الشك يلاحق بعضه في عينيها، ونسمات هواءٍ كسولة تعبث بتركيزها. انتصبت تتفحص وجوه البؤس الكالحة التي أمامها. شعرها المنكوش، ثيابها المهترئة، أظافرها الطويلة، منظرها يقنع الناظر إليها أنها لا تنوي خيراً.
“قلت لك يابن الحرام تقفل عليها بثلاثة أقفال!”
همس بحنق يصاحبه سخط في أذن الفتى المتكوم إلى جواره.
والله اني قفلت عليها بثلاثة أقفال يا به!””
أجابه وهو غارقٌ في ذهوله.
لا أحد يعرف كيف خرجت من حبسها. ربما هم الجن الذين تدعي صحبتهم، أو الرئيس الذي تصر على أنه عشيقها. هذا ما كان يتردد في أذهان الخامات البشرية المستهلكة التي تجمعت حولها.
“قتلتوا عيالي يا عيال الزنى؟!” أطلقتها صرخة مدوية، طردت عصافيراً كانت آمنة فوق الشجرة المجاورة.
ترتجف وجلاً وثورة، جسدها ساخن يتفصد منه عرقٌ غزير، ويداها واهنتان ترتعشان. تحوم وتحوم حول لا شيء، تتخبط يميناً وشمالاً وتنتف شعرها الذي استعمرته بقايا قشاتٍ يابسة، و تصرخ: ” رجعوا عيالي يا كفار..رجعوهم يا كفار!” ثم انطلقت خلف المجهول بسرعة من لم يعرف الخوف، تشق طريقها بين الصخور والأشواك حافية القدمين.
“الحقوا المجنونة يا رجال….وين البندقية يا عُبيد؟!” انتفضوا عن بكرة أبيهم، صغارهم و كبارهم يتبعون خطاها ويرشقونها بالحجارة وهم يهتفون: “المجنونة هربت، المجنونة هربت!”
وجدتني حينها أتبع آثارها المغروسة في التراب الحار كالوشم، تلتهمها أنفاسي اليابسة إلتهاماً، “حورية، حورية!”، لا لأرجمها بل لأشفق عليها، وأثبت لها أن هناك من بإمكانه لمَّ شعثها، في وقتٍ كنتُ فيه أكثر الناس شعثاً وشتاتا.ً
كان إسمها حورية. تقول نساء البلدة أنها كانت ذات حُسنٍ مختلف، تهيمُ القلوب حولها، و يزيد إيمان العبد بخالقه عند رؤيتها، وأنها تزوجت بشخصٍ عشقته كل نساء البلدة، فتزوج حورية التي صارت الآن أشبه بشبحٍ قاتم مُرعب، هيئتها أقرب للأموت منها إلى الأحياء. قضتْ معه عمراً أقل من بضع سنين، لم تنجب له أولاداً فطلقها بعد أن “عملوا لهم عمل” كما تقول خالتي فنْده. عندما تحدثك تشعر بأنها ستنقض عليك. عيناها تطفحان بالنار، أنفاسها حارة ثقيلة كأنها تنين. تضحك بضجة، تمشي بضجة، تتكلم بضجة و تتصرف كإعصار عارض. عندما تمر من جوارك تشعرُ بها هائجة، يسبقها و يتبعها ما يشبه الدخان. إمرأة نارية هي، تخاف منها لكن تجد نفسك إلى جوارها:
ـ حورية، انتظري
ـ حرفوا القرآن! سرقوا آيات الله
ـ حورية
ـ سرقوا آيات الله
ـ حورية لحظة، اسمعيني.. وين سايرة؟
كمن يعترف بالملاذ أخيراً لمعشوق: عند أبو مجعران!
” تشتي تصلّي أو كيف؟ ” أسألها، ورغم ضياعها تجد سخريتي، فتزجرني: ” أصه!!”
ولا أعرف لماذا أريد أن أضحك.
أبو مجعران هو مسجد. عبارة عن ركن من ضريح لولي يدعى “ابو مجعرّان” تناجيه النساء في أوقات الشدة واليأس، خاصة الطاعنات في السن منهن، ويبتهل إليه الرجال في أوقات القحط والكسوف وقلة المال والنساء عند تأخرالرجال والعيال.
حادت عن رأيها .. تقف مرتكزةً كشعاع نور، كأنها كانت على هذه الوضعية منذ أن ولِدتْ.
تتسع الدهشة في عينيها، تبصق في وجهي:
ـ تفوه، قسماً بالله انش كنتي معهم لما كانوا يسرقوا كلام الله!
كون حورية مجنونة لم يستوقف ردة الفعل الدفاعية التي اتخذتها:
ـ أسكتي يا مجنونة.. ما حد يقدر يسرق القرآن!.
تتطاير ضحكاتها في السماء، تفترتش التراب، و تكمل وقد انتابها سهوم وارتباك:
ـ ما سرقوا شي القرآن؟
ـ لا
ـ هيا هاتي الختمة.
ـ أيّن ختمة؟ مافيش ختمة!
تغرس يدها في كيسٍ مُصفر تحمله معها أينما ذهبت، فتخرج يدها منه بمصحفٍ صغير رث:
” افتحي القرآن على سورة البينة..”
فتحت القرآن على سورة البينة، فأمرتني أن أقرأ.
“بسم الله الرحمن الرحيم: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب و المشركين منفكين حتى تأتيهم البينة..” *
تقاطعني والدمع يختنق في عينيها: ابصري. ابصري أين “رسولٌ من الله يتلوا صحفاً مطهرة”
ـ حورية. هاهي الآية “رسولٌ من الله يتلو صحفاً مطهرة..”*
ـ لا يا كاذبة! يا كافرة! يا سارقة كلام الله! الآية مسروقة. سرقوها، سرقوها..
الآية هنا ماثلة أمامي، لكن كيف تثبت للأعمى مالا يرى، وللأصم ما لا يسمع؟
أقسم أنها كانت على قناعة حتى أني بدأت أشك فيما أرى.
أخذت تسير في ضياع وحسرة، تنوح كطفل علم لتوه موت والديه، وهي تشد شعرها وتنهال على رأسها بكفيها “يا ويلي من ربي! سرقوا كلام الله، سرقوا كلام الله! يا ويلي من ربي..” تنهر الريح وتصرخ في وجه الغبار.
حام عراة النصف الأسفل والنصف الأعلى والوجوه المخاطية حولها كنحل متعب وهم يرددون برنة عسكرية “حورية مجنونة، حورية مجنونة!” والفحول على الناصية الأخرى، يعكفون شواربهم ويتمتعون بما كشفته الريح من جسدها.
“أستتري يا مره!”
يوبخها منتشياً ذاك القاعد في انسجام تام على الناصية
“وخر يا ولد الحرام! يا كافر يا فاجر، يا سارقين كلام الله!” .
يلتفت محرجاً إلى أصحابه بنصف ابتسامة إذ لم يكن مستعداً لردة فعلها المهينة هذه: “قلنا استتري!”
فكشفت عما تبقى، وصارت تصرخ في وجوههم وتدفعهم كما يدفع الطفل الصغير الصخر، و دموعها تنهال على وجهها لترسم أخاديد صغيرة بفضل التراب المتراكم على وجهها منذ زمن، وهم يضحكون ويتجمهرون. يقول أكبرهم ضاحكاً: “صدق من قال: لا تبكي على من مات، إبكي على من خف عقله!” *
تبعتها، أتوسل، “يا حورية، يا حورية!” نفختْ قبضة من رمل في وجهي أصابتني بالغضب:
ـ سيري!! سرقتي القرآن و سرقتي عيالي!
ـ عيال؟ أي عيال يا مجنونة يا بنت المجنونة..
كانت هذه العبارة كفيلة بتهييج حتى أقلَ الشياطين بداخلها. طفح الدم بوجهها، ركضت نحوي بسرعة جنيٍ نافر، وهي تقسم على ألاتتركني إلا وقد أنهت أخر أنفاسي، “أنا مجنونة يا بنت الحرام، أنا؟؟”. إنطلقتُ أسابق خيالي، فلو قبضتْ عليّ لهلكت. ركضتُ وركضتْ وأنا ألعنها وألعن اللحظة التي قررتُ فيها لحاقها والعطف عليها، وهي تتضاءل وتتضاءل، وتلعن وتبصق، حتى تلاشت ولم يبقى لها أثر..
“لا تعمل خير ما تشوف شر” صدقتِ يا جدتي، رحمة الله عليكِ حتى يوم الدين. لماذا لحقتها؟ لأعطف عليها؟ مالي أنا و مال المجانين؟
***
“هاتها يا سليم، يا سليم هاتها”
من بعيد يهتف فتى يتمايل كالوهم تحيطه زوابع ترابية. اقتربت منه فوجدتهم صبية يتراشقون بالضحكات واللعاب وكلام مفهوم وغير مفهوم. بين أرجلهم تصرخ قطة صغيرة مشنوقة بحبل رقيق طويل طووه حول رقبتها حتى صار سميكاً. القطة ينفثها الرمل بين أرجلهم تتوسلهم وتلعن. تسمع صوتها المشنوق الحاد ينطلق من بين عينيها الضيقتين و أنيابها. تحوم حول نفسها تماماً كما كانت تحوم حورية حول نفسها. كانت القطة تبكي بيأس. صوتها كان صوتاً باكياً، إذ كان يستقر على الحافة من قلبي ويهوي إلى الأسفل من عمقي. الشمس فقط و أنا من كان يدرك أنها تبكي.
“يا سليم، هاتها!”
يكررها الفتى الأسمر ذو الهيئة الهيكل عظمية والشعر النافر. بعينيه من الخبث والسذاجة ما يكفي لإعدام مستقبل دولة كاملة. يجيبه الفتى من الناحية الأخرى بضحكة تكاد تقضي على رئتيه. كان يضحك حتى شعرتُ بعسر تنفس. كأن أنفاسه تخرج بكمية أكبر من قدرة جهازه التنفسي على التحمل. لم أكن أرى إلا حواجب سميكة تحتكر وجهه، و فم كفوهة بئر، يتفوق في النحول على الفتى الأول بكثير.
“يا سليم، جني!!”
بدأ الفتى في الناحية الأخرى يضيق ذرعاً، تتلاشى ضحكته بالتدريج لتتحول إلى ما يشبه خيبة الأمل الممزوجة بالغضب. “قلنا لك هاتها!” كانت لهجته تزداد حدة بينما الفتى ذو الحواجب السمكية لا يزال غائباً في ضحكته، يطويه الغبار.
فعدتُ بعجل من حيث أتيت، أبحث مرة أخرى عن حورية.
هامش
* سورة البينة، آية رقم 1 وآية رقم 2.
* “لا تبكي على من مات، ابكي على من خف عقله” مثل يمني شائع.