كتابات

مشاهد من الشعر اليمني المعاصر

بيان الصفدي - انزياحات
بيان الصفدي - انزياحات

من يقرأ كتب الرحالة العرب والأجانب الذين دخلوا اليمن السعيد على ندرة فسوف يطـَّـلع على مدى السبات التاريخي والظلم الأسطوري الذي عانى منه هذا الشعب العربي، فقد اجتمعت على صنع مأساته إمامة من القرون الوسطى، وطبيعة شحيحة، وبنية ريفية بدوية تعيش ما قبل العصر بعقود عديدة، لا طرق ولا كهرباء ولا هاتف ولا مصرف ولا طيران ولا آلة موسيقية ولا أغنية ولا رقص ولا رسم ولا مكتبات، حتى الصيدلية الوحيدة التي في البلد لا تصرف الوصفة للمريض إلا بأمر من الإمام نفسه!!

 

أما بعض المظاهر اليتيمة للحضارة فتتجلى في عدة سيارات للإمام وأولاده، وجهاز لاسلكي، وعدة صحف عربية ترسَل إليه أحيانا ً ليشترك فيها إلا أنه بدافع التوفير والبخل كان يقرؤها ثم يعيدها إلى مصدرها، ومذياع وقطار يسير بالبطاريات كان يلعب به الإمام في ساعات فراغه، والرجوع إلى تلك المصادر يوفر لنا مادة تشبه الخرافات في غرابتها، لهذا كنت أقول للروائيين اليمنيين إن التاريخ وهبكم واقعية سحرية لم يظهر لديكم منها شيء حتى الآن.

 

الشعب اليمني الغارق في هذا السُّبات التاريخي كان مهيَّـأً لتبعية عمياء، تعزِّزها العزلة والقناعة بأن الإمام من سلالة الرسول الكريم (ص) لهذا نفهم أن يقول عبد الله الوزير زعيم انقلاب 1948 لمن قبضوا عليه: ‘نحن نريد أن نعزَّكم من سرقة الأحذية في المساجد’ وقول الثلايا الضابط الذي حاول اغتيال الإمام للناس المتحلـِّقين حوله قبل قطع رأسه: ‘آه لشعب أردت له الحياة فأراد لي الموت’ .

 

كان الحق بالمعرفة حالة ثورية في اليمن الذي عرف تجريماً لكل ما هو عصري، حيث العصرية ترادف الكفر والخيانة،ولا ينسى اليمنيون القول المشهور للإمام أحمد ذات يوم:

‘سأروِّي سيفي من دماء العصريين’

 

الشعر والإمامة والثورة

 

ربما لهذا السبب وقع الصدام بين هذا النظام وبين المتعلمين المنفتحين على الدنيا، سواء من الطلاب أو المعلمين أو طلاب المدرسة العسكرية، ولو حلَّ الإمام هذا الإشكال لاستطاع البقاء طويلا ً، فثورة 1962 لم تصنع أية معجزة، لكنها كانت مع الحقوق الآدمية الأولى لأي كائن في هذا العالم، لهذا يقول أحد ثوار وشهداء 1948 الشاعر زيد الموشكي مخاطبا ً شعبه:

 

ألا أيقظوا أحلامكم وتنبهوا فما الغرب أولى في العلا في الدنى منـَّا

أما فيكمُ من غيـــرة وحميَّة على الدين والأرحـام والأرض والأبـْـنـا

وكانت النتيجة أن هدم الإمام يحيى بيته في ذمار، فقال:

خاف السقــوط فلاذ بالتخـريب ِ ملك يعيش على الدم المسكوب ِ

خاف السقوط فقام يرسي ملكه بالسيف والأغــلال والتعذيــــب ِ

 

وأخيراً احتزَّ السيف رأس الموشكي في سجن حجة بعد فشل ثورة 1948 التي كان من أشجع قادتها.

إن عتاب الشعب يتكرر بقسوة لدى كثيرين، إذ طالما أحسَّ الشعراء أن الناس مستكينة خانعة، وهذا مما يؤجل التغيير المنشود، ولعل الزبيري من أكثر المعبرين عن هذا الجانب بحرقة كقوله:

 

نبني لك الشــــرف العالي فتهدمه ..ونسحق الصنم الطاغي فتبنيهِ

نقضي على خصمك الأفعى فتبعثه ..حيَّاً ونشعل مصباحاً فتطفيهِ

 

أو:

 

والشعب لوكان حياً ما استخفَّ به .. فرد ولا عاث فيه الظالم النهـِم ُ

 

أو:

 

نخشى سيوف الظلم وهي كليلة ونقدس الأصنام وهي حطام ُ

نبـني له عـرشا ً يسـود فيبتـني سجـنا ً نُهـان بظله ونضـام ُ

جهـــل وأمراض وظلــم فـــادح ومخـــافة ومجاعــة وإمـام ُ

 

وأحمد الشامي الذي شارك في انتفاضة 1948، وسجن في حجة يعاتب الشعب أيضا ً:

 

مَن عـَذيري للأمة اليمنيهْ وهمُ في الوجود شرُّ البـلـيهْ

خُلقـــــو للأغلال والسوط والجــلاد لا للدستـور والحــــريهْ

كلمـا جئـناهـمُ بعـلم وفـن أقبـــلوا بالزوامــل القبــلـيهْ

شُوِّهت في عقولهم صور الإسلام فهي الخضوع والطائفيهْ

 

من هنا كان أقلُّ احتكاك بالآخر يشكل عامل إيقاظ يهدد هذا النظام المتهالك، ولعل الإمامة التي ‘تورَّطت’ باستقدام بعثتين عسكريتين عراقية ومصرية إلى اليمن، كان من نتيجتها اندلاع ثورتين، إحداهما فشلت عام 1948والأخرى نجحت عام 1962، وأدت إلى انطلاق حرب تحرير جنوب اليمن عام 1964.

 

بعد انهيار ما سمي بثورة الدستور عام 1948التي لم تستمر َّ شهرين سيق المتهمون مشيا ً على الأقدام الحافية حتى سجن ‘القاهرة’ في مدينة حجَّة، هذه المدينة التي شاءت الظروف أن أقيم فيها أربعة أشهر، فكنت أطل كل صباح على هذا السجن أثناء عملي لمدة أربعة أشهر فيها، وأكاد أرى أشباح السجناء والجلادين تطوف من حولي، إذ كنت مشبعا ً بروايات الشاعر الحضراني عن هذا السجن الذي كان نزيله لخمس سنوات، مع أن والده كان من أقرب الناس للإمام، فقد كان النهار يبدأ أحيانا ً بقطع أحد الرؤوس بالسيف، وبالقيود التي تصلصل في أقدام أناس طليعيين في المسيرة اليمنية نحو العصر.

 

ومن الطرائف التي حدثني الحضراني عنها أنه كتب للإمام رسالة استرحام في سجن حجة نصها:

”مولانا أمير المؤمنين أيدكم الله.

لقد آثرك الله علينا، ولا يسعنا في هذا الموقف إلا أن نذكـِّرك بموقف جدك رسول الله من كفار قريش، وفيهم من تآمر على قتله، وفيهم من آذاه في عرضه وأهله، ثم قال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء.”

 

ويضيف الحضراني أنه ذيَّـل الرسالة بأبيات له:

 

اصفح فإنــــك قد قدرت، وبـادرِ ِ فالصفح من شيم الكريم القادرِ ِ

ضاقت مسالكنا وخاب رجاؤنا إلا بمـــــولانا الأميــــر الناصرِ ِ

ولمن تبقــَّت منه أدنى ريبــة مـن بعد هذا فهو أكفــر كافـــرِ ِ

 

فجاء الجواب من الإمام أحمد:

‘إلى نزلاء حجة.

لم يقل الرسول: اذهبوا فأنتم الطلقاء إلا بعد أن قال: اسحقوهم سحقاً واحصدوهم حصداً.’

وروى الحضراني الكثير من صور الشجاعة والصبر ومنها صوت سجين مشهور هو السنيدار،كان يحلو له أن ينشد في ذلك السجن وبصوت جميل وقوي شجي:

 

حطموني إن تروني صنما ً واقتلوني إن عبدت الصنما

ورثى الحضراني الشهيد جمال جميل الضابط العراقي الذي كان من أبطال الثورة على الإمام في اليمن بقوله:

حتـــام َ يا وطنــي أراك تضـــامُ وعـلى أديمك تـُعبـَد الأصنامُ؟

أجمال ذكرك إذ يعــود تعـود لي بين الجوانح زفـرة وضـرامُ؟

هيهات َأسكت فالسكوت جريمة لا أرتضيها والرضوخ حرامُ.

 

ومن غرائب اليمنيين أن يكتب شاعر درس في لندن والقاهرة، ويعد من الميَّالين إلى الفكر الليبرالي مبتهجاً بهزيمة المتمردين ، هو محمد عبده غانم موجها ً خطابه إلى الإمام أحمد:

 

أنَّى لحاشـــد أو بكيــل تمـــرد يوما ً وأنت على الثرى موجود ُ؟

أم أين للقوم الزرانيـــق الألى أدبتهم أن يطمعــــــوا فيعـــودوا؟

 

ومن شعراء الجنوب الذين مدحوا الإمام بشيء من الصَّغار عبدالرحمن السقاف في قوله:

 

وإن عظمت حوادثكم وجلــَّت فليـــس لكشفها إلا الإمـامُ

سينـصرنا ويدركــنا بغـــوث أليس لنا بعروته اعتصامُ؟

 

في هذه الأجواء كان على الشعر اليمني أن يولد ويتحرَّك، حيث الشعب جائع ومغلول، غارق في عوالم الخرافات والغيبيات التي تدفعه إلى القناعة بالعزلة، والمصير الذي يجعل الناس يموتون كالدجاج في البيوت والطرقات من الجوع والمرض.

 

فحلم الشاعر في تلك الأيام أن يقرأ قصيدة في مدح الإمام فيكون بذلك قد استطاع أن يصل إلى الاعتراف الرسمي به، و أن يقرر الإمام له مكيالا ً دائما ً من الحبوب.

 

ومن الحظ الجميل أن أتعرَّف ذات يوم بكثيرين من شهود تلك العهود، أحدهم المرحوم الرئيس عبد الله السلال ذلك الرجل المستنير ، فقد حدثني الكثير عن غرابة تلك العهود في لقاءين لا أنساهما، منها أنه عندما ذهب مع عدد قليل من زملائه في البعثة العسكرية الأولى إلى العراق، وكان عليهم أن ينطلقوا من عدن، ولما شاهدوا طريق الإسفلت قربها ارتعبوا من هذا الشيطان الأسود، ولما دخلوا السينما في عدن انبطحوا أرضا ً عندما حصل إطلاق نار في الفيلم، وعلى سبيل الدعابة قال لي إن الحل السريع الذي خطر له بعد استلامه للرئاسة هو إلقاء اليمنيين في بئر في منزله واستبدالهم بشعب جاهز.

 

في الجنوب كان الاحتلال البريطاني يبسط سلطته الشكلية على سلطنات هزيلة، لا يملك حكامها أبسط قدر من الكفاءة، ومن طرائفهم أني رأيت في متحف ‘الغيضة’ رسالة من سلطان ‘المهرة’ يطلب فيها من الحاكم البريطاني في عدن حذاء وعباءة ومصروف جيب ليستطيع المثول أمامه في عدن!

 

مدينة عدن كانت استثناء واضحاً في هذا الجو القاتم، لأنها القاعدة العسكرية البحرية البريطانية الرئيسية في العالم، حيث كانت ممراً دائماً لما يقرب من مئة وخمسين ألف عسكري، يقيمون أسابيع أو أشهراً ريثما يتوزعون في الهند وغيرها أو يعودون منها.

 

هذا المناخ خلق حركة نشطة في الميناء والمدينة على مختلف الأصعدة، فعرفت المدينة مبكرا ً الكتب والاختراعات والمحاكم العصرية والصحف والأحزاب، وظهرت حركة عمالية قادها عمال مصفاة النفط، لذا كان العديد من الهاربين من بطش الإمام يجدون في عدن ملجأ لهم، وولدت العديد من الحركات والجمعيات والأحزاب.

 

فالحركة الشعرية في الجنوب أكثر قرباً من المعاصرة التي أخذت تشق طريقها تلقيا ً وإنتاجا ً، متأثرة بالعقاد والرصافي والزهاوي وإبراهيم ناجي وعلي محمود طه وأمثالهم، ثم تنتقل شرارات هذا التأثر إلى شمال اليمن، فقد كانت كتب شائعة في الوطن العربي للعقاد وطه حسين وخالد محمد خالد تعـَدُّ منشورات سرية في مملكة الإمام السعيدة على طريقته.

 

سنجد هنا شعراء أسسوا بقوة لتجديد الشعر اليمني، منهم علي أحمد باكثير المنفتح على فنون أدبية متنوعة، بما فيها الترجمة، وحسن عبيد الله السقاف صاحب تجربة شعر التفعيلة الأول في اليمن في قصيدته ‘درب السيف’ عام 1943، وللأب الروحي للمعاصرة في الشمال أحمد الوريث صاحب المجلة اليتيمة ‘الحكمة اليمانية’ التي استمرت عامين، وعـُـدَّت منارة كبرى في التوعية، مما جعل صاحبها يصطدم مع الإمامة ويموت مسموما ً، وتيار الرومانسيين من صالح الحامد وحسين البار وعلي نعمان ومحمد عبده غانم ولطفي أمان والزبيري والشامي والبردوني والحضراني والبشاري وغيرهم.

 

كانت الرومانسية المحملة بالكثير من الإرث التقليدي هي التيار الأكثر انتشاراً لما فيها من تحليق وتخييل في واقع مزرٍ، إضافة إلى الجانب الاحتجاجي والتمردي لدى الرومانسيين عموماً.

 

والعجيب أن نعرف أن جميع الشعراء في اليمن خرجوا من عباءة الإمام، إذ لا بد من المدح، وحتى الشعراء الجنوبيون مدحوا الإمام طمعا ً أو رهبة أو انطلاقا ً من حنين وطني ربما!. والمؤلم أن أكثرهم كتب قصائد إشادة ببريطانيا وحبها، وصدرت تلك القصائد في كتاب باسم ‘تحية التاج’ بمناسبة زيارة ملكة بريطانيا أليزابيث الثانية إلى عدن، وبتحريض وإعداد وطباعة محمد علي لقمان، فهو حليفهم ونصيرهم، وزعيم اتجاه ‘عدن للعدنيين’ وأبو الشاعر علي لقمان.

 

لقد مر اليمن بمخاضات مؤلمة جنوبا ً وشمالا ً، فعندما اندلعت ثورة 14 أكتوبر 1964 كان الشعر اليمني كله سجلا ً لها، خاصة الجنوبيين، من أمثال محمد سعيد جرادة ولطفي جعفر أمان وإدريس حنبلة،وتغير المزاج والوعي، وراح الجميع يجاملون الثورة أو يناصرونها إيمانا ً أو خوفا ً من عقابها.

 

ومن طرائف هذه المرحلة أن نقرأ لـ إدريس حنبله مدرس الإنكليزية الذي دخل سجون الاحتلال مراراً شعراً فيه قواف ٍ غريبة:

 

أيها النــــــاس أفيـــقـوا إنــمــا الــدنــيــا finish

كيف ترضون بعـيـــش هــــمـُّـــــنـا رزٌّ وFish

قـــــــاتل الله ســـجـونا ً تجعل اللون Reddish

 

وتتردد تجارب، أصحابها ذوو وعي فكري أعمق كما لدى عبدالله باذيب :

 

فدى لك ذا المُراقُ ومن أراقا أيا وطنا ً بسوء الحال ضاقا

سيلقى من أذاق الشعب هولا ً بأيدي الشعب يوما ً ما أذاقا

 

وظهرت تباشير حداثة تتلمس طريقها على يد لطفي أمان تحديدا ً، ولما انتصرت الثورة عام 1967 ولد جيل شعري ينتسب إلى تيار يساري، فيه الكثير من الصبيانية الفكرية والفنية، اكتسح الساحة فيما بعد، وصار له نجوم لا يشترط في قصائدهم أن يكون لها سند لغوي أو وزني أو فني، وصار الشعار سيدا ً في كل شيء، واختلطت الساحة، كثرة بلا موهبة تحاول الاستيلاء على منابر الإيصال الثقافي، متسلحة بساتر الحزبية والإخلاص للثورة، وقلة مندحرة تمثل رجعية ثقافية لكنها أكثر تماسكا ً في بنية أدواتها، وقسم منها راح يجامل طوفان السطحية والادعاء حفاظا ً على قدرة الاستمرار في جو صاخب وخانق.

 

وقد سادت حالات من التكريس السطحي لشعراء الحزب، كما حصل لأمثال الشنواح وفريد بركات وحسن أوسان (وهو نفسه حسن عزعزي) وعبد الرحيم سلام ، لعل أغربها شاعرية عبد الفتاح إسماعيل المفاجئة، والتي كتب عنها كثيرون من عبدالعزيز المقالح حتى أدونيس.

 

وكم كانت صدمتي كبيرة عندما عرفت أن قصائده كان يكتبها عدد من المقربين مثل حسن أوسان وعبد الرحيم سلام، لهذا تظهر في القصائد المنسوبة إليه مجموعة أساليب، ومن طرائف هذه التجربة أقدم هذا المقطع منها:

 

يدوِّي بين البسطاء في اليمن

أن تنهض أن تنفض ليل الذل

ولثم الوثن

كي تتعانق صنعاء مع عدن

كي تلحق بركاب الزمن

حينها سوف يقوى الضعفاء

ويغني البسطاء

في ربوع اليمن

وتزول نهاية كل خطر

 

ويكتب حسن أوسان الذي كان من أبرز نقاد تلك المرحلة وشعرائها معلقاً في كلام نقدي:

 

‘إنها جواهر ومعلقات وسيمفونية تشبه سيمفونية بيتهوفن الخامسة’!!

هذه حالة نموذجية لما كان يجري تحت مسميات نبيلة.

 

ولم يكن الشمال بعد نجاح ثورة 26سبتمبر 1962 أحسن حالا ً بالمعنى الفكري، فراح التغني العابر بنجاح الثورة وقداستها ومعجزاتها!! يشكل السلـَّم الذي صعدته أكثرية مدعية، وأقلية استطابت أن تحصر همها في هذا الغرض، ولعل هذا القول للمقالح يعطينا فكرة عن هذا المناخ إذ يقول:’وكل شاعر لا يستطيع الالتحاق بفيلق الثورة المتقدم، ولا يكون جنديا ً في جيشها العظيم وحاديا ً لمواكبها، لا يستطيع أن يكتب الشعر حتى وإن ملأ أطنانا ً من الورق، وسفح أطنانا ً من الحبر.’ إلا أن الشعر في الشطر الشمالي شهد ظاهرتين صحـِّيتين فيما بعد، واحدة تتمثل بشعر المعارضة القاسية المتهكمة ضد سلطة تراجعت عن أهداف الثورة، وأبرز هؤلاء عبد الله البردوني، فقد تطورت تجربته، من مدح الإمام وحاشيته والتغني بأمجاد الماضي اليمني، وصولاً إلى المعارضة الصارخة التي كانت تتجاوز في الشعر الخطوط الحمر كلها، لهذا تحول شعر البردوني إلى النبض الشعبي المتجاوب معه، في ظرف جرى فيه تحويل الشاعر إلى أسطورة لا يستطيع حاكم ولا ناقد أن يثلم منها، حتى إنني عرفت من الشاعر نفسه، أن الحكام كانوا حريصين دوما ً على تقديم الهدايا والعطايا، والتبجيل له للتخفيف مما قد يفاجئهم به من هجوم ناري بين حين وآخر، وخاصة على الذين دفنوا الثورة وباعوها وسحقوا المواطن كما يرى، إنه الذي لا يمل من قول مثل هذا الكلام عن بلاده وحكامها:

وعندما انتصرت ثورة 1962 صار الزبيري وزيرا ً، وبعد ظهور الصراعات العديدة بين رجالات الثورة، اغتيل الزبيري بشكل غامض في عام 1965، لكن أهميته الشعرية ظلت قوية، لما في شعره من متانة وشاعرية ورقة أحيانا ً.

 

بعيداً عن التحرر من المحتل ومن النظام الأمامي لابد من القول أن المعركة الحقيقية لليمنيين كانت مع التخلف والفقر والحرية، حيث تبدو هنا المعركة على حقيقتها مكشوفة بلا رتوش، حيث سيطرة ُ شيوخ القبائل متحالفين مع رجال الدين، وشريحة الحكام الذين توزعوا الوطن فيما بينهم، وما أجمل قول شاعر اليمن الشعبي علي بن زايد:

 

يقــــول علي بن زايد الحــرب حـامي وبارد

فبارده ضرب بالسيف والحار ضرب الموايد

 

وفي غمرة هذه الحالة تبرز الطائفية والمناطقية لتكون عامل تمزيق خطير للشعب الواحد، لهذا نفهم صرخة يوسف الشحاري:

 

يمنيٌّ يهوى الحياة صراعا ً وعراكا ً يشع ُّ منه الجديدُ

يمنيـــون قبـــل أن يتمادى في غبــاء شــوافع وزيودُ

 

وشاعر آخر هو ابراهيم صادق:

 

يتنـــــــــــادى هذا ‘حُدَيديْ’ وهذا من ‘تعزٍّ’ وذاك من ‘صنعاء ِ’

مات ‘زيد’ و’الشافعي’ وعشـنا نصــطلي نار تــلــــكم البغضاء ِ

 

إلا أن هذا الأمر – ولأنه لم يعد مطروحا ً مباشرة مع تقدم الشعر اليمني، ولا مقبولا ً لأحلامه في بناء وطن -أفسح المجال للحرية والعدالة الاجتماعية، وهنا تحتل قضية المرأة مركز الصدارة، وربما كانت ‘دموع الشراشف’ هي المجاز الفني لها، فالشرشف هو الذي يغطي المرأة في اليمن من رأسها، ويلفها حتى ينسحب جزء منه على الأرض، وعُرفتْ عن الشاعر محمد الشرفي عنايته الطاغية بحال المرأة اليمنية، وهو صاحب مجموعة ‘دموع الشراشف’ المشار إليها، وقد أثار الكثير من قوى التخلف والظلامية المتسلحة ظلماً بالدين، كما حصل عندما كتب مثلاً:

 

أرفضكم يا سادتي الذين تدَّعونْ

وتصرخون باسم الدين والشريعهْْ

أرفضكم لأن كل امراة في خدرها المصونْ

ليست سوى كالشاة أو كالسلعة المبيعهْ

أرفضكم لأن الله لم يكذب وأنتم تكذبونْ

وأن بينكم وبينهم مسافة ٌ

وأنه يكرهكم من حيث لا تدرونْ

 

لكنه قد يكون أهدأ وأكثر شاعرية عندما يقول:

 

وتمشي كربوة فحم حزين ْ بشــرشفها الأسود المستـكينْ

مكـــوَّمة فيـه ملفــــوفـة ٌ كما التفَّ ليـل الأسى بالسجونْ

 

أو:

 

معصم ضاحك كجدول نعمه ْ كاندفاق الضحى على صحو قمهْ

أخرجــته من شرشـــــف معـــتم اللون كما شــق بارق قلــب ظلمهْ

وأعادتــه كالصــــباح ولفــَّـــته كما تختـــــفي على الليــــــل نجمهْ

 

وكثيرا ً ما نلتقي بشعر عاطفي رومانسي يخوض في الحديث العاطفي العام كما لدى الشاعر محمد سعيد جراده:

 

سأغني الحب حتى يبعث الفجر رسولهْ

هذه الليلة يا حســــــــــناء في الخلد أصيلهْ

قصــُــــرت لكنها في نظر القلــب طـويــــلهْ

 

ويلفت النظر أن شمال اليمن عرف قبل الوحدة ظاهرة التكفير التي كانت تتكرر بين حين وآخر، من قوى ظلامية، استفادت من إفراغ ثورة 1962 من محتواها، وانطلاق التنظيمات الدينية المموَّلة من جيران اليمن، لضمان المصالح السياسية المختلفة لأولئك الجيران، فشنت حملات تكفير ضد البردوني والشرفي والعودي والمقالح وعبد الكريم الرازحي، حتى إنهم اضطروا بعضهم إلى إعلان التوبة في المساجد بحضور مشايخ معروفين، أو الهرب إلى الجنوب.

وعاش اليمن إلى ما قبل الوحدة وهو يعدُّ الحزبية رجساً غير مسموح باقترافه، وقد كان بعض الشعراء يؤيدون هذا النهج، فنحن نقرأ للشاعر المعروف عبدالعزيز المقالح قوله:

 

‘الأحزاب خطر يمزق البلاد…وعدم وجود الأحزاب لا يعني عدم وجود حياة حزبية.’

ويبرِّر سيطرة المؤسسة العسكرية بقوله:

 

‘إنها المؤسسة الأنقى والأنظف والأكثر شعوراً بالمسؤولية وبالثورة، ويقلّ فيها التنافس كما يحدث في المؤسسات المدنيةً… العسكريون نظيفون والمدنيون ملوَّثون.’

إلا أن هذه النظرة ستتغير بعد الوحدة التي شكلت انعطافاً كبيراً في التعاطي مع الأحزاب.

 

تأثيرات شعرية

 

كل الذين درسوا الشعر اليمني من اليمنيين وقعوا تحت تأثير الرغبة في إثبات مبالغ فيه للذات، وكأنهم يجيبون على سؤال طه حسين الطريف: ‘وهل في اليمن شعر؟’ فراحوا يجمعون ويصنـِّفون عشوائيا ً خريطة هذا الشعر المعاصرة.

 

أما الدارسون العرب فقد انطلقوا من غايات لا يربطها بالدراسة والثقافة رابط في الغالب الأعم، فبعد المحاولتين الخجولتين لعز الدين إسماعيل النقدية، وهلال ناجي التعريفية، تركزت جهود الكتابة التي قد يسميها البعض دراسات أو نقدا ً في أجواء لا يقدِّرها تماما ً إلا من عاش في اليمن، وتعرَّف إلى الظروف التي تحكم عروض العمل والاستخدام في التدريس.

 

الحال التي عاشها اليمنيون تركت آثاراً ضارةً في مستوى الأداء اللغوي وأصالة التجربة ومدى المخزون الثقافي، والحديث منه تحديدا ً، وسأتجاوز الضعف اللغوي الذي لا ينجو منه أعلام من مثل البردوني والزبيري والمقالح وصولا ً إلى عبد الودود سيف وعبدالرحمن إبراهيم ومحمد العصار ونبيلة الزبير، كذلك الأمر في الاستخدام للإيقاع حيث يكثر الخلل في القصائد، ويندر أن نقع على قصائد صافية من هذا العيب، مما يمنع الدخول إلى ثراء الإيقاع وما يفتحه من آفاق، لذا تأتي الغالبية العظمى من محاولات قصائد النثر شديدة الهشاشة، وبطريقة تفقد الحد الأدنى لانتساب هذه المحاولات إلى عالم الأدب.

 

لهذا سأعرض هنا لنماذج من التأثيرات الصارخة لتقليد نماذج عربية مشهورة جدا ً، مع قناعتنا أن الشعر اليمني بحكم ظروفه المعاصرة وقع في الكثير من نماذجه كرجع صدى لتجارب عربية، كما يقول علي لقمان صاحب ‘الوتر المغمور’ أول ديوان مطبوع عام 1944، فظِلُّ أبي ماضي شديد الوضوح في قوله:

 

لـــــــســــت أدري من أنا أو ما يفــيد الكــون منــي

كلما يشرف بي الكون على فني ويلوي الوجه عني

أتـــُــــرى في شــــخــصيَ المنكـــود أنســيُّ وجني؟

لست أدري

 

ولنقرأ للزبيري:

 

اغـفري لي إذا تطلعــتُ مأخوذا ً إلى وجهك الطهـور السني ِّ

أنت لست المها يصول عليها كل ذئب على المها وحشيِّ

لم يصغــك الإله صيغتك المثـــلى لنســل أو مأرب هــمــجيِّ

 

أو قوله:

 

جهل وأمراض وظلم فادح ومخافة ومجاعة وإمامُ

 

وهذا يحيلنا إلى أبي القاسم الشابي والرصافي.

ونزار قباني صاحب بصمات صارخة على شعراء من مختلف الأجيال، كالحضراني الذي يقول:

 

الله قد صـاغك من طيـــنة كســائر الناس ولا أكثر

من خلق الفتنة غيري أنا؟ أنا أنا خالــقــك الأكــبر

 

وعلى المنوال نفسه نقرأ لمحمد الشرفي:

 

لمن أرتدي الثـــوب؟ أو أنتقي؟ وأرصف شعري على مفرقي

وألـــبس أحــلى ثيابي اللــطاف يعــربد فــيها صباي الشـــقي

لمن نبع سحري؟ لمن؟ للظلام؟ لـــشرشــفيَ المعـتم المغـلق؟

 

أما عبد الوهاب الشامي فقد أمسك بخناق الشاعر فوزي معلوف في قوله:

 

دع كسير الفؤاد بين شجونهْ

بين غمِّهْ

ووحشتهْ

حيث لا يطفىء الدجى بسكونهْ

نار همهْ

ولوعتهْ

 

”إلا أن هذه التأثيرات قد تبدو أكثر نضجاً، فتتحول إلى جزء من تجربة موهوبة ومشروعة كما لدى الشاعر أحمد العواضي في اتكائه على عوالم محمود درويش كقوله عن صنعاء:

 

من أين لي لغةٌ بلون الماء كي أتجاوز المعنى وأدخل في تفاصيل المفاجأة الأخيرة. في مساء سكينة الدنيا أرى غسقاً تدلّى من ضفائرها الكثيفة. حُمرةَ (الياجور) أم شفة المدينة.نكهة الليمون في التسبيحة الأولى بداية نمنمات الصّبح في الأسواق. أصوات الملائكة، العصافير، النساء. حفيف أشجار من التوت المخبّأ في حواريها. ملامح (خربشات الجصّ) بين فضائها والأرض أوتار التّهيّؤ للغناء. وقار إيماء الظهيرة. غيم منتصف السماء. نشيد أزمنة تفرّ إلى معادنها الخبيئة.

 

وسأكتفي أخيراً بأظرف بصمة للسياب ظهرت لدى سعيد الشيباني على هذا الشكل:

غرف من حقل بني أصيحْ

حتى تميد القصورْ

فلتسمعي للمذيعْ

يا عاتيات الدهورْ

جاء اليقين اليقينْ

صنعا بلادي تثورْ

الشعر يتقدم

 

منذ بداية السبعينيات بدأت تنمو حركة شعرية أقرب إلى الحداثة، ولم يكن في ذاكرتها سوى شذرات من شعر التفعيلة مرت سهوا ً عند علي باكثير وحسن السقاف وأحمد الشامي، ولم تشكل أساسا ً أو تيارا ً يُبنَى عليه، كقول أحمد الشامي:

 

أنا لا أنظم شعرا ً

فلقد أنـْسيتُ أوزان القصيدْ

إنما أنثر أشواقا ً ودمعا ً

شوق قلب مغرم ِ

وفؤاد مؤلم ِ

ودموعا ً عصرتها لهفة الروح الحزينْ

 

بعد ذلك جاءت تجارب تؤسس لتيار أكثر تحررا ً وانطلاقا ً وعمقا ً يتصدرها عبد العزيز المقالح ومحمد الشرفي وإسماعيل الوريث وعبد الكريم الرازحي وعبد اللطيف الربيع وعبدالرحيم سلام وعبد الودود سيف وعبد الله قاضي، ثم أتى جيل أدبي ذهبي سيشكل انطلاقا ً نوعيا ً، ومن أهم أسماء هذا الجيل محمد حسين هيثم وشوقي شفيق وأحمد العواضي وجنيد الجنيد ومحيي الدين جرمة وصبري الحيقي وهائل الغابري وأحمد الزراعي وابتسام المتوكل وآمنة يوسف ومختار الضبيري وعلي المقري ومحمد الشيباني وهشام شمسان وغيرهم، واللافت أن بعض الأصوات النسائية قد بدأت تطل برؤوسها على استحياء.

 

عند هؤلاء امتلكت القصيدة مغامرتها الكاملة، ولم تعد ذاكرة مثقلة بالشرح والنثرية، ولنأخذ هذا النموذج لعبد العزيز المقالح عن صنعاء وهو مزيج من شعر التفعيلة وقصيدة النثر:

‘هي في عمر سامِ ابن نوح قصورٌ معتّقةٌ وشبابيك من فضّة الحمامُ الذي اختطّها بعد أن هدأ الغمرُ وانحسر الفيضان يحلّق فوق نوافذها ويغنّي لأسلافه، للقناديل تومض في أوّل اللّيل لضوء يرقص فوق التلال وللأغنيات القديمة تنساب رقراقةً في الشوارع دافئةٌ ومدثّرةٌ بالبخور البيوت الميادين مملوءةٌ بالأحاديث والمفردات الطريّةماذا يقولون؟ صنعاء تغفو على مقعد تحت عرش الإله وتمسح بالعطر أشجارها المثمرات.(المدن الجميلة كالنساء الجميلات لايخضعن لحساب الزمن ولا يفصحن عن أعمارهن. الآثاريون وحدهم يقرؤون أعمار المدن باللّمس. والأطباء وحدهم يعرفون من ظلال التجاعيد ثمرة الزمن على الوجوه أحد هؤلاء الآثاريون يقول: إن الميلاد الأول لصنعاء حدث قبل 8000 سنة وإنها خلقت من أضلاع الجبال المحيطة بها كان غيمان أول من نقش على جبينها هلال أشواقه وأول من وهبها من ضلعه الأيسر الأعمدة الفارهة أعطاها من جلده النوافذ المتربصة بالشمس منذ عشرات القرون وهي تطل على الوادي. وهو يقف بجوارها مفتوح العينين كأنه في انتظار ريشة الزمن العبقري لترسم لهما صورة تذكارية’.

 

 

أما عبد الكريم الرازحي فهو سيد قصيدة النثر في اليمن، وتمتاز تجربته بالحرارة والرقة والحميمية، وعلى عكس الذين يشعرون بغربة تجاربهم عن القارىء فإن لما يكتبه وقع خاص في قلوب القراء، وتعكس همومه الشعرية أعمق التحولات الجديدة في قلوب الأجيال الحالمة بالعدالة والحب والحرية، حتى إن في شعره نبضاً حيا ً لإنسان صادق مذعور من الجميع، حتى لو كانوا من أقرب الناس إليه فكريا ً، ها هو يقول في قصيدة يخاطب فيها فتاة روسية عرفها عند زيارته لبلدها:

 

‘أين أنتِ الآن يا لينا؟ وأين غداً ستكونين في أيّ قطار أنتِ الآن يا لينا؟ وصوب أيّ محطةٍ ومدينة تمضين؟ من فتحةِ رغبتي .. رأيتك بالأمس واليوم أراك من ثقب إبرة القلب أراك أنقى من ماء الينابيع المعدنية وأكثر براءةٌ يا لينا .. من طفل اللهب/ وجه لينا أهدأ من نهر الدون عنقها .. أشبهُ بقارورة فودكا و للينا جسدٌ مموسقٌ كقصيدة أصابعُ تضيءُ كرؤوس الأفاعي وبعينيها .. قلقُ سمكةٍ تبحثُ عن حوت لينا امرأةٌ وُلدت .. من موسيقى الفولجا لينا سمكةٌ طلعت .. من أطراف البحر ولينا السمكةُ المرأةُ قالت لي: من يأخذني إلى مدن الشرق المسكونة بالرجل الحوت! كان حاجزٌ نوويٌ يفصلني عن لينا كان النجم القطبي أقرب إليّ من لينا أخذ اليأس يدبّ فيّ دبيب النّمل وأخذ الخوفُ من لينا يلتمّ عليّ لينا من عائلةٍ نوويّةوأنا عائلتي من طين لينا امرأةٌ عظمى وأنا رجلٌ مسكين و لينا تسافر جوّاً بالصاروخ تنقلها .. مدمّرةٌ إلى الشاطئ وحين تزور جارتها .. تركبُ دبّابة لينا مدينةٌ مغلقةٌ في وجهي.’

 

ويقول في مكان آخر:

 

يا أولادي

أوصيكم أن تلعبوا بالنار

ولا تلعبوا بالحبر

 

أو في قصيدته لصديق له كان سجيناً عند تحقيق الوحدة اليمنية:

 

يتقاتلون

وأنت تبكي

يتصالحون

وأنت تضحك

يتوحدون

وأنت وحدكْ

 

 

أما الشاعر محمد حسين هيثم فهو أكثر شعراء اليمن حداثة وتجديدا ً في أفق إبداعي تسنده ثقافة متنوعة، ولغة متألقة، وتجربة تستحق الدرس والتحليل، خاصة أن هذا الشاعر الخارج من تجربة ناضجة إنسانيا ً وسياسيا ً، فبعد الكثير من الانغماس في الوحل والنقاء اليمنيين خرج الشاعر وقد تملـَّـك رؤيا فيها الكثير من التأمل والشغل على اللغة والإيقاع أو التفلـُّت منه، وصارت لغته الشعرية شديدة الهدوء حتى كأنها تراتيل، وتعمَّق إمساكه باليومي والمرئي لينتقل منهما إلى لغة فيها زخم حميم من الصوفية التي تؤجـِّج الشعر، كما نلاحظ في هذه القصيدة عن مدينة تعز:

 

من أغضبها

كي تحمل سلة أنجمها

وتسير إلى أقصى النسيان؟

هي أحلى امرأة تتنزَّل من ‘صَبر’

في سلتها خبز الله

وفي شفتيها كرز الشيطانْ

 

أين المرأة الشاعرة في هذا المشهد الشعري اليمني؟ لقد ساعد الحراك الطبيعي لتحول المجتمع البطيء، وارتباط الوحدة اليمنية بانطلاق الحريات السياسية والحزبية على اقتحام المرأة على خجل كتابة الشعر، وهي تعني بلا شك مغامرة البوح الذاتي عما يعتمل في الروح والجسد والمجتمع.

 

فعلى الرغم من أن هذا الدخول ارتبط بكثير من المغامرة على الصعيد الاجتماعي، إلا أن هؤلاء الكاتبات تحتضنهن أجواء نخبوية تتسع يوماً بعد يوم.

 

وقد كنت على صلة وثيقة بالتيار الشعري اليمني في اليمن بحكم عملي لتسع سنوات(1988-1997) محررا ً ثقافيا ً مما يخوِّلني لتشخيص المشهد إبداعياً وميدانياً، لهذا فالأصوات النسائية التي تـُسمع الآن تأخذ مساحتها انطلاقاً من انحياز ٍ لأنوثة تتوق إلى الانطلاق في كهف قاهر، لكن معظم الأصوات النسائية محدودة الاطلاع، وضعيفة الأدوات، وفيها الكثير من التكوين المشوَّه تبعاً لردة الفعل وسط احتفائية مصطنعة، ورغبة إثبات الذات بما يتوافق مع هذه الاحتفائية، تشارك فيها أقلام نقدية عربية تحكمها الحال التي أشرت إليها في ثنايا هذه الإطلالة على الشعر اليمني.

 

واللافت أن قصيدة النثر باتت الشكل شبه الوحيد للشعراء والشواعر، ولعل السهولة التي تمثلها الكتابة النثرية جعلت الحماسة لقصيدة النثر مبالغا ً فيها، خاصة لدى النساء.

 

ومن العادل تماماً أن أقدم لكم نموذجاً لواحدة من أهم الأصوات النسائية هي ابتسام المتوكل:

 

قرينان نحن

أنا والقدر

وحيدين صرنا

وحيدين كنا

وحيدين نبقى

وليس معي في الخواء المديد

سوى حلم صلبته يداي

 

 

الشعر اليمني الآن موعود بالكثير، على الرغم من ثقل التقاليد الفنية والاجتماعية، فقد أخذت اليمن تتجه بسرعة نحو الانفتاح على مختلف الثقافات، والتعليم في تطور مستمر، وبدأت بذور واعدة في نقد أدبي يحاول الابتعاد شيئا ً فشيئا ً عن الحالات الإخوانية، وهيمنة الأسماء المكرَّسة من مختلف الأجيال.

 

ملاحظات:

 

• جمال جميل ضابط عراقي من الموصل، رئيس البعثة العسكرية العراقية، كان من قادة ثورة 1948، أعدم بعد فشل الثورة، وبعد ثورة 1962 سُمَّي أحد شوارع صنعاء الرئيسية باسمه وتحول منزله إلى متحف.

• ‘حاشد’ و ‘بكيل’ قبيلتان يمنيتان مشهورتان من الطائفة الزيدية.

الزرانيق: قبائل يمنية شافعية، موطنها تهامة، ومركزها مدينة ‘بيت الفقيه’ عُرفت بانتفاضاتها المتكررة على الإمام.

• صبر: جبل يشرف على مدينة تعز.

• مراجع لها دلالة خاصة يُنصَح بالعودة إليها لتضيء الكثير مما ورد في الدراسة:

• شعراء اليمن المعاصرون. هلال ناجي. مؤسسة المعارف. بيروت 1966.

• الشعر المعاصر في اليمن. د عز الدين إسماعيل. مطبوعات معهد البحوث والدراسات العربية. القاهرة 1972.

• موضوعات في النقد الأدبي. حسن عزعزي. دار الفارابي. بيروت 1980.

• نجمة تقود البحر. شعر. عبد الفتاح إسماعيل (تقديم: أدونيس). دار المدى. دمشق 1998.

• على مسافة من الذات. ميفع عبد الرحمن. دار الهمداني. عدن 1987.

• مجلة ‘الأسبوع العربي’ . بيروت 1/8/1988.

 

* بيان الصفدي/ شاعر وناقد سوري عمل لفترة ثلاثة سنوات بداية التسعينات من القرن الماضي المحرر الثقافي لجريدة الثوري لسان حال الحزب الإشتراكي اليمني