تمثل الثقافة أحد مقومات الأمة أي أمة فالثقافة الحضارة هي كل القيم المادية والروحية ووسائل خلقها واستخدامها ونقلها يخلقها المجتمع من خلال سير التاريخ (1).
ان الأمة كمجموعة تاريخية من الناس يتكلمون لغة مشتركة لهم تاريخ مشترك. وتراث نفسي مشترك، ولهم مصالح اقتصادية مشتركة (هذه العوامل هي جذر الثقافة بالمعني الأعم) كما أن الأرض الواحدة من عوامل الوحدة وهي البيئة لنشأة الأمة.
وقد تكون الأمة العربية عبر مراحل تاريخية. أي عبر عوامل تكونها اللغة، التكوين المشترك، التاريخ العام، المصالح الاقتصادية، أما الأرض الواحدة فموجودة منذ الأزل.
نلمس بجلاء متانة هذه الوحدة الثقافية منذ البواكير الأولي لفجر التاريخ في مختلف مناحي الحياة فالتركيبة الاجتماعية والبني القبلية وتداخل هذه البني بكل الجزيرة وصولاً الي مصر وبلاد الشام فالتكوين الحضاري والديني والفكري مترابط أشد ما يكون الارتباط.
لقد لعبت الهجرات المتعاقبة والقوافل التجارية والصلاة الروحية الأثر الكبير في نشأة هذه الوحدة. فقبائل حمير وكنده وخولان ومذحج وهمدان والأزد تنتشر في الجزيرة ومصر وبلاد الشام ومنها تصل الي المغرب العربي الكبير وصولاً الي الأندلس. واللافت أن الانتماء الي اليمن لم يشكل عائقاً أمام الاندماج في جسم المجتمع العربي الكبير، فعندما سئل القاضي شريح من أنت؟ قال أنا من أهل اليمن وعدادي في كنده. وعندما سئل رجاء بن حيوة أجاب أنا من أنعم الله عليه بالإسلام وعدادي في كنده. ويشير الأستاذ عبداللطيف الحديثي في كتابه القيم (أهل اليمن في صدر الإسلام) أن هذا التعبير فقد قوته. ولم يتحول الي وضعية اجتماعية أو سياسية. وحقيقة فان التطور الحضاري الاجتماعي والسياسي التي استخدمته اليمن منذ قيام الدولة السبئية فالمعينية فالحميرية قد صقل الروح القبلية كما أن تحدي بناء السدود وإقامة المدرجات وحماية القوافل التجارية والهجرات التاريخية المتعاقبة قد أسهمت في بلورة الشخصية اليمنية وربطتها أكثر فأكثر بما حولها وهيئتها لتلعب الدور الكبير في كيان المجتمع العربي الذي كان فجر الدعوة الإسلامية بمثابة إعلان مولده، حقا فان مسمي أهل اليمن بعد انهيار الدولة اليمنية يعني فيما يعني تجاوز التركيبة القبلية والاحتفاظ بقيمة حضارية مهمة ذلك أن جزيرة العرب قبل الإسلام كانت مملكة سياسيا.
منوعة حضاريا وثقافيا بالرغم من بعض مظاهر هذه الوحدة التي تتجلي في اللغة. وفي النظم الاجتماعية المتشابهة. وبعض العقائد الدينية العامة التي ترجع الي أزمنة موغلة في القدم وبالرغم من توفر سبل الاتصال المادي والثقافي بين أهلها (2) والواقع أن إطار هذا التنوع والتعدد والاختلاف لا يقل عن إنكار الوحدة. فكلاهما أدي ويؤدي الي نتائج كارثية وما يجري الآن في العراق وفلسطين والجزائر والمغرب والسودان مظهر من مظاهر هذه الرؤية العقيمة والمدمرة.
لا ريب أن الاقبال الظاهري علي الإسلام والانضمام الي دولته لم يكن عاما بالشكل الذي صوره مؤرخو السيرة. ولم تكن دوافعه وعوامله واحدة. كما لم يحدث كله في وقت واحد. ولا بد لفهم التطور الحقيقي للأحداث من دراسة دقيقة ومعمقة لوضع كل جماعة أو منطقة ومعرفة موقفها من الإسلام وأثر أوضاعها في المواقف التي اتخذتها (3). والواقع أن كتب السير الى حدما والوعاظ يصورون الجزيرة العربية كما لو كانت كلها وثنية وأهلها عباد قبور وجاهلية ولم يقرأوا التفاوت الحضاري بين أقسام مختلفة منها. وانحصار الوثنية والجاهلية في أجزاء معينة من الجزيرة.
وإذا نظرنا في أوضاع اليمن فقد عرفت اليمن عبادة الكواكب: الشمس والقمر والزهرة عثر. وهي عبادات مرت بها العديد من شعوب الأرض. وهي أيضاً مرحلة مشتقة من عبادة الأصنام والحيوانات والقبور. وعرفت اليمن عبادة (ذي، سموي) وعبادة الرحمن. وهو ما تشير اليه بعض الآثار وللأسف الشديد فان المعبود الرحمن في الديانات اليمنية القديمة لم يلق العناية والبحث باستثناء إشارة للباحث والمفكر مطهر علي الارياني وأستاذنا الدكتور يوسف محمد عبدالله والمؤرخ الكبير جواد علي ولكن الأمر بحاجة الي دراسة أوسع وأوفي. وقد عرفت اليمن عقيدة التوحيد في مراحل باكرة أيضاً وهو مما كلفها من تقبل الديانات السماوية: اليهودية والنصرانية والإسلام. فالتطور الحضاري في دولتي سبأ ومعين وحمير ساعد علي تقبل فكرة التوحيد.
من الصعب الفصل بين النشاط التجاري والتبشير الديني وانتشار الأفكار والمعتقدات. إذا لاحظنا أن أهم طرق التجارة الشرقية الآتية من المحيط الهندي وسواحله الي البحر المتوسط هي طريق الخليج الي الفرات فبادية الشام وطريق البحر الأحمر الي جنوب فلسطين ومصر. وطريق القوافل البرية في الجزيرة العربية فان اليمن يتحكم باثنتين من هذه الطرق(4).
ان قصة انتشار اليهودية في اليمن كدين سماوي قد سبقه كما أشرنا توحيد وتجريد ل سموي وكشفت عند العديد من نقوش المسند وكما أن قصة انتشار اليهودية وامتدادها من فلسطين الي اليمن عبر الطرق التجارية كما يشير الدكتور فكتور سحاب قديم. وربما يعود الي عام 200م. والواقع أن قصة يهود اليمن بحاجة الي قراءة مختلفة فالأبحاث التي قام بها أستاذ التاريخ اللبناني كمال صليبي تجد سندها فيما كتبه السائح الإيراني ابن المجاور في كتابه (تاريخ المستنصر) وهي رحلة تعود الي العام 625 الهجري وربما تؤكد العادات والقيم والتقاليد في بعض المناطق صدق ما ذهب اليه ابن المجاور والذي استند اليه كمال صيلبي في كتابه (التوراة آتية من جنوب الجزيرة) بصورة حاسمة. ولم يكشف عن مصدره الأساس الا تحت وطأة ردود الفعل القاسية والمريرة.
وربما تكشف التنقيبات الأثرية والأبحاث القادمة والكشف عما وجد في اليمن في نسخ العهد القديم و الجديد والقرآن الكريم عن حقائق مختلفة ومغايرة للسائد حتى اليوم، فاليمن لم تكن متلقيا سلبيا في كل مراحل تاريخها. فموقعها الوسطي بين تجارة الشرق والغرب وطبيعة بيئتها الغنية حينها والشموس ومنجزاتها الرائعة في الزراعة والتجارة والمواسم. والخبرة باحتياجات الأسواق والهجرات اليمنية الي مختلف أصقاع الأرض قد مكن اليمني من لعب دور مهم في حضارة العالم القديم. فقد زودت اليمن العالم القديم بالتوابل والبخور والصبر والحرير. وكانت واسطة العقد بين الشرق والغرب. وأسهمت بدور في التأسيس للغة العربية. فخط المسند الحميري كما هو معروف يعد أحد الأمهات السبع للساميات التي أسست لولادة اللغة العربية.
ويتناول الدكتور عبدالوهاب راوح في مبحث مهم له عن تأثير اليمنية في الديانات السامية (دراسته فيلولوجية) ويأتي الباحث علي المفردة اللغوية التي أسست للمشترك في الآلهة السامية/ عثر عند اليمنيين والتي هي عند الفينيقيين والعبرانيين/عشتار وعشتروت وهي الكوكب المعروف في علم الفلك الإسلامي بالزهرة.
ويشير الدكتور الي التأثر والتأثير الديني بين الساميين الجنوبيين (ويقصد بهم هنا اليمنيون القدماء) والساميين الشماليين ويقصد بهم هنا بقية سكان الجزيرة العربية الي جانب الساميين المنتشرين في بلاد الرافدين والشام كالبابليين والفينيقيين والآراميين الخ(5). ولا شك أن الوسيلة المعرفية لاستنتاج المعلومة التي نحاول الوقوف عليها هنا لا تكمن في الرواية وإنما تكمن في مقررات علم اللغة المقارن بين لغات هذه الشعوب التي ترجع الي أرومة واحدة. وتربط بينها علاقة رحم وقربي. وتعرف لغاتها بمجموعة (اللغات السامية) التي انحدرت من لغة واحدة تعرف بالسامية الأم أو السامية الأولي Proto Somitk (6) والواقع أن كثيرا من المفردات بحاجة الي إعادة دراسة لغوية ليستبين العلاقة بين جذورها وتحولاتها المختلفة أن سين السورة في القرآن الكريم نجدها أيضاً في المسند الحميري كتسمية للإله القمر سين ومكة مثلاً ألا تكون امتدادا للإله المقة.
إله شعب سبأ. كما أن الرحمن الذي عرفه اليهود حتى أيام يوسف أسار يثأر احتفظ به المسيحيون أيام أبرهة كما في أيام سميفع. وجعلوه في مقدمة الثالوث المقدس عندهم. ولاسم الرحمن كما نعرف مكانة خاصة بين الأسماء الحسني لله جل وعلا. وهو الاسم الذي أنكره مشركو قريش بالذات. كما حدث عند كتابة صلح الحديبية. بل وقبل ذلك في مكة. كما في بعض الروايات(7).
وتحفل آي القرآن الكريم والسنة بمآثر اليمن وعظات وعبر التاريخ والحضارة اليمنية. ويشتمل القص القرآني وأخبار الوفود علي النبي الكريم حتى قبل الفتح ونصرتهم للرسالة السماوية بالكثير والكثير.
لذا فلا غرابة أن يكون اليمانيون في طليعة المفسرين والأخباريين ومعروف في التاريخ كعب الأحبار، وهب ابن منبه كما أسهموا في التأسيس لتدوين السنة: معمر بن راشد الأزدي وتلميذه عبدالرزاق بن همام وهما من مفسري القرآن أيضاً ويعتبر عبدالرزاق الصنعاني من أساتذة الشافعي وممن روي عنهم هو واحمد بن حنبل.
لقد كان إسهام المدرسة اليمنية غزيراً في مختلف فروع المعرفة والعلوم والآداب. وإذا كان الحسن بن احمد الهمداني علي رأس الجغرافيين والمؤرخين العرب فان نشوان بن سعيد الحميري في طليعة المتكلمين والشعراء والمفسرين وعلماء الكلام واللغويين في العصور الوسطي.
ولا يزال الإحياء والتجديد الديني يدين بالكثير لعلماء أجلاء أمثال ابن الوزير ويحيي بن حمزة والأمير والشوكاني والمقبلي والجلال. وقدم صاحب تاج العروس المرتضي الزبيدي آخر وأهم معجم لغوي ويمثل اليمن كنزا من كنوز فكر الاعتزال ويمثل يحيي بن الحسين الرسي وتلاميذه في المدرسة الزيدية العقلانية والمتحررة والاجتهادية معلما مهما من معالم الفكر العربي الإسلامي والإنساني.
وقد بلغ التطور ذروته في تيار المطرفية التي لولا قمعها بضراوة ووحشية لمثلت إضافة جد عميقة الي التفكير الإسلامي في العصور الوسطي ومثل كتاب الدكتور علي محمد زيد فتحاً مهما في دراسة الفكر المطرفي ومحنته علي يد عبدالله بن حمزه. كما أن دفاع الباحث زيد الوزير عن الطرفين جدير بالإشادة والتوقير.
ويقدم لسان اليمن وصفاً شائقاً لأهل صنعاء نقلا عن بطليموس فهم أهل تميز لعارض الأمور.. ولهم خط المصاحف الصنعاني المكسر والتحسين الذي لا يلحق به ولهم حقائق الشكل ذكرهم بذلك الخليل يقصد الفراهيدي ولهم الشروط دون غيرهم. ولا يكون لفقيه من أهل الأمصار شرط الا ولهم أبلغ منه. وأعذب لفظا وأوقع معني وأقرب اختصاراً، صفة جزيرة العرب .
لقد أعطت حضرموت وعدن وزبيد للتصوف الإسلامي أبعاداً جد عميقة وزاهية. ويعتبر الجبرتي والرداد وصاحب كتاب الانسان الكامل عبدالكريم الجبلي. وإسماعيل الحضرمي والبجلي والحكمي والأهدل وابن علوان وبلغيث ابن جميل والبرعي علامات مضيئة في سماء الفكر الصوفي.
ورفد الاجتهاد الفقهي اليمني المدارس العربية والإسلامية بمجتهدين كبار أمثال ابن المقري وابن عجيل والريمي واحمد بن يحيي المرتضي وابن مفتاح والعمراني وعشرات غيرهم ولليمنيين مساهمات مهمة في فكر التيارات الإسلامية المختلفة في التاريخ ومختلف علوم السياسة والفلك والمساحة والحساب والطب والمنطق. والكيمياء. والموسيقي. والملاحة والفلسفة.
وكان الأدب اليمني والشعر منه بوجه خاص أقل تأثراً بعصور الركود والانحطاط الذي طال الأدب والشعر العربي بل أن البعض ليذهب الي احتفاظ اليمن بخصائص الإبداع والتجديد في أكثر العصور تدهوراً.
هوامش:
(1 الموسوعة الفلسفية مادة ثقافة ص 153 روزنتال. يودي.
(2 د. نزار الحديثي أهل اليمن في صدر الإسلام المؤسسة العربية للدراسات والنشر ص7.
(3 الحدثي نزال عبداللطيف أهل اليمن في صدر الإسلام ص7.
(4 د. فكنورسحاب إيلاف قريش ص119.
(5 د. عبدالوهاب راوح بحث بعنوان تأثير اليمنيين في الديانة السامية دراسة فيولوجية، مجلة دراسات يمنية عدد 25 26 عام 86 ص109.
(6 مصدر سبقت الإشارة اليه ص109.
(7 د. محمد عبدالقادر بافقيه (في العربية السعيدة) ص 169، 170.