لم أكن قد التقيت الشاعر اليمني الشاب ذا الصوت السبعيني عبد الله القاضي أيام دراسته ببغداد المدينة التي ولدت فيها ونشأت ودرست في أمكنتها وأزمنتها . لكنني قرأت بعض أشعاره في الدوريات قبل لقائي به عام 1996م بصنعاء حين جئتها مدرساً وباحثاً عن جوهرها الكامن وراء غلافها ، فعرفت فيه شاعراً متميزاً في لغته ورؤاه ، وراح يذكرني بجيل شعري ناضج يمثله هو والمرحوم عبد اللطيف الربيع وعبد الودود سيف وشوقي شفيق ومحمد حسين هيثم وآخرون من الأصوات السبعينية التي يشهد لها بالمغامرة التجديدية وكتابة قصيدة الحداثة ، في واحدة من أهم متواليات تطورها، وصولاً إلى قصيدة النثر في مرحلتها الوسطى .
أطلعني الصديق الفنان التشكيلي حكيم العاقل على مسودات ديوان يجمع أشعار القاضي ، فتذكرت على الفور قصيدته عن الرسام الرائد هاشم علي التي أسرني فيها تمثله لعالم هذا الفنان المثابر في أدق مفرداته ، وأذكر أنني عبرت عن أعجابي بالقصيدة وإحاطتها بشخصية هاشم علي رساماً وإنساناً لكنني لم أستطع فهم دلالة الكاذي في عنوان القصيدة (قبوة كاذي للرسام هاشم علي) ولدهشتي فقد كان عبد الله القاضي يحمل لي (في مكان عملي بالجامعة القديمة) صباح اليوم التالي وردة كاذي ، ظل عطرها يفوح في غرفتي عدة أيام ، ويتوازى حضوره الفضائي في الغرفة مع جسد قصيدته على الورق . والآن يلوذ القاضي بالصمت وكذلك تهجع أشعاره القليلة في صمت قاس ربما سيكسره الأصدقاء، لكن أسمه سيظل مميزاً وخاصاً على لائحة القصيدة الحديثة في اليمن .
أولى القصائد تحمل عنواناً طويلاً (من دونك أرسم للكون خريطة ملونة بالدم) وهي مؤرخة في النصف الأول من عام 79م وتحمل في بنائها إيقاعات وتراكيب تميزت بها القصيدة السبعينية التي لم تحدد هويتها بعد في مجال اختيار الأسلوب الشعري المتأرجح بين الإبقاء على الوزنية كما في قصيدة الرواد ، والانطلاق في مغامرة الإيقاع الجديد البديل ، وكسر الشعرية السائدة بالصور المولدة والعلاقات التركيبية المشاكسة ، لكنها تحمل سمة (الرفض) والتمرد إلى الحد الذي يصبغ خريطة الكون المرسومة شعراً باللون الدموي ، حيث يجد الشاعر الخواء في كل مكان :
شفتاي ترتعشان من جدب الكون
أمطريني أمطريني قبلاً فالقبل روح المطر
تعالي .. أين تذهبين؟
فالربع الخالي مملوء بالقيء
والبحر العربي يأكله سمك القرش
في قصائد المرحلة التالية سيحاول القاضي تهدئة الاندفاع الموسيقي ، لاجئاً إلى نثرية مباشرة ، تشير إليها مطالع قصائده التي يتكرر فيها النداء (يا ..) بشكل لافت ، فكأنه يستعير نثريات جبران وجيله في كتابة مناجيات شعرية ، مستريحة لانسياب النثر وتلقائيته وإيقاعاته القائمة على السرد ، وتوازي الأفكار ، وتقابل الصور كقوله عن هاشم علي:
أيها الطيب الذي لا يشبهه أحد
ويشبه كل الكائنات
.. حينئذ أنت أم الغابة
من منكما يصطاد الآخر
لقد كان إحساسه بالخسارة والخذلان مبكراً ، وهو ما يطبع قصائد الديوان بهذه السوداوية ذات السمة الاستفزازية في تراكيبه التي يغلب عليها الخطاب (النداء غالباً) والنفي والجمل الإخبارية المتوترة والمكثفة :
“الحياة كذبة يا سيدي
ليس لنا في أرضنا مرقد نملة
والعالم عاقر”
وبهذا الإحساس آنسحب القاضي إلى إنجاز خريطة وهمية للكون ، استغرقت تفاصيل حياته وأقصته عنا إلى الصمت ، لكنه يظل ذا مناخ خاص في شعر الحداثة يمنياً وعربياً ، وستكون إعادته إلى الذاكرة للشعرية عبر هذه القصائد مناسبة لتأكيد ذلك المناخ .
وأحسب أن قصيدته (كمين) تعبر عن مركز تعبيري مهم في الديوان ، وفي تجربة عبد الله القاضي كصوت ضائع بين أجيال قصيدة النثر اليمنية ، شأنه شأن الراحل العزيز نبيل السروري ، ففي هذه القصيدة يكون الزمن (الغد تحديداً) مناسبة للإعلان عن خذلان الشاعر وإحساسه بالخسارة ، وهي خسارة تتوالد وتتناسل كل يوم فيصبح الغد (أمساً) ولكن بطعم المرارة نفسها والخسارة ذاتها ، وهو ما طبع القصيدة نفسها بالعودة والتكرار :
“غداً وغداً وغداً
كم من الوقت مر
وأنت تقول :
غداً وغداً وغداً
كم من غد مر وانطفأت شمسه
كم غد صار (أمس)
وأنت تقول : غداً وغداً وغداً
وبين غد ذاهب
وغد آيب
تظل تعد الكمائن
تجدل من خيط وهمك وعداً
ومن خيط حلمك وعداً
وقد وهن العظم
وأشتعل الرأس
والوحش محتفل
والرياح سموم
ومازلت تلقي بأوراق عمرك للريح
تحملها عنك وهي تنوح :
غداً وغداً وغداً”
إن قراءة عبد الله القاضي تؤكد افتراضات كتابنا في كسل النقد وقصور القراءات حيث لم يدرس القاضي وتجربته بما يستحق وتستحق ..