تقل عن 5 سنوات.
إضافة إلى إزالة الفوارق والإمتيازات بإلغاء مصطلحي شيخ وسيد وتجريمهما مع نزع السلاح المنفلت خارج الدولة و إدخال نظام البصمة لجيش وطني قادم بمعايير.
ولا نبالغ لو قلنا إن عدد القتلى في الحروب اليمنية اليمنية شمالاً وجنوباً منذ الستينيات أكثر من عدد القتلى في فلسطين منذ عام 48.
وكما يقول المثل الإنجليزي ” الحرب تكسب بالإرادة ولكنك قد تحارب في اللحظة الخطأ أو في المكان الخطأ “.
أما خلاصة الإشكالية التي نعانيها يمنياً فسببها السلاح المنفلت خارج نطاق الدولة.. ذلك السلاح المهووس بالعصبوية السلالية والمناطقية معاً. وأما من تسبب بإسقاط الدولة وشق المجتمع وفجر هذه الحرب اللعينة فهي الميليشيات الإنقلابية لا غيرها بلا مواربة ولا خداع ولا تحوير ولا تبرير. ولذلك يقولون “الناس تعبت من الحرب”.. لكنهم لا يقولون الناس تعبت من الإنقلاب الذي هو سبب الحرب أصلا. على أن شرعية العوائل والشلل تشعرنا بالفكد والألم لتفاهات وعيها التهافتي الضحل خصوصا والبلد في حالة حرب ومن العيب أن توقع الشرعية يوميا قرارات اسرية وافسادية والناس تموت جوعاً وكمداً.
ولنكن صرحاء ونعترف أن مايجمع الإنقلاب والشرعية هو انهما يعيشان في برج خيالي، ويتعاليان على الواقع، ولا يواجهان الحقيقة. أخطاؤهما شنيعة، و لا يستوعبان اختلالهما الذي يتفاقم، بينما يبرران ولا يباليان، فضلاً عن أن الفوضى ستظل تقودهما إلى مسارها الإجباري على مستويي الحوار والحرب. لذلك فإن طرف صنعاء سينتحر فقط، وطرف الرياض سيذهب إلى المجهول.. بمعنى آخر لا الشرعية ستمحو الإنقلاب عبر الحرب ولا الإنقلاب سيمحو الشرعية عبر الحرب، إلا انه يبقى على الإنقلاب أن يغير نفسه بالحوار، كما على الشرعية أن تغير نفسها بالحوار أيضاً، فلربما حينها يلتقيان عند نقطة واحدة هي اليمن اليمنية.. أما الآن فنحن بين اليمن الإيرانية واليمن السعودية للأسف.. بين الشرعية المرتبكة و الخاوية التي بلا كفاءة وبلا مسؤولية، وبين الإنقلاب الكارثي المعتوه والمتصلب الذي لم يعد يطاق.
ولئن كانت المشكلة الرئيسية في أن الأطراف الداخلية المتصارعة، معولة على الأطراف الخارجية ذات المصالح المتضاربة في ابدال وتشكيل موازين القوى لصالحها ، إلا ان هؤلاء -وغالبيتهم بنظرة براغماتية بحتة -يدركون أن صعوبة حسم الصراع لصالح طرف معين هو ما يقود إلى ضرورة إنهاك أدوات الصراع الداخلية نفسها، ولذا لا يهمهم بالمقابل ما يترتب على اليمنيين جراء استمرار اليمن كساحة حرب مفتوحة -خصوصاً إذا واصلت الأطراف الداخلية نفس مستوى الانانية والجشاعة، متصلبة ومتاجرة بالحرب بلا مشروع وطني جامع ، وهو مايعني رفضها للمراجعات المؤدية لأن تتنازل لبعضها أفضل بكثير من ارتهانها للخارج -وهكذا للأسف يستمر الإستنزاف للجميع في حين تبقى البلاد معلقة إلى هاوية فقط، إلى أن يتم الإتفاق طبعا، فيما بين أطراف الخارج على شكل وكيفية إدارة مصالحها الكبرى والاستراتيجية في البلاد، ومن ثم منح وكلائهم الداخليين الفتات وفق شراكة في سلطة دولة منهارة ومجتمع مفكك، غير آبهين طبعا بالثمن الفادح الذي دفعته اليمن بسبب هذا الصراع المدمر والمأساوي.. أما أخطر ما في عدم اتفاق الأطراف الخارجية- خصوصاً في ظل وجود أطراف خارجية بنظرة طائفية متعصبة – فيتمثل في ظهور أطراف داخلية أكثر وحشية من وحشية الأطراف الداخلية المضادة .. وهكذا ، مايعني إستمرار الصراع أيضا بين السلطة القادمة وهذه الأطراف التي معظمها كونتها الحرب وتكرست كنتيجة عكسية لتصالح الأطراف الرئيسية ..وهكذا.
وأما في حال تنصل هذه الأطراف عن التزاماتها للأطراف الخارجية، فمن البديهي أن يتم إستخدام تلك الأطراف الجديدة ضدها. لكن مع الأخذ في الإعتبار حدوث ضغوطات متزايدة على الجميع- وبالذات جراء طول الصراع وانحرافه عن المقاصد المرسومة سلفا أو إرتفاع كلفته أو تبدل أولويات المصالح الخارجية – فلابد ان نشهد تحولات حادة في حسابات وتحالفات هذه الأطراف ، ثم سرعان ماتتشكل اتجاهات أخرى للصراع ، أو أن يتم ترجيح كفة طرف على الجميع، وهكذا.!
والحاصل أن اليمن ليست على ما يرام منذ سبتمبر 2014 وما كل ما حدث من انهيارات وكوارث إلا بإعتبارها تداعيات وتبعات لمزاج التفرد والاستئثار.. وهكذا: مرورا بتفاقم نذر الحرب الأهلية والتدخل الخارجي وما احدثاه من نكبات لاتحصى إلخ.
أما الآن وبعد كل المغامرات والرهانات الأنانية والهمجية التي لاتجدي :هل سيعود اليمن مستقرا؟ هل ستعود شخصية واعتبارية اليمن المفقودة ليتعامل معها العالم كما ينبغي. ؟
هل سيحدث الإجماع السياسي لإيقاف الحرب وإستعادة كيانية الدولة واحلال السلام الضامن ..فضلا عن تحرير حياة اليمنيين المرتهنة لما يمليه مزاج المتغلب الذي لايأبه بمصالح الناس .!
ثم ماذا بعد كل هذا الطيش الدموي والافسادي التخريبي وذرائعيته العجيبة التي لم تعد مستساغة على الإطلاق.؟
يكفي ياهؤلاء: الناس يريدون العودة لحياتهم الطبيعية ولو ببطء . فيما ملف السلام أثقل من ملف الحرب، ولكنكم تراوغون وتتغافلون بالمحصلة.
***
وبعد كل ما حدث!
وبعد كل ماحدث، هنالك سوء فهم احتقاني كبير تراكم بين الشمال والجنوب -كما بين الجنوب والجنوب وبين الشمال والشمال-سببه الأساسي حرف مسار الوحدة والدولة، فضلاً عن انبعاث مشاريع ماقبل سبتمبر وماقبل اكتوبر…ولذا لابد من تصحيح كل هذا الخطأ الهائل المتراكم..
لابد من تقويض وتغيير الأدوات السياسية والاقتصادية والثقافية والإجتماعية الرثة، مع استعادة الأدوات الفاعلة والمعبرة عن النهج الديمقراطي التعددي، ونهج الشراكة الوطني الحقيقي.. نهج القانون ونهج العدالة ونهج المواطنة المتساوية، نهج استنهاض قوة المجتمع المتماسك والدولة المبدعة ، و إحداث قطيعة شاملة مع نهج مراكز الهيمنة والنفوذ التي كانت ومازالت تتنامى عبر إغراق البلاد في الحروب وفي المفاسد، كما في الافقارات والاستغلالات والخطابات الانقسامية، ما يعني تعطيل وإعاقة كل آليات التغيير والتحرر والتطور المنشودة للأسف ..أما الآن فلامجال للمناورة و المداورة على الإطلاق.
لذا على جميع الأطراف إبداء المرونة والنوايا الحقيقية لإيقاف الحرب كبداية للحل الممكن والاضطراري الذي لابد منه لإنقاذ اليمن. ثم ان الزمن تغير والتحديات ثقيلة ومعقدة بينما لن يستطع الجميع تحقيق ما يصبون إليه حرباً.
وبالتأكيد: يكفي مقامرات ورهانات معتوهة تغامر بالناس البسطاء الذين تضررت مصالحهم من كل صنف ونوع وهم بالملايين..كما ينبغي تفادي تصاعد المنطق غير المسئول الذي يفضي إلى استمرار الصراع بما يعني ازدياد الضرر على المدنيين.
فالثابت أن هذه الخطوة على قاعدة المرحلة التوافقية والتزاماتها الكبرى واحترام الشرعية القائمة و الدولية هي التي بإمكانها أن تفضي إلى تحقيق الاستقرار عبر اتفاقات مشتركة ناضجة وملزمة للإغاثات ومعالجة آثار الصراع بداية بإعادة الإعمار ومكافحة الإرهاب والقصاء على الميليشيات وبناء الإقتصاد وانصاف الضحايا وليس نهاية بتجنيب تطييفات الصراع الحاصلة و إحداث تصويبات موضوعية فيما تم الاختلاف عليه من رؤى سياسية وذلك عبر مباحثات شفافة بمشاركة ممثل لكل طرف من الأطراف التي شاركت في مؤتمر الحوار.
على أن تتم الخطوات بإشراف عربي ودولي مباشر وواع ترعاه الأمم المتحدة لكن دون تكرير ادائها التسويفي الذي اتحفتنا به سابقاً على ان تكون الاولوية في هذا السياق للمرحلة الجديدة القيام بفضح أي طرف يتلاعب ويخادع بعدم الخضوع للإجماع الوطني.
بمعنى آخر: ليس أمام الجميع وتحديداً الحوثي والاصلاح والعليمي والحراك والسعودية سوى الدفع بإتجاه الحل السياسي الذي يبدأ بتنفيذ القرار 2216 لأنه الوحيد الضامن-مهما فضلوا تجاوزه والقفز عليه- لمستقبل واضح الملامح أقل تدهوراً وغموضاً وأكثر إتاحة لتصحيح اخطاء الجميع بإتجاه دولة ضامنة لعدم تمزق المجتمع أكثر أو غرق الدولة بشكل نهائي.
فضلاً عن أنه الخيار الأمثل- وعلى كل المستويات أيضاً- مقارنة بأوهام الحل العسكري الذي سيفاقم الازمات ويضخم تعاسات غالبية الشعب الذين انهكتهم الحرب وتداعياتها بحيث لن يمكنهم من العودة إلى حياتهم الطبيعية جراء التلهي الحاصل بإنتاج العنف وعدم إستعادة الدولة التي يفترض أن تحتكر السلاح ويسودها القانون والمواطنة.
ولقد تعبنا من النفخ في القرب المقطوعة.. بينما سيكون التصلب وتضييع الفرص الممكنة عبر التشبث بتعليق الأوضاع دون أفق ناضج هو النتيجة الأسوأ فشلاً لهؤلاء وأولئك وبالتالي ضياع اليمن بسبب ” القِمْر” المخبول.
***
مواطنة دستورية وليس أقلية وأكثرية
لا أظن أن كيري حين كان يتحدث عن الحوثيين كأقلية قبل أشهر، كان يتغافل عن أن حقوق وحريات وواجبات الأقليات، لاتتحقق إلا في ظل المواطنة المتساوية أمام القانون.. وأن غاية أي أقلية أن تتساوى مع الأكثرية في الحقوق المدنية والسياسية..
إنه في أمريكا وأوروبا ودول العالم المتقدمة مثلاً، يصبح الفرد مواطناً لإحدى هذه الدول في غضون سنوات سريعة، بغض النظر عن التمايزات العديدة للأفراد أو حتى للجماعات داخلها، فيما المواطنة كأعظم ارتقاءات البشرية ، هي أساس الإندماج في العالم المتحضر ، كما أنها تتضمن إحترام الهويات الثقافية لكل فئة وطائفة وفرد في المجتمع، على أن لا تلغي مبدأ المواطنة نفسه، وهو صاحب الإجماع المجتمعي، وكنتاج لسياسات مدروسة تطورت عبرها البشرية..
ومن البدهي أن من حق الأقليات في أي مجتمع، التمتع بثقافتها الخاصة وممارسة دينها وعقائدها وطقوسها، واستخدام لغتها بحرية، والمشاركة في الحياة الثقافية والدينية و الإجتماعية والإقتصادية العامة، مشاركة فعلية ناضجة مع احترام التعاقد الدستوري أو الديمقراطي المدني، الذي كفل لها ولغيرها هذا الحق، مع ضرورة احترام الجميع لتعدد الأطياف والأعراق والأثنيات في تشكيلة المجتمع..
أو بمعنى آخر تصبح الأقليات مجرد وهم، حين تكون هناك مواطنة مدسترة -بغض النظر عن الوعي الثقافي القاصر تجاهها عربياً أو يمنياً، فهذا يحتاج إلى تراكم وتنوير طبيعيين – بينما تتحول الأقلية إلى مأزق أخلاقي وإنساني ووطني حين يكون هناك ثمة دستور يمنع كل من ينتسب لسلالة معينة مثلا، أو الى دين معين في أي مجتمع عن حقوق وحريات وواجبات المواطنة المتساوية، أو حين تستولي أقلية أو حتى أكثرية بالقوة على الحكم، وتمارس الطغيان وتبرره دينياً وثقافياً..
لكن بما أن الديانات مثل المذاهب عبارة عن شأن فردي وعلاقة الفرد بربه قيمة مرتبطة بالفرد، فلا أقليات في ظل المواطنة المتساوية أصلاً من هذه الناحية، لأن المنتسب لها هو مواطن قبل أي شيء آخر، والدولة كيان معنوي اعتباري، يحمي الناس من أنفسهم وينظم تعددهم وصراعاتهم، ولاينبغي أن يترتب على الإختيار الديني أي امتياز سياسي للمواطن، لأنه يعرف كمواطن أمام القانون الجامع فقط..
ولذا من غير المعقول أن ثمة حقوقاً سياسية استثنائية استعلائية وتمييزية لصالح فئة ضد أخرى دستوريا ًوقانونياً مهما كانت هذه الفئة وذرائعها وتبريراتها، بإعتبار أن المواطنة هي من تحمي كرامة الإنسان كإنسان دون تمييز، والمواطن كمواطن دون إقصاء، ومن كل النواحي وعلى كافة المستويات، بغض النظر عن انتماءاته الدينية أو العرقية أو القومية أو اللغوية أو اللونية أو الحزبية إلخ، فوحدها المواطنة فقط من باستطاعتها استيعاب كافة روافد الشعب داخل الدولة الحاضنة واللاطبقية وبمنتهى العدالة أيضا.. ذلك أن جميع الناس ولدوا أحرارا ومتساوين بقدرهم وبحقوقهم ووواجباتهم وحرياتهم المكفولة دستورياً، ويتوجب عدم التمييز بينهم وكذا تجريم العنف والتفرقة العنصرية والطائفية والمناطقية بالمحصلة.
ثم إن الفكر الذي يعادي المواطنة المتساوية، من الصعب مجاملته طويلاً، فيما العصبية لكونها مع التمييز وعدم الإنصاف، فهي ضد المواطنة دائما. و فضلاً عن ذلك فإن قضية التجانس الوطني، ودولة الجميع لا دولة الغلبة، ينشدها الجميع دون استثناء إلا الذين يبررون لأنفسهم أنهم فئة مافوق يمنية.. ومن هذا المنحى كان ومازال من الطبيعي أن تكون هوية مايسمى بآل البيت، ضمن الهوية اليمنية الوطنية المتنوعة والجامعة، أي في إطار المواطنة والمساواة فقط، لا باعتبارها كهوية فوقية، سياسياً بالذات.
وإذا كانت كل أقليات العالم المضطهدة، هي أنا وانت وهو من منحى إنساني تضامني، فإن كل أقلية تمارس الإضطهاد على الآخرين هي عدوتنا.. فلا أسوأ من اضطهاد الأكثرية للأقلية إلا اضطهاد الأقلية للأكثرية طبعاً!..
بل شئنا أم أبينا يجب أن نفهم أن المهمة الحقيقية للديمقراطية الفاعلة في أي مجتمع، هي حماية الأكثرية من ديكتاتورية الأقلية، وحماية الأقلية من ديكتاتورية الأكثرية أيضاً.. لذا لا حل في اليمن سوى أن نكون مع المشروع المدني الديمقراطي حتى وإن توحدت جميع مراكز القوى المعززة بالسلاح ضده. فاليمنيون لم يخلقوا ليكونوا تابعين.. وهم ليسوا قطيعاً بل شعباً، فلا يمكن لشخص ما أن يستلبهم ويخادعهم باسم الدين أو المنطقة، والأرجح أن كل مشروع مدني ديمقراطي جامع هو من أجل المشترك الإنساني والوطني وضد الاستغلال السياسي للدين، كما ضد التسلط والإستبداد أيا كان صنفه ونوعه
ولنقف ضد أي عقد فئوي مغشوش لادستوري، يخرب المجتمع والدوله، إذ لا يدعو للتعايش والتسامح بقدر ما يضرب الفكرة الوطنية تماماً، ويجعل الولاءات لأمراء الطوائف بدلا عن الدولة، بل إن الأخطر هو خوض هؤلاء الأمراء حروباً وطنية طائفية بالوكالة عن الدول الراعية لحلفائها المذهبيين للأسف.
والمطلوب تنمية الوعي بالعقد الإجتماعي الدستوري بين أبناء الوطن الواحد.. فلا يوجد في الدستوري أي امتيازات لأقلية وأكثرية، فالدستور هو العقد الذي ينظم حرية وحقوق اختيار المواطنين كمواطنين في مسألة الاعتقاد.. فلا يجبروا المختلف عنهم بالقوة أو بالإكراه لإتباعهم.. المهم: انبثاق دولة تصون هذا الاختلاف، تحت سقفها وتمنع خطابات الكراهية والكراهية المضادة، كما تجرم فتاوى إهدار الدم باسم الإختيار المذهبي.. دولة تجعل الفرد يفهم أن اختياره مسألة شخصية خاصة به، مهما كان هذا الاختيار وأن نجاة النسيج المجتمعي هو غايتنا جميعاً بدون استثناء (غاية أن نعيش كيمنيين وأن نحترم الجمهورية والديمقراطية في البعد السياسي) فيما على البعد العقدي أن يعزز من قيمة السلام بين أبناء الوطن الواحد.
نعم .. هذا مايجب ان نفهمه ونسعى من اجله حيث لابديل للتعايش الوطني غيره ، بلا اضطهادات عقدية ولا اجبارات ولا تعسفات ولا استقواءات من أي نوع.. لكن ايضا بلا خطابات احقاد او تحريضات من شأنها أن تنمي مشاعر التطرف الانحطاطي البغيض الذي لا يمكن أن نستمر ندفع فاتورته الهبائية جيلاً بعد آخر.
وبما أننا نريد لنا جميعاً مواطنة متساوية وقوانين يخضع لها الجميع، نابعة من دستور ضابط للحقوق وللحريات وللكرامات وللعدالات، مانعاً بالتالي للاصطدامات البدائية ومسبباتها فإن الأهم من هذا كله: وضع ميثاق شرف وطني بين القوى الدينية والسياسية على تجريم البعد المذهبي في العمل السياسي والعمل العام، إضافة إلى إنجاز خطط استراتيجية حقيقية لتعليم رسمي تنويري جديد ( آخذين بالاعتبار أهمية الدرء الحاسم لخطورة التعليم الديني في تغذيته للتطرف من قبل كل الأطراف للأسف)كما لنزع السلاح المنفلت الذي لايحترم فكرة الدولة من كل الأطراف.
***
الخوف من “دعان” جديدة!
أنا خائف من “إتفاقية صلح دعان” جديدة بين الحوثية والسعودية.. ففي إتفاقية صلح دعان 1911 بين العثمانيين ويحيى بن حميد الدين، اعترف الأتراك بالإمام كسلطة في مناطق الزيدية باليمن الأعلى، بينما اعترف الإمام بالوالي العثماني، بعد 7سنوات من مقاومة شرسة للتواجد التركي. لكن تعز وتهامة وعسير وجيزان والبيضاء ومأرب و إب وبقية المناطق السنية خرجت من المولد بلا حمص.
أما أهم القوى القبلية والمشيخية التي خاضت الصراع المقاوم لوجود الأتراك إلى جوار الإمام- كأبو راس بكيل واحمر حاشد- رأت أن بنود الصلح لا تلبي تضحياتها وتصب لخدمة مصالح استفرادية تخص الإمام يحيى فقط.
ولذلك حاولت التمرد عليه. وفي خضم تلك الظروف كان الإنجليز والأتراك في صراع على ترسيم حدود نفوذهما جنوبا وشمالا.
بينما كان أول صدام مسلح بين الإمام يحيى وقبيلة حاشد أكبر الداعمين له ضد الأتراك .
صحيح أن حاشد رفضت بضراوة الإذعان ليحيى لكنها سقطت في نهاية المطاف، وسلم مشائخها رهائنهم تأكيدا للولاء.
يذكر امين الريحاني في كتابه (ملوك العرب) عن صلح دعان” قيام الدولة العثمانية بدفع مشاهرات ماليه للإمام ورجاله مقدارها الفان وخمسمائة ليرة ذهبا ..وقد كان عزت باشا كريما جوادا فاستغواهم بالمال”.
كذلك تسببت هذه المصالحة المتوكلية العثمانية، في صدمة لدى قطاع واسع من المقاومين القبليين للأتراك من منحى وطني. ولقد اعترض على ذلك الشاعر الشعبي زاهر عطشان حين قال بسخرية مريرة بشأن التضحيات التي ذهبت لصالح الإمام:
“قالوا سبر صلح دعان وفيه سدوا رجال
وما درينا عليش تموا وكيف المقال
من غير ليش ما يسدوا قبل بدع القتال
عليش سرنا وجينا في السبال والجبال؟
لا سيرتك ما تفيدك .. ما يضر الجلوس !”
لكن عقب خروج الأتراك بعد الحرب العالمية الأولى وانهداد الدولة العثمانية المريضة، افتتحت شهية يحيى بن حميد الدين للمناطق غير الواقعة تحت نفوذه.!
والثابت أن شهوة الحكم الإمامية كانت ذات أهواء ونزعات ذاتية، للإستئثار بالسلطة والثروة والمكوس والفيد.
ولذلك قام بالتنكيل ضد اليمن الأوسط والأسفل. ومن حينها تم تكريس تقسيم اليمن الحديثة إلى عكفي ورعوي.!
تحديداً زاد الطين بلة حين اختلف مشايخ وأعيان اليمن الأوسط والاسفل الذين لاينضوون في الزيدية حول تحديد مستقبل مناطقهم، بعيداً عن سلطات الإمام، ووسط هذه الظروف وقعت التواطآت والخيانات للأسف. أما ما كان ضمن نفوذ الأدارسة وكذلك نجران فقد ذهب لآل سعود في النهاية .!
***
الاصطفائية المنغولية!
الاصطفائيون هم أبشع من رفدوا العالم بالجثث، وذلك لأنهم ببعدهم -الديني أو القومي- يؤمنون على أنهم إرادة الله، وأنهم غاية الحياة والوجود الإنساني أيضا.
والحق أن الاصطفائية ضد المساواة وضد العقل.. انها منبع الاصوليات والشوفينيات في العالم. كذلك تتجسد المشكلة الحقيقية حين تعتبر عرقيتك أو دينك في موقع متميز ومتفوق عن سائر البشر. بحسب فولتير فإن هذا النوع من المهووسين هم مجرد: “أناس مقتنعون بأن الروح القدس الذي يملؤهم هو فوق القوانين”.!
الاصطفائيون العنصريون هؤلاء في الحقيقة، يشبهون بعضهم بعضا، لكأنهم أصيبوا بمتلازمة داون المعروفة -ولكن بصيغة متوحشة- سواء في النازية أو الصهيونية أو في الأبرتهايد، أو حتى في قبيلة أو فئة ما -والأمثلة كثيرة بالطبع- تزعم أنها طريق النجاة دون غيرها، وواجب الآخرين اتباع مزاجها ولو بالقوة، وإلا فإنهم في ضلالة ولايستحقون الحياة.
لكن أكثر الأطفال الذين اقدرهم ويبهروني في هذه الحياة، هم الذين أصيبوا جنينيا بمرض متلازمة داون -المعروف أيضا بالبلاهة المنغولية- خصوصا مع مثابرتهم البريئة الملهمة على الحب والمودة والتطور والإبداع والادهاش، ومحاولة تجاوز المرض الصعب للاندماج المجتمعي قدر المستطاع.
وإذا كان هذا المرض، هو إرادة إلهية، فإن هناك للأسف من أصيبوا بكل إرادتهم الذاتية، بما يمكن أن نصفها بالمنغولية الاصطفائية، التي تعيق المجتمعات والدول عن إدراك السياسة والدين والحق والخير والجمال والسلام والمواطنة المتساوية والهوية الوطنية الجامعة، ومن ثم المشترك الإنساني العظيم.
أما المشكلة في هذا السياق، فهي أن هؤلاء لا يريدون مغادرة مرضهم -لأنهم يعتبرونه إمتيازا لايمكن التنازل عنه- ولذلك يصعب أن تقنعهم بإدراك مصابهم وتأثيره عليهم وعلى بقية البشر، فضلا عما تفعله الاصطفائية نفسها من تخريب لقيم التعايش والتجانس والدمقرطة والحريات والحقوق والواجبات المتساوية.
ليس ذلك فقط.. بل انهم ينظرون للعالم وفق تصرفات تاريخية، هي نتاج واعٍ أو غير واع، لكثير من التراكمات العقدية والنفسية، ولا يمكن إنكار أن أنهاراً من الدماء سالت بسبب هذه البلاهة الدموية الفظيعة، والتي تعتبر أن الحياة وجدت، وأن الدين وجد، لإسعاد سلالات بعينها، واقهار بقية البشر!
فمن هذه المنطلقات طبعا، لطالما عانت البشرية من الإرهاب العرقي والإرهاب الديني.
وفيما كانت هذ المنغولية الاصطفائية، تقتل بلا شفقة، كانت لا تتباهى بشيء للأسف مثل تبريرها لبلاهتها.
أما عظمة البشر الحقيقية على هذه الأرض فهي تتكثف فقط في أن يناضلوا ضد كل أنواع الاستبداد القائم، على أساس التمييز والعنصرية والاستغلال واللاعدالة، سواء من ناحية عرقية أو اقتصادية أو دينية أو ثقافية.. إلخ .
فبكل النواميس السماوية والأرضية المشتركة للإنسانية، لا يجوز أن تتحكم فئة تزعم أنها الأفضل، في بقية الفئات التي تعتبرها الأدنى -مهما كانت ذرائعها- ولا يجوز لأي فئة أن ترى أحقية لها في إمتيازات سياسية وإجتماعية ودينية لا تجوز لغيرها بالمحصلة.!
الاصطفائيون منغلقون.. الاصطفائيون لا يتسامحون ولا يتعايشون، كما يعادون الديمقراطية، ووعيهم شمولي وأحادي.
وباختصار شديد: غايتهم ممارسة التمييز بين البشر، فضلاً عن أنهم يعتبرون العنف الجزء الجوهري في وعيهم الضال للأسف!
***
تركة ثقيلة ..ولكن
لاتزال التركة ثقيلة. فالجيش والأمن خارج نطاق السيطرة الفعلية للرئيس، وإضافة إلى سلاح الحوثيين والقبائل والقاعدة بات من المؤكد ان هذا الانفلات المروع من الاسباب الرئيسية لاستمرار التوترات والانهيارات الامنية التي تعانيها البلاد
من الواضح طبعاً ان الاعاقات للرئيس قائمة على قدم وساق رغم التصريحات الدولية الحاسمة بمؤازرته على كافة الأصعدة ، وإذ علينا عدم اغفال الآثار السيئة للجوانب السياسية والاقتصادية والانسانية، يبقى من المهم -من أجل مواصلة عملية التغيير المنشودة كما ينبغي -التسريع بإحراز تقدم حقيقي في هذه الجوانب، وعلى رأسها الجانب الامني والعسكري.
***
علامَ تقاتلنا؟!
السؤال الصرخة لبشامة بن قيس أحد أبرز فرسان المعارك الطاحنة لقبيلتي تغلب وبكر في حرب البسوس الجاهلية الشهيرة، من المرجح أنه يمثل بدايات تفتح العقل العربي السحيق، مع أننا لا زلنا حتى اليوم نتقاتل بالطبع، فيما يبدو مرجحاً أيضاً أن هذا السؤال الخالد المسؤول لا ينتابنا كما ينبغي، نظراً لتدفق الاهتياجات التي تخاصمه على أكثر من صعيد.
وفي هذا السياق تساءل البردوني: “أليست هذه أول بادرة مشرقة تكشف عورات الأوضاع بالتساؤل عن مبرراتها؟ فلقد كان الجاهلي يقتل ويُقتل دون أن يسأل لماذا ؟علامَ؟ المهم أن يغير عندما تدق طبول الحرب، لكن بشامة بن قيس أول من سأل: علامَ تقاتلنا؟ على حين كان غيره يقر هذا كالمسلمات”.
بالتأكيد إنه السؤال المتجاوز المشحون بالوعي الفردي النقي، كما أنه السؤال الرافض جداً، في حين كان يمثل تحدياً للأخلاق، بحيث مثل ردة فعل عقلانية فجائية في بيئة قبلية منقادة شديدة التوغل بلا حساب في إرث الثأرات والحقد والطقوس الانحلالية التي كان يمجدها الغالبية آنذاك حسب ما أكدته مرويات التاريخ.
بل لعله السؤال الذي يطرح أمام أعيننا مذاق الهباء، مع الأخذ بالاعتبار الزمن الرهيب الذي استغرقته حرب البسوس في الانتقامات والانتقامات المضادة وتعطيل الأمل بالتعايش والتسامح والسلام.
هذا السؤال الغريب المستوحش في محيط شعور جمعي لا يفكر، كما لا يعترف بأخطائه، بقدر ما يتباهى بلعنة الدمار والموت ما دامها رغبة القبيلة لإثبات تحديها للآخر، إضافة إلى عدم استسلامها لما يوصمها بالعار حسب الوعي التقليدي العربي البدائي الذي لم نتخلص منه بعد: هو ذاته السؤال المنشق الذي يخالف في مضمونه نزعة التفاخر البغيضة في الانسياق الأشبه بروح القطيع وراء جنون الأحقاد القبلية الوراثية، معتزاً بإحساسه الخصوصي الصعب للغاية؛ ليس بصفته سؤالاً للمراجعة الحادة فقط، بل لأنه ينبع أساساً من لحظة طافحة بالخرابات والفقد والندم عصية على الاحتمالات والاستمرارية.
لذلك من الطبيعي أن توغل بنا عبارة (علام تقاتلنا؟) إلى قيم المستقبل والمحبة والحياة، استناداً إلى لياقة العاطفة الإنسانية المتطورة معرفياً وأخلاقياً، مع أننا لا زلنا نفتقدها كثيراً.
هذه اللياقة العبقرية اليوم رغم كل الجنون الرذيل الذي تراكم عربياً -وعلى وجه الخصوص يمنياً- في أكثر من سياقات بسوسية للأسف، بينما كان يفترض منها أن تحدث الفارق الواضح على سوء الضمير باتجاه التطلع للأفضل.
ويعلق البردوني بأن “همجية الجاهلية ووثنيتها كانت موضع القبول؛ لأنهما الواقع الذي لا مفر منه، فلم يستنكر أحد سوء الأوضاع التي كانت قائمة، ولا حاول تغييرها بل أصر كل أولئك السادة على ديمومة ذلك الوضع، بما فيه من عاهات اجتماعية ودموية؛ لأن في ذلك الوضع المتردي منافعهم الاقتصادية الطبقية، لكن أفراداً هم الذين أنكروا ذلك الوضع الشائن، وكشفوا عوراته تحت أضواء التأمل والتقصي، و”ذات يوم حين عاد بشامة بن قيس من حرب البسوس إلى أهله، وكان من المنتظر أن يفعل كغيره من رجال ذلك الحين، فيفخر بمضاء سيفه ويعدد ضحاياه من الأبطال، خالف ما كان ينتظر منه”.