بعد إصداريه الشعريين “حياة بلا باب” و “ارتباك الغريب” يواصل الشاعر اليمني أحمد السلامي اشتغالاته الشعرية في إصداره الثالث “دون أن ينتبه لذلك أحد” .. والسلامي صوت شعري تسعيني برز كأحد الأصوات الشعرية التي ترى في قصيدة النثر خيارها الفني، من خلال كتاباته النقدية أو مواقفه المعلنة إزاءها، واستقراء الشكل الكتابي وتمظهرات القصيدة لديه على هذا النحو الذي يشي به إصداريه السابقين، وتنبثق الرؤية الشعرية للسلامي في إيماءاتها الحادة تارة والهادئة تارة أخرى عبر تلك التشكيلات الدرامية الصاعدة، والصراع المتنامي في علاقات الذات وارتطامها بالواقع .. الواقع الذي ينسحب في دلالاته الكلية على الوجود الخاص للذات .. الوجود الذي يستثمره السلامي ليقف على تشظياته المتعددة، لينتج في دلالاته النهائية الذات المنقسمة على نفسها، بين وجود حقيقي، وآخر خادع .. وجود يتراوح بين الظاهر والباطن .. المنكشف والملتبس.
يشكل إصداره الأخير “دون أن ينتبه لذلك احد” نصاً مفتوحاً يستقدم فيه الشاعر السيرة اليومية للذات في تقنية شعرية تستلهم السرد واللقطة المشهدية والمنولوج الداخلي كوعاء لتموضع الجملة الشعرية.
دون ان ينتبه لذلك أحد .. عبارة عن نص شعري طويل يتوزع إلى سبعة وعشرون مقطع شعري هي أقرب إلى الصور المشهدية التي تتناثر على صفحات الكتاب، لكنها محكمة الإنتماء إلى فضاء شعوري وإيقاع نفسي واحد.
يسعى السلامي في قصيدته إلى الإمساك بالذات الهاربة والمتخفية والمستعصية على الظهور إلى السطح المنكشف في الإنسان، والذي يصعب القبض عليها إلا عبر غوص حقيقي بمشقة مضنية وذهاب مضني إلى قيعانها السحيقة وطبقاتها السفلى .. تشي قصيدة السلامي بملمحي التجريب والرفض، يفتتح الشاعر قصيدته بهذا المطلع الفاضح والتعريف الإنفجاري المفاجئ:
أنا أعرفك يا أحمد سلامي
صيّاَدُ هزائمَ
مُفتعلُ انتحارات
هوية رومانسية تنشرخُ بين القبيلة والذات
صانِعُ ابتساماتٍ هادئةٍ
وجهُكَ العابِسُ مدهونٌ بالرضا
و أنتَ تُكِنُّ لهم سياطَ اشمئزازِكْ
دونَ أن تَدرسَ فنَّ التمثيلِ
ستجعلُ من يومِكَ خشبةً لا نهائيةً
حتى أحلامك المغلفة بالحب
امتدادٌ زائفٌ لمشهدٍ لم يُكشفْ بعد ..
يشكل هذا المطلع الاستهلالي للقصيدة إيذانا بمواجهة حادة مع الذات وهتك صارخ للقناع الخارجي للشخصية، وهدم مباشر لأسوارها بتجلياتها اليومية وحضورها المنكشف وصورتها المألوفة واقتحام لعوالمها الداخلية للكشف عن الخفي والغامض والمستتر والمضمر.
إن هذا المطلع الذي يستقدم صورة الذات ويجمعها من الممرات المتناثرة ودروب الحياة اليومية قد أراده الشاعر أن يأتي عارياً من كثافة المجاز والكتابة، لكنه حافل بالدلالة التي تنبثق عن وعي الذات بتناقضاتها وما يمور فيها تحت السطح.
فالسلامي لا يتعامل مع اللغة كأداة تعبير فحسب، بل كأداة خلق للرؤية للكشف عن العالم من حوله بعيداً عن صورته الجاهزة وصياغته المسبقة .. حيث تقف الذات الشعرية وجهاً لوجه مع نفسها …
تشكل المقاطع اللاحقة في القصيدة استنطاقاً لهوية الذات في حضورها وتجلياتها في مسارب الحياة اليومية للشاعر.
إن صورة الذات (المثالية) مفقودة ومؤجلة يصدمها الواقع بجدرانه المزدحمة بصور الموتى والتشابه والتكرار والضياع:
صور عديدة لموتى
يحاصرونك بإرثهم في الوجود
زحام في الجدران أيضاً
وأنت تخجل من الكاميرا
أو على الأرجح لا تثق بملامح وجهك
إن قصيدة “دون أن ينتبه لذلك أحد” هي صرخة صامتة واحتجاج غير معلن إزاء تلك العزلة التي تحيط بالشاعر من الجهات الأربع في ظل التواطؤ الجماعي على الاشتراك في مسلسلات ومشاهد متشابهة، تفوح منها روائح واحدة هي رائحة التمثيل والافتعال.
يذهب الشاعر في المقطع الثاني للقول:
سنوات تتكسر
تشبه مرايا رهيفة في الحلم ..
الانتظار المكتوب على الجبين
لغز العبور في طرقات متشابهة
مسلسلات لها رائحة التكرار
ثأر اللحظات من ليل ينسلخ
وأنت تداري خيبة الحرية
تنهض قصيدة السلامي “دون أن ينتبه لذلك احد” على تقنية وأسلوبية خاصة معتمدة على عنصر المنولوج والتداعي والاسترجاع وتيار اللاوعي، والتدفق الشعوري الذي نجده في تمدداته داخل نسق السرد استجابة فنية لهذا التداعي والمنولوج الداخلي الذي يقيمه الشاعر مع ذاته داخل نسق القصيدة .. حيث نلحظ تياراً من التدفق الشعوري والبوح والكشف حد التعرية مع الذات.
فالسلامي يصحبنا معه إلى الداخل .. داخلنا الخفي والغامض والمستور، حيث يغادر الوعي بذاته مناطق الرضا والقبول والتصالح والانسجام.
فالذات في هذا النص ذات غير متشظية .. متوثبة متوترة تعيش هزائمها وانكساراتها كل يوم في واقع يطفح بالزيف والأقنعة، ذات وكأنها تقيم داخل دور مشهدي في سيناريو واحد .. إنها ذات تتجمل بالفرح والبهجة والحب لتخفي أوجاعها ودموعها الداخلية ومحنتها الوجودية .. ذات يحاصرها الضجر والملل حيث يرى الشاعر لا جدوى الكتابة .. حتى الأشياء تغادر وظيفتها وتتجمل لتلحق بالكورس والتمثيل:
الغابة بأكملها في رأس همجي واحد
الأغلبية يشبهون طرزان
وهو يرتدي بذلة أنيقة
ما شأن الواحد بالواحد
إن لم يكن من أجل البقاء ..
حتى معجون الأسنان
له وظيفة مسرحية تشبه دور الماكياج
وأنت مربوط إلى جذع الكتابة
مصير مضحك
لمن يستجدي مجداً من الضياع .
دوائر الحصار من حولك
تفرز فقاعاتها فيضيق التنفس …
………………
………………
ينبغي أن تتأكد أن الجميع قد ناموا
كي تشعل سيجارة الكتابة ..
ويمضي في موضع آخر من النص ليقول:
عندما أبدو ثملاً من دون كأس
مثل كل مرَّة
أتذكرُ أعدائي الذين لم أخترهم
أحدهم يحقد عليّ
لمجرد أنني موجود على هذا الكوكب .
إن واقع الشاعر واقع طافح بالمفارقة والتناقض، وهو يغذي إحساس الشاعر بالاغتراب عن ذاته من جهة واتساع المسافة حد الانفصال عن الآخر – الآخر المسكون بالعدائية إزاء ذات الشاعر بدون سبب واضح.
وتتجلى المفارقة في تشكلاتها داخل بنية القصيدة في تلك التـقابلات الدلالية التي يستثمرها الشاعر في النمو الدرامي الصاعد للتجربة في القصيدة في أكثر من موضع، حيث نلحظ ما تشي به المفردات والجمل في هذا السياق (المجد – الضياع – الابتسام – الاشمئزاز …….الخ)
يختلط الوجود اليومي للشاعر بالفوضى – ليس بمعناها العبثي، لكنها الفوضى الناتجة عن التصادم الحاد بين عوالم الداخل والواقع المحيط به .. فالشاعر لا يكف عن البحث عن نفسه داخل الواقع اليومي .. يتناوب الحضور بين الوظيفة والمنزل، لكنه سرعان ما يضيق بهذا الدور الذي لم يعد يحققه، ولا يجد ذاته في حركته بعيداً عن التناسخ والتشابه والرتابة، وهو ما يدفعه إلى الرفض والتمرد فينسحب إلى عوالمه الداخلية .. هناك يتناوب الحرية والفوضى ويقتسمان مساحة يومية وتتبدل وظيفة الوقت حيث يبدأ فيها رأسه ملتصقاً بالمخدة ومستريحاً إلى جذع النوم، ويبدأ مساءاته محلقاً في أضواء كالشمس على شاشة الكمبيوتر متجولاً بين مواقع الانترنت.
لكنه سرعان ما يستولي عليه الشعور بالسأم واللاجدوى إزاء هذا التحول والانقلاب المفاجئ:
قلبك غير مرتب تماماً :
قلق في العبارة
مجون افتراضي
فِراش وثير يطير في الحلم
فوضى الخطوات وأنت تبدأ يومك بشجار صباحي
غير مرتب تماماً
وأنت تجلس إلى الـنت لساعات طويلة
حتى صورة الذات الشعرية في مرآة الآخر يتم التعامل معها وإدماجها ضمن نموذج صورة أخرى هي صورة صديق الشاعر (علي الشاهري) الذي يستقدمه إلى النص كشاهد لحضور الغياب وكنموذج للإنفلات من حدود الصرامة والإلتزام أو الإرتهان للمؤسسة الزوجية والعلاقات العائلية أو شروط البرمجة اليومية والإلتزامات التي يفرضها المجتمع على الفرد حيث يقول:
هاتفك مقطوع .. إذن .. أنت شاعر
مثل علي الشاهري
حين يسبح في دم الحاجة والديون
لكنه يكتب قصيدة عن لينا
أو يحكي عن تورطه في مصادقة لصوص البنك
وهو الذي ينام حافياً حتى من وطن .
زوجتك غاضبة .. أنت شاعر
مثل علي الشاهري .. لم يتزوج
لكنه يدلل ( كلوديا شيفر )
يبتسم لنساء الفضائيات
ويقترح عليهن الصداقة .
يرتكز الموقف الشعري للذات والواقع المحيط بها والعالم في قصيدة “دون أن ينتبه لذلك أحد” على رؤية محورية قوامها التعرف على صورة الذات وموقفها من العبث المقيم في تفاصيل وجودها اليومي.
ذلك الوجود الذي تنبثق عنه تشكلات الرؤية إزاء جملة من المعايشات التي يتكئ عليها الموقف الشعري في القصيدة، وتومي بملمح فلسفي يعكس قدرة الشاعر على تفكيك الصياغات الجاهزة واستيلاد علاقات جديدة ضمن رؤى شعرية جديدة للذات والواقع من حوله.
وتتمظهر هذه الصياغات للرؤية الشعرية في رؤيته للغد والأصدقاء والوطن.
فهو يذهب في رؤيته الشعرية ضمن نسق القصيدة إلى صياغات شعرية مفارقة وغير مألوفة. كالقول:
– الغد الذي أجده دائما كحقيبة فارغة.
– الأصدقاء جرذان الروح
– حب الوطن طريقة مناسبة لليأس
مشنقة تضمن موتاً اعتيادياً ..
إن الذات الشعرية التي تعاني من السياج الكثيف للعزلة في قصيدة السلامي “دون أن ينتبه لذلك أحد” لا تعاني من العجز في فهم محنتها واغترابها أو محاولة كسر عزلتها وتحقيق اتصالها مع العالم الخارجي، فهي تحاول الإنفكاك للخروج من هذا الضيق .. لكنها لا تجد في الخارج سوى الإحباط والرتابة والتكرار، ويتجلى إحساسها العميق بالمفارقة واللاجدوى حيث يغدو الذهاب إلى اللامكان ماثلاً أمام خطواتها .. وهو ما يومئ بها في قوله:
لا جديد
سوى هاتف يرن
وصوت على الطرف الآخر
يقول مثل البارحة : صباح الخير
ستمطر اليوم أيضاً
وسيتسخ حذائي بالطين مجدداً
حين أذهب إلى اللامكان
لأعود إلى البيت
بانتظار صباح جديد
في حياة
تواصل عبورها كالعادة
ودون أن ينتبه لذلك أحد .
يجد الشاعر نفسه محاطاً بالفراغ والتكرار الرتيب، وهو ما يتجلى في صيغة المقطع السابق الذي يعمد الشاعر إلى استهلاله بحرف النفي في عبارة “لا جديد” وينسحب النفي ليسلب الطاقة والفاعلية في المشاهد اليومية اللاحقة التي يسردها في نفس المقطع السابق.
إن محاولة الخروج إلى الشارع تعيد فتح السؤال عن ملامح وجدوى المشاهد والأفعال اليومية التي تتناسخ أمامه كل يوم، حافلة بالتكرار والتشابه.
فهو يجد نفسه حتى لحظة الخروج منصهراً في المضي إلى نفس النقطة التي تبدأ فيها رحلة الخروج .. وكأن ثمة دائرة مغلقة تبدأ كالعادة عند الصباح وحتى العودة إلى البيت .. ودون أن تستوقف هذه الدورة الرتيبة أحداً .. حيث الكل ينغمس فيها ” دون أن ينتبه .. “
إن البعد الدلالي الذي تستوقفنا عنده القصيدة بدأً من عنوانها مروراً ببنية تناميها وأحداثها الشعرية بمقاطعها المتوالية حتى نهايتها ..
تكمن الرؤية الشعرية هنا في الاعتماد على تهشيم ذلك اليقين وزعزعة الثقة من خلال الهدم الذي لا يتوقف لصورة الذات والواقع وفضح الانسجام والتجانس الظاهري الذي يطفو على السطح الخارجي للذات التي تتجه عبر لكشف الداخل عبر رؤية شعرية لا تكف .. بحثاً عن الذات في تناقضاتها وما يمور داخلها من تآكلات وتشظيات وصولاً إلى البحث عن إنساننا الهارب من زحمة الحياة المعاصرة.