محمد محمود الزراري شاعر يمني شاب لا تحتفظ له الذاكرة بما يدل عليه أو يضعه في سياق شعري ما، لكنني حين أتلقي ديوانه (طريق ترابي قصير) – صنعاء2007 لأقرأه ستدهشني قصائده النثرية التي كرس لها الديوان، ويلفت الانتباه إلى ظواهر سأحاول هنا أن أتبين بعضا منها.
هذه المفاجآت التي يهبها المشهد الشعري تعزز الثقة بقدرة الشباب علي الاضافة والتعديل، فضلا عن التعزيز الممكن للتحديث الشعري.
تستوقف القارئ أولا العَتبة التعارفية التي يثبتها الشاعر في مدخل الديوان دون عنوان:
بكل عشوائية
سمّيتُ نفسي طائراً يمانياً
أبي اقتنع أخيراً
الوطن رخام
أود شراء حرف جر
لتأتي حبيبتي دون عناء!
لتأتي لعبتي الكبيرة من أيام الطفولة
تلك العلاقة المتخيلة أو المفترضة بين الشاعر واللغة ، بينه وبين الأشياء التي تمر في حياته أو يمر بها : الوطن والأب، الحبيبة والطفولة ، تشكل ما يشبه وعداً أو عقداً بينه وبين قارئه ، فننتظر أن يشي الديوان ببعض المواقف التي تنتظم علاقة الشاعر بالمسميات التي صرح بها ، رغم أننا متيقنون بألاّ وعود محققة في الشعر ، فالقصيدة تأخذ باللغة والمخيلة الي حيث لا يتوقع أحد.
لكن مدخل القصيدة الأولي(ميثلوجيا) يعطينا وعداً آخر بالتعارمثّله بيتها الأول:
محمد محمود شخص عاطنٌ في المجاز
اذن فالشاعر يطمح لانجاز ما يشبه السيرة الشعرية ويهرّب كِسراً من حياته في ديوانه، وبذا تتضح بعض انشغالات القصيدة الجديدة وقصيدة الشباب خاصة فقد بدأت تتغذي من مفردات حياتهم وتصوراتهم عن أنفسهم ومحيطهم وتجاربهم.
واذا كانت تلك السير أو المقدمات التعارفية وتقديم النفس للقاريء ضرورية للعودة من تهويمات القصيدة النثرية واتجاهاتها اللغوية المغرقة في التجريد والحذلقة ، فانها لم تنج ُأحياناً من النزعة الاستعراضية وتكرار الصور والتراكيب التي تقدم الشاعر في هيئة ما ، قد تمتثل للصورة النمطية التي يرون الشاعر عليها: صعلوكا متشردا بلا ألفة أو مودّة ، يهزمه العالم وهو لا يزال في بداية طريقه الذي رآه الزراري -كما قال عنوان ديوانه-: طريقا ترابيا قصيرا،ولا بأس من مفردات تجلد الذات وتصورها ضئيلة منكسرة وبلغة تستمد شعبويتها وعاميتها أحياناً من الامتثال للسائد أو الموضوي المهيمن علي الخطاب الشعري ، والرغبة في الاندراج ضمن قبيلة الشعراء الملعونين أو المتمردين .
سيقول الزراري في أولي قصائده التي تصدرها التعريف به:
ومحمد محمود هو شخص مثل غيره من الخردوات
التي ترمي أخيراً في البحر
لهفته صريحة وتشبه سرعة الأمهات
في ادخال الملابس قبل هبوب العاصفة
ان بناء صورة كاركتيرية للذات تمزج الحزن بالمزحة تصل لحد القول عن النفس (تافه وحقير) تطمع دون شك عن طريق البني الصادمة لأن تتثبت من حصولها علي الانتباه والقراءة ،رغم أن الزراري سيحصل علي ذلك في قصائد لا استعراضية فيها .
وتمضي المدونة التعارفية الشبيهة بالسيرة لتقدم الشاعر بأنه مثلا:
ليس له أصدقاء ولا رفقة ولا عشيقات
ليس له حياة أكثر من رغوة الآيسكريم
غريب وليس في يديه ثأر لأحد
ولهذا يموت بمجرد لمسة من ريشة طائر
وفي سيرة تعارفية صريحة سيحضر كل شيء أفلح الشاعر في ضمه لسجل حياته التي يجردها أمامنا، فنعلم أنه في السابعة والعشرين، مغترب، يعاني من عزلة ارتاح لها ، فيخلط العادي بالجوهري: الآيسسكريم واالسفن آب، والسندويتش ،بالحكمة والحب والقدر،ونتعرف علي رؤيته للشعر وهوية الشاعر (يؤمن بأن الشاعر بلا بصيرة مثل الغيوم) ولقد اختار ضمير الغائب ليسرد ما يشبه السيرة هذه، فكان حديثه عن محمد محمود بصيغة الآخر ليكرس ذلك التباعد بين الشخص والشاعر، والشاعر والعالم، بما يكفي من المسافة الافتراضية للرؤية والتأمل.وهو تبرير يقدمه دارسو السيرة الذاتية حين بسقط عنها شرط التلفظ المباشر بضمير المتكلم وسرد الأحداث بعائدية صريحة لصاحب السيرة.لاسيما وهو في قصيدة أخري لا يريد الحديث عن نفسه (محمد محمود مجرد كاهن يمني-مات من شدة اللاضروري في حياته) ويستبدل ذلك بالحديث عن أصدقائه، كما يكرس قصيدة(هامشيون) لسيرة جماعية لأشباهه من الشعراء تحفل بالصفات التي التقطها الشاعر بذكاء ، وصاغها بجماليات خاصة جعلتها تصلح بياناً عن أحوال الشعراء الجدد ورؤاهم:
بكينا الشمس التي قلصت رؤيتنا للحروف
شكرنا الليل الذي لأنه يحد لنا رغيفا لا نراه
نادي علينا البحر فتركناه يراجع لكنته
..يمكن أن نختبيء في حقيبة يد
..نقيس ارتطام الرغبة في الرصيف
تتميز قصائد الزراري بالتشظي البنائي كما أحب أن أصف انقطاع جمله عن بعضها وانتقالاته من صيغة لأخري في تداعيات يكون معها كل شيء ممكناً ووارداً من تركيب لآخر. وهي ميزة تطّرد في القصائد كلها ، فكأن الشاعر يعكس ما يراه من تشظٍ في العالم والأشياء من حوله ، واذا كانت القصيدة السيرية الأولي تخففت من ذلك ، فان القصائد الأخري تعاني من هذا التشظي فتبدو كل جملة استئنافاً لكلام جديد، منقطعة عن سابقاتها و لاحقاتها أيضاً.
واذ تتوالي الجمل القصيرة المتباعدة معنوياً والمنفصلة عن بعضها نحس أن الشاعر يضعنا في طقس تنبؤي ، فكأن افتقادها للترابط التركيبي جعلها قريبة من الوصايا أو الشذرات الحكمية :
الأزهار تنتظر خارج بستانها
استخدم لكنتك للتعبير عن النسيان
يمر القبر بجوار القبر
ولا يخدش التأويل
يكبر المنفي بلا أشجار ميلاد
أو تتبين بوضوح في مطلع نص آخر:
غدا ..
في الملح نقيس وضوحنا
لا شجرة تقتل شاعرا
حرية اليدين خفيفة دوما
وهذا التشظي يغدو ميزة بنائية وبلاغة خاصة بالقصيدة حين يتخذ شكل التكرار الايقاعي المؤثر، كما في قصيدة(أَلبوم)التي يتآزر شكلها ومحتواها لعرض مالا ينتهي من التداعيات تحت مبرر عرض الصور التي يسمح بها الألبوم:
صورة للغربة في بيت الشاعر
صورة لأشباهنا من الطين
صورة لكلمة مساء الخير
صورة لحنين مثقوب بالمسافة
صورة للفرح فوق واو الجماعة
صورة للجملة الفعلية نائمة فوق هدبي طفل
صورة للوجود تحت مخدة مراهقة
صورة لأبي يدخل الدار
صورة للحرب وهي تغسل جسدها
هذا التكرار الذي يخلق احساساً بايقاع بديل يبحث منظّرو قصيدة النثر عن تعيناته الملموسة ينتظم النص كاملاً، ويسمح بما لانهاية له من تلك التداعيات،والتي سنري تشكلاً آخر لها في هيئة التكرار المتغير في قصائد تالية :(انها العودة لمصافحة الغياب- انه العثور علي أمّ للغربة-انها أقدارنا ولكنها اختارت الرسم- انه الوصول الي شمعة توقفت عن التضحية).
تحقق مثل هذه النصوص غرضين :الأول ايقاعي يتنزل بالجمل الشعرية في سلسلة شعورية ولغوية من جهة ، و الثاني نفسي يجسّد الاحساس بالتشظي والتبعثر الذي أشرنا اليه.
حشد من الأسماء تتكدس متنضدة في القصائد لتؤكد المرجع الثقافي الذي تعتمد عليه القصائد، هنا يحضر توليف من الأعلام والمسميات :جودو ،وماركس،درويش وكاسترو،لينين،فيروز وأيوب طارش ،أدغار ألن بو،نيوتن…وذلك يؤكد استبعاد تُهم الهشاشة عن هذه القصائد ومثيلاتها.
تبقى ملاحظتنا يمة كماً من الأخطاء النحوية وددنا لو خلت منها القصائد والتي يعترف بها الشاعر في بيت طريف من سيرته يقول عن نفسه انه (قصير اللسان ومع هذا كثير الأخطاء النحوية).
ان ديوان الزراري يؤكد استمرار نسغ التحديث في الشعر اليمني حيث تتكرس أسماء جديدة ، منها سوسن العريقي و فتحي أبو النصر ووضاح الحريري وليلي الهان ومحمد عبيد ونوال الجوبري وسواهم ممن تعد قصائدهم بمناخ جديد ينعش القصيدة النثرية التي تأسست عبر أجيال الكتابة الجديدة منذ الستينيات.