احتقان قصيدة النثر في اليمن بمضامين وانفعالات تتجاوز الذاتي إلى ما يشبه التعبير عن هاجس جمعي، يؤكد اندفاعها لأن تكون قصيدة الشارع، كما تفصح عن ذلك ريزومات النص، أو حياته اللامرئية، على اعتبار أنه – أي النص – لا يقع بكامله داخل سياقاته اللغوية، بل يتشكل بعضه من خارجه، فالشارع هو المضخة السوسيو-ثقافية لهذه القصيدة الآخذة في التمدد الأفقي والعمودي، من خلال موجات شعرية متلاحقة بلغت أوجها الكمي والنوعي مع الجيل التسعيني، الذي يعيش فوراناتها، ليس كخيار تعبيري لتدمير سلطة وأيدلوجيا العمود وحسب، ولكن كموقف سياسي وثقافي أيضا، إذ يراهن حتى من داخل هذا اللون التعبيري على تفتيت سلطة الشكل الواحد، وإنتاج طرازات شعرية على درجة من الإختلاف والتنوع.
وطغيان المعنى السوسيولوجي للشارع لا يحيل أو يتولد عن مفردة ” الشارع ” التي يكثر الطرق عليها وتبديد تداعياتها اللفظية كالرصيف والاسفلت والتراب والغبار، كما بدى ذلك واضحا وكثيفا في مجموعة أحمد السلامي ” دون أن ينتبه لذلك أحد “. وبالتالي فهو لا يعني ذلك الفضاء المكاني المكتظ بالبؤس الذي يعمل كمهيّج سياسي وحسب، ولكنه يعادل الهواء النفسي الذي يتنفسه اليمني ويختنق به، فيما يشبه الأنفاس المخلوطة بعوادم السيارات العتيقة، بتعبير محمد الشيباني، حيث صارت قصيدة النثر اليمنية تتشكل كبنية كلامية مضادة، أو متصارعة بمعنى أدق مع بؤرتي استقطاب، هما المنبر الديني والسلطة السياسية، بكل ما تفرضانه من تأطيرات وإلزامات تقليدية لا تقر التجاوز ولا حتى التجاور.
هذا هو مبرر التجابه اللغوي كما تستبطن حدته قصيدة النثر اليمنية منذ حسن اللوزي، وذو يزن، ومحمد المساح، وعبدالرحمن فخري، وعبدالودود سيف، وشوقي شايف، مرورا بشوقي شفيق ومحمد حسين هيثم، ووصولا إلى فتحي أبو النصر الذي لا يثق ” بالرؤى الغنائية ” ويتجنب ” التفكير العمودي لينجو بما تبقى من كينونته ” بالإضافة إلى بقية السلالة المهجوسة بتقليص المسافة بين النص والواقع، وإعادة تشكيل ” وطن من غبار ” بتعبير عادل أبو زينة، أو ” الوطن الهلام ” كما يسمي ذلك الهباء مبارك سالمين من خلال اللغة، حيث يحتشد قاموس الشعراء بمفردات ذات دلالة مثل : الجماهير، الشغيلة، مظاهرة، انتفاضة، الكادحين، الأمل الأخضر، شمس الحرية، الثورة، ماركس، السجن، العرق الغالي.
ذلك التلازم البنيوي بين النص والشارع، هو ما يفسر علو النبرة السياسية والتجديفية في قصيدة النثر اليمنية، وما يتداعى عن ذلك الهاجس من انشغال بقضايا حقوقية على مستوى المضمون، وإفراط في النثرية الخالصة على مستوى الشكل، وهو أمر جدير بالتأمل وتمديد النص تحت طائلة التشريح النقدي، بالنظر إلى كون اليمني كائن وجداني وغنائي بطبعه، إذ لا زال يقارب الوجود بروح قروية أصيلة، تحد من تماسه بالمدينة التي تتطلبها قصيدة النثر، وهو ما يتبدى في كثافة الاستدعاء المفرداتي لمعنى الشارع، كالرصيف المديد المعدني، حيث يقيم اليمني، حسب عمار النجار، أو الأرصفة التي ” تنبت عليها الإبتسامة ” بتعبير عمر محمد عمر، وإن بدى ذلك الفضاء، كجغرافيا ونص، عرضة لمهبات العولمة.
بموجب تلك المفارقة بين بؤس الواقع ومتطلبات التعبير الأحدث، كما تتصدى له قصيدة النثر، يتفسر إصرار الشعراء الممسوسين بنزعة الحداثة على حقن القصيدة بمفردات متعالية معرفيا وجماليا، وإن كان اليمني أقل اندفاعا لاجتراح قصيدة معولمة، ايكاروسية النزعة، سيزيفية الروح، بروموثيوسية النبرة، رغم الحضور اللافت لتلك المعاني الأسطورية المسقطة كألفاظ لتعضيد القصيدة، فهو أقرب الى تأكيد يمنيته واستثمارها بقوة داخل النص، كما يتبدى ذلك من خلال معجم شديد الاحتفاء بالمكون البيئي، وإعادة تدوير الموروث والسلوك والطقس من منطلقات نثرية، حيث تم توليد ما يمكن تسميته بجمالانية ” المقايل ” أو القات الشعري، كمعادل نفسي وموضوعي لأحاريك الشارع.
هذا الشارع الذي لا يفضي إلا إلى نفسه، بتعبير ابتسام المتوكل، أي كمرجعية دورانية تبدأ منه وتنتهي إليه، هو الحاضن السوسيو-ثقافي لكائن يبدو وكأنه يكتب بقدمين لا يملك سواهما كرابط بأرضه/وطنه، كما تشي ريزومات النص وجذوره الخفية، أو هذا هو الديالكتيك الذي يتم من خلاله ترحيل الفوضى الإجتماعية إلى قصيدة النثر، بما في ذلك ” عداد الكهرباء المثبت على الجدار ” كما يتأمله طه الجند، أو ” الأسفلت المعفر بالغبار ” كما ينصّصه أحمد السلامي.
إذا، لا يمكن لليمني أن يدخل القصيدة بدون شيء من متعلقات الشارع، واكسسوارات الحياة اليومية، وإن كانت نثرية الحياة غير حاضرة في الشارع اليمني بقوة كافية لانتاج نص فارط في النثرية، ولذلك تبدو قصيدة النثر وكأنها شأن المرغمين على الإنتماء للشارع والمنشقين عليه في آن، كما يتوضح الأمر من خلال ذلك الطابور من الحزبيين والصحفيين، الذين يشكلون نخبة ثقافية تجترح قصيدة النثر بمواصفات يمانية، ولا تبتعد كثيرا عن إيقاع الشارع.
هكذا يبدو ذلك التضاد الدرامي ممراً تأويلياً، من الوجهة الفنية، لطغيان المركب السردي في هذه القصيدة، حيث يتشكل عبره البعد الأحدث للهوية، بما هو فكرة مناقضة لصلابة المعنى السوسيولوجي للشارع، الذي يتعارض مع متطلبات العولمة في محاولاتها لإمحاء الهوية، الأمر الذي يفصح عن يتم الجيل التسعيني، وانتخابهم المعلن لآباء من دوائر قصية، حيث يمكن ملاحظة حس الاستنساخ، وغارات النهب المستمدة من منجز قصيدة النثر العربية، رغم اختلاف المكامن السوسيو-ثقافية، وعليه يتفسر سر ارتفاع منسوب الفكرة في قصيدة النثر اليمنية، حيث تتحول في كثير من الأحيان إلى خطاب، خلافا لما يحذر منه هيجل في مراعاة الحد اللازم من المضامين داخل العمل الإبداعي.
ذلك التماس المباشر بالشارع، لا يعني دائما إغتراف القضايا بشكل مباشر من حراكه، ولا يعني بالطبع سذاجة التعبير عن الإحتجاج وحسب، ولا الإكتفاء بتنصيص الإنفلاتات الكلامية، وإدمان التشكي من عناوين التسلط الصريحة، ولكن يمكن التقاطه من خلال الجرعة الثقافية الكامنة في بعض النصوص التي تدلل على فطنة منتجيها، وقدرة تلك الذوات على فضح ما يسميه فوكو ميكروفيزيائية السلطة بكل تشظياتها، دون السقوط في المباشرة وفجاجة اللفظ، كما يومئ مثلا نبيل سبيع إلى تداعيات اليوم الشفوي، المستعمل أكثر من مرة، اليوم المطبوخ جيدا، أو كما يرسم محمد محمد اللوزي سجناً على الورق أو السبورة ليحيله لسجن حقيقي، أو كما تبالغ نبيلة الزبير في تجريد شارعها الخالي ” إلا من عثرتين متعامدين ” وهكذا، حيث يستجيب النص برهافته التعبيرية، وتلقائية تمثيله البنائي، ليس للغة الشارع وحسب، بل لايقاعاته أيضا، لتكون قصيدة النثر هي الدليل اللغوي على واقع الشارع المعاش أو المحلوم به.