عبد الله قاضي، شاعر ولغوي يمني، يعتبر أحد الرموز الأدبية المهملة والمنسية في عصرنا. رغم أن اسمه لا يتردد كثيرا في الأوساط الثقافية، إلا أن أثره الأدبي والفكري لا يمكن إنكاره. عرف قاضي بتواضعه الشديد وعشقه للعلم والمعرفة، حيث غاص في أمهات الكتب وتعمق في بحر اللغة العربية حتى أصبح فقيها لغويا متمكنا.
مامثل عبد الله قاضي في مركز البحوث والدراسات اليمني كخبير وعلامة في اللغة.. هام في التصوف حتى انه نام في المقابر..الشاعر الفارق بين جيله..أصحابه جمعوا له النصوص وهو لايعرف وصدرت بإسم “ندى لعشب جاف”..صاحب قصيدة “تعويذة للفتى ردمان”.. يستلم راتبه ويوزعه قدام قدام. لديه موقف كبير من الوجود والعدم. . نشرت صحيفة الحياة ذات مرة حوارات معه عملها علي سالم المعبقي. . عبد الله قاضي اختار نهج حياته بوعي. في العراق أيام دراسته كان يصحح للدكاترة. عبد الله قاضي ارتقى لمستوى في الثقافة اليمنية لايتكرر. الزاهد الماركسي المتبتل. مرة خزنت بغرفته البسيطة بالصافية مكتظة بعيون الكتب. .خرجنا بعد المغرب لم يغلق الباب. .استغربت وسألته بعتاب ليش مش صحيح..قال بطمأنينة من الجميل أن يسرق أحدهم كتابا. . حفظه الله أينما كان.. أعرفه انه في محراب للحنين يتنسك ويعوي للداخل.
كان قاضي متصوفا كريما، لم يكن يرى في المال قيمة تُذكر مقارنة بالقيم الإنسانية العليا التي كان يؤمن بها. بلغ كرمه حدا جعله يوزع مرتبه على الفقراء والمحتاجين يعمل في مركز الدراسات والبحوث اليمني دون أن يبقي لنفسه شيئا، متبنيا مبدأ الزهد في الدنيا. وكانت حياته تشهد على ذلك، حيث وصل به الحال في بعض الأوقات إلى النوم في المقابر، راضيا بما قسم له من حياة بسيطة. والحال أن الجهات المعنية بالادب والثقافة كوزارة الثقافة واتحاد الادباء والكتاب اليمنيين لايستاهلون سوى القدح.
لكن رغم كل ما مر به من ظروف، ظل قاضي عزيز النفس، معتزًا بقيمه ومبادئه، رافضا أن يتخلى عنها مهما كانت الظروف قاسية. كانت عوالمه الداخلية عالما مليئا بالغرابة والاختلاف، يتجلى فيها إحساسه بالغربة بشكل حاد. هذه الغربة لم تكن مجرد شعور بالعزلة عن المجتمع، بل كانت غربة روحانية وفكرية. كان يشعر وكأنه يعيش في زمن ومكان مختلفين عن بقية البشر، مرتبطا بروحانيات وعوالم أخرى لا يدركها من حوله.
إحساسه بالغربة كان ينبع من صراع داخلي بين قيمه النبيلة والتصوفية وبين الواقع المادي والزائل الذي كان يرفضه. كان يرى أن العالم من حوله يميل إلى الماديات، في حين أنه كان يعيش لأجل القيم والمعرفة والروحانية. تلك الغربة شكلت جزءا كبيرا من شخصيته وأدبه، مما جعله مختلفا عن غيره من الشعراء واللغويين، وجعل من ديوانه الوحيد الذي جمع قصائده أصدقاءه دون أن يعرف كنز أدبيا يحتاج لمن يكتشف ويقدره.
عبد الله قاضي كان يعيش في عالم خاص به، حيث كانت الكتب بالنسبة له أثمن ما يمكن أن يمتلكه الإنسان. لكنه، في نفس الوقت، كان مدركا تماما لزهد هذه الحياة الفانية وأن لا شيء يبقى إلى الأبد. عندما ترك غرفته مفتوحة حين كان يسكن في الصافية ويومها كنت مخزن عنده وحين كمل القات خرج وأنا معه وترك الغرفة دون إغلاق وفيها أمهات الكتب عاتبته لماذا تتركها مفتوحه يا أستاذ ، قال لب بابتسامة ساخرة “كويس لو في سارق يسرق كتب”، كان يعبر عن فلسفته في الحياة بعمق وسخرية.
بالنسبة له، إذا كان هناك من سيسرق كتبه، فهذا يعني أن هناك من يقدر هذه الكتب وربما يحتاج إليها أكثر منه. كانت هذه الجملة تعكس روحه الكريمة ونظرته الفريدة إلى الحياة؛ حيث كان يرى أن العلم والمعرفة يجب أن تكون متاحة للجميع، حتى لو كان ذلك يعني التخلي عن ممتلكاته الخاصة. ضحكته كانت ضحكة من يفهم الدنيا على حقيقتها، ويعلم أن قيمته الحقيقية لا تكمن في الأشياء المادية، بل في ما قدمه للآخرين من علم ومعرفة.
إنه المجذوب عبد الله قاضي..عمق فلسفة وتهكم على الأمور الدنيوية،.. شخصية تجمع بين النبل والزهد، بين التواضع والحكمة. كان عبد الله قاضي إنسانا يرى في الكتب ثروة تستحق أن تُسرق، لأنها تحمل في طياتها قيمة أعظم من مجرد حيازتها.!
***
تعويذة للفتى ردمان
عبدالله قاضي
منكسرٌ كعصفور السبئيين
تستيقظ في ذاكرتي كآبةُ البحر
يرجمني الرمل منادياً :
” أصابه مسٌّ “
أخبئُ القمر في جيبي وأشردُ
صغيراً باكياً يشغفه الحب
نهراً مختوماً بالكآبة
مرتحلاً في أصواتِ طبولِ الليل
باحثاً عن سوقٍ آوي إليه
مشتملاً بعباءة الأسحار ، أسمع الصدى مردداً :
” أصابه مسٌّ “
تحت سقف الزنك المقفل في الليل
أتكور هناك وأنام على يدي مثل كل الغرباء
وفي الحلم أستحيل طفلاً صغيراً يسير على حافة البحر
حيث الأشياء مغشاة بالطراوة
يقودني أبي العجوز وأقدامي تعبث بالرمل
إلى بلدٍ تملؤها الأعيادُ والبهجة
تملؤها الأشجارُ والماشية
تملؤها الحكاياتُ ولا تعرف النقود
وأظل أسافر في أرض الحلم
وأبي العجوز يقصُّ لي حكاياتٍ
تقودنا معاً إلى الجنة
معاً إلى بلد الخبز والدفء
وصوته يعلو مردداً :
” يا ردمان ! الخبزُ والدفءُ أجملُ من الغيومِ والقمر “
وفي قلب الليل يهزمني البردُ والجوعُ
وتختفي أرضُ الأحلام
هذا الغريب المحزون
هذا الطفل الذي تغشاه القتامة
من يندب في مثل هذا الوقت من الليل
هذا الغريب يومئ إلينا بعينيه
أنظري أنظري
” هل أصابه مسٌّ ” ؟
تقول الزهرةُ للثريا :
” بل رميةُ سهم “
امنْحُه بكارة الحزن يا صبحه
وآصنعْ له
رئةً من حنين
وشبابةً من مطر ..