ترجمة : فخرية صالح
هل المثقفون مجموعة كبيرة من الناس ام انهم مجموعة صغيرة مختارة ومصطفاة الى أقصى حد من الحدود؟ ان المثالين الاكثر شهرة فى القرن العشرين واللذين يقدمان وصفا للمثقفين يعارض احدهما الأخر بصورة جذرية يكتب انطونيو غرامشى، الصحفي الايطالي الجنسية الفاعل والفيلسوف السياسي اللامع الذي سجنه موسوليني ما بين عامي 1926 و1937، فى “دفاتر السجن” ان: “كل الناس مثقفون ، وهكذا فان باستطاعة المرء أن يقول: ولكن ليس لكل انسان وظيفة المثقف فى المجتمع .
وتعطى سيرة حياة غرامشي نفسه مثالا واضحا للدور الذي ينسبه الى المثقف فقد تلقى غرامشي تدريبه الخاص فى علم فقه اللغة ، وكان فى الوقت نفسه مسؤولا فى حركة المجتمع الايطالي كما كان فى عمله الصحفي مثالا للمحللين الاجتماعيين الاكثر وعيا بأن هدفهم يتجاوز مجرد بناء حركة اجتماعية الى انشاء تشكيل ثقافي كامل مرتبط بهذه الحركة.
ينقسم هؤلاء الذين يؤدون وظيفة المثقف فى المجتمع ، وهو ما يحاول غرامشي ان يوضحه لنا، الى نوعين اثنين: النوع الاول هو المثقفون التقليديون مثل المدرسين والكهنة والموظفين التنفيذيين الذين يواصلون فعل الاشياء نفسها من جيل الى جيل ، اما النوع الثاني فهو المثقفون العضويون الذي يرى غرامشى انهم مرتبطون بصورة مباشرة بالطبقات او المشاريع التي تستخدم المثقفين لتنظيم مصالحها واكتساب المزيد من السلطة والسيطرة وهكذا الخطأ، إذ يقول غرامشي عن المثقف العضوي بأن “المنظم الرأسمالي يعين الى جانبه التقنى الخبير فى الصناعة والمتخصص فى الاقتصاد السياسي، والمنظمين لثقافة جديدة ومبدعي النظام القانوني الجديد الخ ، ومن هنا يمكن ان نعد فى ايامنا الخبير فى الاعلان او فى العلاقات العامة ، أي ذلك الشخص الذي يصمم اشكالا متعددة من السبل لكي تتمكن شركة منظفات او شركة خطوط طيران معينة ان تفوز بنصيب كبير فى السوق ، مثقفا عضويا استنادا الى “تعريف” غرامشى، اذ انه يمثل في المجتمع الديمقراطي شخصا يحاول أن يحظى بقبول العملاء المحتملين أو أن يوجه المستهلك او رأى الناخب لقد آمن غرامشي بان المثقفين العضويين متورطون بصورة فاعلة فى المجتمع ، اي انهم يكافحون بصورة ثابتة لتغيير العقول والافكار وتوسيع حدود السوق ، بعكس المعلمين والكهنة ، الذين يبدو انهم ينزعون الى البقاء فى اماكنهم دون ان يغادروها بدرجة او أخرى حيث يؤدون العمل نفسه سنة بعد سنة، فان المثقفين العضويين هم على الدوام فى حالة اندفاع وحركة، فى حالة تشكل.
فى الطرف المقابل نجد تعريف جوليان بندا، الذائع الصيت ، للمثقفين اذ يصفهم بانهم جماعة صغيرة جدا من الملوك _ الفلاسفة الموهوبين المتفوقين والذين يتمتعون بالاخلاق العالية ويمثلون بالتالي ضمير البشرية ، ورغم ان رسالة بندا “خيانة المثقفين L,a Trahison desclescsلإ قد عوملت من قبل الاجيال التالية له بوصفها هجوما لاذعا على المثقفين الذين يهملون نداءهم الداخلي ويساومون على مبادئهم اكثر من كونها تحليلا نظاميا لحياة المثقف, انه فى الحقيقة يستشهد بعدد قليل من الاشخاص, والخصائص الاساسية لهؤلاء الاشخاص الذين يعدهم مثقفين حقيقيين, يذكر بندا اسمي سقراط والمسيح مرات عديدة, كما انه يذكر امثلة حديثة مثل سينوزا وفولتير وارنيست رينان يمثل المثقفون الحقيقيون نخبة, مخلوقات نادرة فى الحقيقة, لان ما يساندونه هو معايير الحقيقة والعدالة الابدية التي لاتنتمى ابدا الى هذا العالم ومن هنا يجىء التعبير الديني الذي اطلقه بندا عليهم – الاكليروس Clcrics – لكي يميزهم فى المكانة والوظيفة عن سواة الناس, اولئك البشر العاديين المنشغلين بمصالحهم المادية واسباب التقدم والترقى الشخصي، واذا وسعهم الامر فهم اولئك البشر الذين يرتبطون ارتباطا وثيقا بسلطات الدنيا، يقول بندا ان المثقفين الحقيقيين هم ددالاشخاص الذين لانتصب فعاليتهم بالضرورة على السعى وراء الغايات العملية, اولئك الذين يبحثون عن سعادتهم فى ممارسة فن او علم او التأمل الميتافيزيقي انهم باختصار اولئك الذين يسعون الى تحقيق المنافع غير المادية وبالتالي فان الواحد منهم يقول لنفسه: “مملكتى ليست من هذا العالم”
وعلى كل حال فان الأمثلة التي يضربها بندا تبرز بوضوح وجلاء انه لا يصادق على نموذج المفكرين المتحررين من التبعات, المنصرفين تماما عن هذا العالم, المقيمين فى ابراج عاجية, والمنعزلين بصورة تامة مكرسين انفسهم للموضوعات العويصة, ولربما الخفية الملغزة, ان المثقفين الحقيقيين يقومون بوظائفهم الطبيعية عندما تحثهم العاطفة الميتافيزيقية ومبادىء العدالة والحقيقة النزيهة لكي يشجبوا الفساد ويدافعوا عن الضعفاء ويتحدوا السلطات الجائرة او غير الشرعية, يقول بندا “لا حاجة لان اذكر كيف ان فينيلونFenelon ماسيون Ma- sillon قد شجبا بعض الحروب التي شنها لويس الرابع عشر، وكيف ان فولتير ادان تدمير البلاتينايت .، وان رينان شجب العنف الذي استخدمه نابليون, كما شجب بكل Buckle التعصب الذي مارسته انجلترا ضد الثورة الفرنسية, اما فى زماننا فقد استنكر نيتشه الوحشية الالمانية تجاه فرنسا.
وحسب بندا فإن مشكلة أبناء هذا الزمن هى انهم خولوا سلطتهم الاخلاقية الى ما يسميه بندا، بتعبير يدل على نفاذ البصيرة, “منظمة العواطف الجماعية” مثل الطائفية ووجدان الجماهير والتولع القومى بالقتال ومصالح الطبقة, لقد كتب بندا هذا الكلام عام 1927، اي قبل حلول عصر وسائل الاعلام الجماهيري، ولكنه احس كم هو ضروري بالنسبة للحكومات ان توظف فى خدمتها مثقفين لا تطلب منهم ان يتبوأوا مراكز قيادية بل ان يعززوا سياسات الحكومة ويطلقوا الدعاية ضد الخصوم الرسميين وان يقوموا باطلاق عبارات لطيفة على اشياء بغيضة, وعلى نحو اوسع ان يقوموا بانشاء انظمة كاملة من اللغة الاور ويليه ** التي تعمل على حجب حقيقة ما يحدث باسم الحفاظ على “مصلحة” المؤسسة او “الكرامة القومية” لاتكمن قوة تشكي بندا من خيانة المثقفين فى براعة حجته ولا فى تبنيه لنظرية مطلقة مستحيلة التحقق فيما يتعلق بوجهة نظره التي لاتقبل انصاف الحلول بخصوص المهمة التي ينتدب المثقفون انفسهم لها، على المثقفين الحقيقيين, حسب تعريف بندا، ان يتحملوا امكانية حرقهم على خازوق او ان ينفوا او ينبذوا من قبل المجتمع او ان يصلبوا، ان المثقفين شخصيات رمزية بارزة يتميزون ببعدهم العنيد عن الاهتمامات الدنيوية العملية, وبالتالي فانهم لايمكن ان يكونوا كثيري العدد او ان يتطور الواحد منهم بصورة روتينية, ان عليهم ان يكونوا افرادا كاملين يتمتعون بشخصيات قوية, لهذه الاسباب جميعها فان المثقفين بالمعنى الذي يقصده بندا هم بالضرورة مجموعة من الرجال قليلة العدد معروفة تماما للملأ – لم يضمن بندا نساء فى مجموعة مثقفية ابدا – تخاطب اصواتهم الجهيرة البشرية ويصبون لعناتهم الفظة عليها من عل. ولا يقترح بندا على الاطلاق كيف يتوصل هؤلاء الرجال الى الحقيقة او فيما اذا كانت تبصرا تهم العميا، فى المبادىء الابدية والسرمدية, كما كانت تبصرات دون كيشوت, مجرد خيالات شخصية صغيرة.
ومع ذلك فليس لدى اي شك على الاقل ان صورة المثقف الحقيقي لدى بندا تظل بعامة صورة جذابة وتفرض نفسها بقوة, ان الامثلة الايجابية, وكذلك السلبية, التي يضربها مقنعة حقا: ومن ضمن تلك الامثلة دفاع فولتير عن عائلة كالأس, وعلى الطرف النقيض من ذلك المثال الذي يضربه للوطنية المروعة لدى كتاب فرنسيين كموريس باريه Maurice Barrcs الذي ينسب اليه بندا تخليده لنوع من الرومانطيقية التي تتضمن “بعض” الخشونة والزراية باسم الشرف الوطني الفرنسي .لقد شكلت قضيه درايفوس والحرب العالمية الأولى “جوليان” بندا روحيا، وكان الحدثان كلاهما فحصين قاسيين بالنسبة للمثقفين الذين كان عليهم ان يختاروا ان يتكلموا بشجاعة ضد عمل من اعمال الظلم العسكري المعادى للسامية والحماسة الوطنية الملتهبة, او ان يجنبوا ويسلكوا مسلك القطيع رافضين الدفاع عن الضابط اليهودى المدان ظلما الفريد درايفوس متقنين بشعارات شوفينية متطرفة من اجل تسعير نار الحرب ضد كل ما هو الماني بعد نهاية الحرب العالمية الثانية اعاد بندا نشر كتابه مضيفا اليه هذه المرة هجوما متصلا على المثقفين الذين تعاونوا مع النازيين وكذلك على المثقفين الذين تحمسوا بلا هوادة وانساقوا مع الشيوعيين لكننا نستطيع ان نعثر عميقا “تحت سطح” البلاغة المقاتلة لعمل بندا الشديد المحافظة على شخص المثقف الرافض, المثقف القادر على قول الحقيقة للسلطة, والفرد القاسى الفظ الفصيح اللسان والشجاع بصورة مدهشة, الفرد الغاضب الذي لايري ان اية سلطة دنيوية كبيرة ومهابة الى الحد الذي يجعلها غير قابلة للنقد واللوم والتوبيخ.
ان تحليل غرامشى الاجتماعي للمثقف, بوصفه شخصا يؤدى طقما من الوظائف المحددة في المجتمع هو أقرب الى الواقع بكثير من أي شىء يقوله لنا بندا، خصوصا في نهاية القرن العشرين حيث تثبت العديد من الوظائف الجديدة – المذيعون والمتخصصون الاكاديميون ومحللو الحاسوب والمحامون المتخصصون فى الرياضة والاعلام والمستشارون فى الادارة خبراء السياسات والمستشارون الحكوميون ومؤلفو التقارير الخاصة بالاسواق, وفى الحقيقة جميع الوظائف الخاصة بحقل الاعلام الجماهيري بأسره – صحة نظرة غرامشى.
واليوم يعد كل شخص يتصل عمله بحقل من حقول انتاج المعرفة او نشرها مثقفا بالمعنى الغرامشى وفى معظم المجتمعات الغربية المصنعة ازدادت النسبة بين ما يدعى بصناعات المعرفة ومعظم الاعمال المتصلة بالانتاج الجسماني بصورة حادة بتفضيل واضح لصناعات المعرفة لقد قال عالم الاجتماع الامريكي الفين غولدنر قبل عدة سنوات ان المثقفين هم الطبقة الجديدة, وان المدراء المثقفين قد حلوا الأن الى حد ما محل الطبقات العتيقة التي كانت تملك المال والعقارات, لكن غولدنر يقول ايضا ان المثقفين وكمتطلب من متطلبات السطوة “التى اصبحوا يتمتعون بها” لم يعودوا يخاطبون جمهورا واسعا، وبدلا من ذلك اصبحوا اعضاء فيما يدعونه ثقافة الخطاب النقدي.
ان كل مثقف, محرر الكتب والمؤلف والاستراتيجي العسكري والمحامى الدولي “كذلك”، يتكلم لغة اصبحت متخصصة ومستخدمة من قبل افراد اخرين يعملون فى الحقل نفسه, فالخبراء المتخصصون يخاطبون خبراء متخصصين بلغة مشتركة غير مفهومة تماما لدى الاشخاص غير المتخصصين.
بصورة مماثلة يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو ان ما يسمى المثقف الكوني “ولربما كان فى ذهنه جان بول سارتر” عندما قال ذلك “قد حل محله المثقف “الخاص” وهو شخص يعمل ضمن نظام معين ولكنه قادر على استخدام خبرته على اي حال, لقد كان فوكو يفكر هنا تحديدا بالفيزيائي الامريكي روبرت اوبينهايمر الذي غادر حقل تخصصه عندما كان مديرا لمشروع القنبلة الذرية فى لوس الاموس ما بين عامي 1942- 1945 ثم اصبح فيما بعد مفوضا بالقضايا والشؤون العلمية فى الولايات المتحدة.
ان تكاثر المثقفين قد امتد الى عدد كبير جدا من الحقول التي اصبح فيها المثقفون – ولربما يكون ذلك قد تلا اقتراحات غرامشى الرائدة فى “دفاتر السجن” التي رأت ولربما للمرة الأولى فى المثقفين لا فى الطبقات الاجتماعية, محاور ارتكاز لاعمال المجتمع الحديث ومشاغله _ موضوعا للدراسة, ضع فقط كلمتي,”عن OF” “AND” بعد كلمة “مثقفين” وسوف تظهر امام بصرك فى الحال مكتبة كاملة من الدراسات عن المثقفين, مكتبة تثبط همة القارىء، بسبب اتساع مدى موضوعاتها وتركيزها الشديد الدقة على التفاصيل, هناك الآلاف من التواريخ, والدراسات الاجتماعية المختلفة التي تركز على المثقفين, كما ان هناك عددا لايحصى من البحوث التي تتخذ موضوعات لها المثقفين والقومية, والمثقفين والسلطة, والمثقفين والتراث, والمثقفين والثورة, الخ “ما يخطر على بالنا من موضوعات” لقد انتج كل جزء من العالم مثقفيه وكل تشكيل من هذه التشكيلات يناقش ويدور الجدل بشأنه بحماس كبير، لم تقم اية ثورة كبرى فى التاريخ الحديث دون ان تضم بين صفوفها مثقفين, وبالمقابل لم تقم اية حركة مضادة للثورة دون ان تضم بين صفوفها مثقفين, المثقفون هم آباء وامهات الحركات, وهم ايضا ابناؤها وبناتها، وحتى ابناء اخيها وبنات اختها.
ان خطر ان يغيب شخص المثقف او صورته فى كتلة التفاصيل ماثل “امام الاعين” وكذلك خطر أن يصبح المثقف مجرد شخص يضاف الى جمع المتخصصين او مجرد شخصية فى الاتجاه الاجتماعي، ان ما سوف اناقشه في هذا السياق يعد من بين مسلماته تلك الحقائق الخاصة بنهايات القرن العشرين وهى الحقائق التي سبق ان اشار اليها غرامشى لكنني اريد ان اشدد ايضا على ان المثقف فرد له دوره العمومى المحدد فى المجتمع الذي لايمكن اختزاله ببساطة الى وظيفة لا وجه لها، الى مجرد فرد مختص منشغل تماما بعمله, ان الحقيقة المركزية بالنسبة لى, كما اظن, هي ان المثقف فرد منح قدرة على تمثيل رسالة, او وجهة نظر او موقف او فلسفة او رأى، وتجسيدها والنطق بها امام جمهور معين ومن اجله, لكن لهذا الدور حدا، ولا يمكن للمرء ان يلعبه دون احساس المراء بأن مهمته هي ان يطرح على الناس الاسئلة المربكة المعقدة, وان يواجه الافكار التقليدية والعقائدية الجامدة “لا ان ينتج هذه الافكار ويمارس تلك العقائد” ان يكون شخصا لا تستطيع الحكومات او الشركات اختياره والتعاون معه بسهولة, شخصا تكون علة وجوده هي تمثيل الناس المنسيين والقضايا التي تم اهمالها بصورة متكررة او انها كنست وخبئت تحت البساط, ان المثقف يقوم بهذا الدور استنادا الى مبادىء كلية شاملة: ان من حق البشر ان يعاملوا فيما يتعلق بالحرية والعدل استنادا الى معايير سلوكية لائقة من قبل القوى العالمية او القومية، وانه ينبغى اثبات الانتهاكات المتعمدة او غير المتعمدة, لهذه المعايير ومحا ربتها بشجاعة.
دعوني اصغ هذا الكلام بعبارات شخصية: انني بصفتى مثقفا اعرض امام جمهور معين همومي وانشغالاتى، لكن الامر لايتعلق بكيفية تعبيري عن هذه الهموم والانشغالات بل بما امثله انا نفسي، كشخص يحاول ان يرفع من شأن قضية الحرية والعدالة انني اقول هذه الاشياء واكتبها لان تلك الاشياء، وبعد تفكري طويلا فيها: هي ما اؤمن به, وانا ارغب ايضا فى اقناع الأخرين بوجهة نظري هذه, هناك اذن هذا الامتزاج المعقد تماما بين الخاص والعام فى عوالمى وتاريخي وقيمي وكتاباتي ومواقفي النابعة من تجاربي، من جهة, ومن جهة أخرى كيف تصبح هذه الامور جزءا من العالم الاجتماعي حيث يتجادل الناس حول الحرب والحرية والعدالة ويتخذ قرارات بشأنها، ليس هناك شي ء يمكن ان نطلق عليه اسم المثقف الخاص, اذ انه بمجرد تدوينك للكلمات وطباعتك لها فانك تصبح جزءا من العالم الاجتماعي في الوقت نفسه لا يوجد فقط المثقف العمومى الذي يقوم بدور الشخصية العامة او الناطق باسم قضية او حركة او موقف او الذي يمثل رمزا لهذه الاشياء، هناك على الدوام يوجد البعد والحساسية الشخصيان, وهما شيئان يعطيان معنى لما يقال ويكتب ومن بين اقل هذه الاشياء اهمية هي ان على المثقف ان يجعل جمهوره يشعر براحة البال, ان المسألة برمتها ستبدو مربكة ومعاكسة لذلك وحتى غير سارة.
اخيرا فان ما يهمنا فى المثقف هو كونه شخصا ممثلا _ شخصا يمثل بوضوح وجهة نظر من نوع معين, شخصا يقدم تمثيلات بينة واضحة لجمهوره مهما ارتفع من انواع الحواجز والحدود، ان حجتي التي ادافع عنها هنا هى ان المثقفين هم افراد ينطوون على موهبة فن التمثيل سواء تضمن ذلك الكلام او الكتابة او التعليم او الظهور على شاشة التليفزيون ان تلك الموهبة مهمة الى الدرجة التي يمكن تمييزها من قبل الناس وهي تتضمن التزاما ومخاطرة في الوقت نفسه, كما تتضمن الصراحة وامكانية التعرض للهجوم والانتقاد ان ما يترك اثرااو انطباعا لدى عندما اقرأ جان بول سارتر او بيرتراند راسل هو صوت كل منهما الفردي الشديد الخصوصية وحضورهما، اكثر من الحجج التي يعرضانها لانهما يتحدثان من قناعاتهما الشخصية, ولا يمكن ان نخلط بين صوتيهما وصوت موظف بيروقراطي مجهول شديد الحرص فى كلاما.
فى حمى تدفق الدراسات عن المثقفين اهتم “الباحثون ” كثيرا بتعريف ما هو المثقف, ولم يقل الشىء الكثير عن صورة المثقف وتوقعه المميز وتدخله وادانة الفعليين “فى الحياة ” وتشكل هذه الاشياء بمجموعها قوام الحياة بالنسبة لكل مثقف حقيقي يقول اشعيا بيرلين عن الكتاب الروس فى القرن التاسع عشر ان جمهورهم كان, والى حد ما تحت تأثير الرومانسية الالمانية يصبح واعيا انهم يقفون على الخشبة ليشهدوا (بالحقيقة) امام الناس .شىء من هذا القبيل لايز ال من وجهة نظري يتصل بالدور الجماهيري للمثقف الحديث وبسبب هذا فاننا عندما نتذكر مثقفا مثل سارتر نستعيد فى اذهاننا اسلوبه الشخصي المميز في الكلام والسلوك والاحساس برهانه الشخصي الهام وجهده المطلق, ومخاطر ته ورغبته فى قول اشياء عن الاستعمار او الالتزام او الصراع الاجتماعي، وهو امر اغاظ خصومة وآثار حماس اصدقائه, ولربما تسبب فى ارباكه هو نفسه فيما بعد.
ونحن عندما نقرأ عن ارتباط سارتر بسيمون دوبوفوار ونقاشه الفكري لكامو وصد اقته الاستثنائية مع جان جينيه, فاننا نعين موقعه والكلمات لسارتر نفسه ضمن ظروفه: فى هذه الظروف, والى حد ما بسببها كان سارتر هو سارتر، الشخص نفسه الذي عارض فرنسا فى الجزائر وفيتنام بعيدا ان يكون قصدنا اتهامه بالعجز ثقافيا او ان نقلل من قدراته كمثقف فان هذه العناصر المعقدة قد اضفت توترا واعطت نسيجا مميزا لما قال, وكشفت عن كونه انسانا غير معصوم من الخطأ لا واعظا اخلاقيا مثيرا للوحشة والكآبة.
فى الحياة العامة الحديثة, التي يمكن ان نعدها رواية او مسرحية لا مجرد عمل يؤدى او مادة خام لبحث فى علم الاجتماع, نستطيع ان نرى وندرك فى الحال كيف ان المثقفين يمثلون لا مجرد حركة اجتماعية سرية او علنية عريضة بل انهم اكثر من ذلك يمثلون اسلوبا فى الحياة مقلقا واداء اجتماعيا متفردا يخصهم وحدهم, وأى موضع نعثر فيه على ذلك الدور موصوفا لاول مرة, افضل من تلك الروايات غير العادية المكتوبة في القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين – “آباء وابناء” لتورجينيف, و”التربية العاطفية” لفلوبير، و”صورة الفنان فى شبابه” لجريس – حيث يتأثر تمثيل الواقع الاجتماعي، ولربما يتغير على نحو حاسم بسبب الظهور المفاجىء للاعب جديد هو المثقف للحديث الشاب.
ان وصف تورجينيف لروسيا المحلية الطابع فى ستينيات القرن التاسع عشر هو وصف رعوى غير زاخر بالاحداث, رجال شبان من ذوى الاملاك يرثون عادات الحياة عن أبائهم, ويتزوجون وينجبون اطفالا، والحياة تستمر بصورة او أخرى يظل هذا هو الحال الى ان تظهر فى حياتهم شخصية فوضوية وشديدة التكثيف رغم ذلك هي شخصية بازاروف, ان الملاحظة الأولى التي ندركها بشأنه فوضوية هي انه قد قام بقطع علاقته مع والديه, وانه يبدو شخصية انتجت نفسها بنفسها اكثر من ان يكون ابنا، وهو يصارع الروتين ويهاجم العادية والافكار والصيغ المبتذلة بعنف, ويشدد على القيم العلمية الجديدة غير العاطفية التي تبدو عقلانية وتقدمية, وقد قال تورجينيف انه رفض ان يغمس شخصية بازاروف فى الحساء، واراد لهذه الشخصية ان تكون “خشنة غير مصقولة بلا قلب, جافة وفظة وبلا رحمة” يسخر بازاروف من عائلة كيرسا نوف فعندما يعزف الاب الكهل لشويير يقهقه بازاروف بصوت عال ساخر منه ان بازاروف يردد افكار العلم المادي الالماني: الطبيعة بالنسبة له ليست معبدا بل ورشة عمل وعندما يقع فى حب انا سيرجييفنا تنجذب الاخيرة اليه لكنها تشعر بالرعب معه فى الوقت نفسه ان طاقته الثقافية الفوضوية التي لا يعوقها شىء تعني بالنسبة لها الاختلاط والتشوش وهى تقول فى أحدى المرات ان وجودها معه يشبه التأرجح على حافة الهاوية.
ان جمال الرواية وعاطفتها القوية يكمنان فى ان تورجينيف يقترح ويصور لنا التنافر بين روسيا التي تحكمها العائلات, وتواصل الحب والعواطف البنوية واستمرار الطرق الطبيعية القديمة فى فعل الاشياء والقوة العدمية ذات الطبيعة المنتهكة لبازاروف الذي يبدو ان من المستحيل سرد تاريخه, فبلاقا لاية شخصية أخرى فى الرواية, انه يظهر فى الرواية ويتحدى ثم يموت بصورة مفاجئة مصابا بالعدوى من فلاح مريض كان يعالجه ان ما نتذكره من بازاروف هو القوة المجردة التي لاتفتر لعقله المتسائل الشكاك ذى الطبيعة المتحدية العميقة, ورغم ذلك فان تورجينيف يدعى ان شخصية بازاروف كانت من اكثر شخصياته تلاؤما وانسجاما مع مزاجه الى الدرجة التي كانت فيها تلك الشخصية تربكه وتحيره بقوتها العقلية غير المبالية, كما كانت تحيره ردود فعل قر ائه المذهلة والعنيفة.
بعض القراء ظنوا ان شخصية بازاروف كانت هجوما على الشباب, اخررن امتدحوا الشخصية بوصفها بطلا فعليا، فى الوقت الذي ظن البعض ان بازاروف شخصية خطيرة ومهما كانت مشاعرنا تجاه بازاروف كشخص فان “أباء وابناء” لا تستطيع تكييف بازاروف كشخصية فى السرد ففي حين يستطيع اصدقاؤه من عائلة كيرسا نوف, وكذلك والداه المثيران للشفقة ان يستمروا فى عيشهم فان عجرفته وتحديه كمثقف يلفيانه من القصة التي لا يبدو انه ملائم لها او قابل للترويض داخلها.
هذه وبصورة اكثر وضوحا، هي حال ستيفن ديدالوس الشاب فى رواية جريس الذي تبدو سيرته الأولى بكاملها تأرجحا بين تملق مؤسسات, مثل الكنيسة ومهنة التعليم والقومية الايرلندية, وذاته العنيدة, التي تتطور ببط ء، كمثقف شعاره كلمات لوسيفر “لا فائدة” ان شيمومي دين يقدم ملاحظة ممتازة عن صورة الفنان فى شبابه “لجويس” وهى انها “الرواية الأولى باللغة الانجليزية التي تستعرض فيها عاطفه التفكير بصورة تامة” فليس ابطال “تشارلز” ديكنز، او “وليام” ثاكيري او “جين” او ستين او “توماس” هاردي وحتى جورج اليوت, رجالا، او نساء فى سن الشباب يتركز اهتمامهم الرئيسي على حياة العقل فى المجتمع فى حين ان “تفكير” ديدالوس الشاب هو صيغة من صيغ اختبار هذا العالم واكتشافه, ان دين محق فى قوله انه قبل ديدالوس كانت الرسالة الثقافية مجرد “تضمينات غريبة نافرة” فى الرواية الانجليزية لكن ولأن ستيفن كان الى حد ما شابا ريفيا ونتاجا لبيئة استعمارية فقد كان عليه ان يطور وعيا ثقافيا مقاوما قبل ان يكون بمقدوره ان يصبح فنانا.
ومع نهاية الرواية فان جريس لن يكون اقل انتقادا للعائلة واعضاء الجمعية الايرلنديةFenians وانصرافا وتحولا عنهم, منه عن اي مشروع ايديولوجي سيعمل فى النهاية على تقليص فرديته وشخصيته غير المستساغة على الاغلب مثله مثل تورجينف فان جريس يرسم بحدة التعارض بين المثقف الشاب وتدفق الحياة البشرية المتصل, ان ما يبدأ بوصفه قصة عادية لرجل شاب يبلغ سن النضج بين افراد عائلته, ويذهب الى المدرسة والجامعة, ينحل الى سلسلة من الملاحظات الموجزة التي يسجلها ستيفن فى دفتر يومياته, ان المثقف لن يدجن ويتكيف مع الروتين الممل, فى اكثر مقاطع الرواية شهرة يعبر ستيفن عما هو فى الواقع عقيدة المثقف وايمانه بالحرية, رغم ان المبالغة الميلودرامية فى اعلان ستيفن تمثل طريقة جريس فى اقتطاع ذلك الجزء الخاص بتباهي الرجل الشاب واحساسه بأهمية ذاته “سأخبركم بما سافعله وبما لن افعله, سوف لا استمر فى خدمة ما لم اعد أفى من به سواء كان ذلك الشىء يسمى نفسه بيتي او ارض آبائى او كنيستي: سوف احاول التعبير عن نفسي بصيغة من صيغ الحياة او الفن بالقدر الذي استطيعه من الحرية مستعملا للدفاع عن نفسي ذراعي وحدها ~ والصمت والمنفى والبراعة والمكر”.
وحتى في “يولسيز” فاننا نرى فى ستيفن أكثر من مجرد رجل شاب عنيد مولع بالمعارضة ان ما هو لافت فى عقيدة “هذا الرجل الشاب” هو تشديده على حرية المثقف وهذه قضية اساسية فى اداء المثقف منذ ان اصبح كونه شخصا سريع الغضب معروفا بكابته المفرطة شيئا بالكاد يفي بالغرض, ان الغاية من نشاط المثقف هي العمل على تحسين شروط الحرية والمعرفة الانسانيتين, وهذا الامر لايزال صحيحا، كما اعتقد، رغم تكرار الهجوم على “نصوص التحرر والتنوير الرفيعة” كما يدعو الفيلسوف الفرنسي المعاصر “جان فرانسوا “.