كتابات

“السريالية ومفهوم الحداثة في الكتابة الٱوتوماتيكية” «أقل من حرب» لليمنية بدرية محمد.. ٱنموذجاً

معاذ السمعي - انزياحات
معاذ السمعي - انزياحات

إن القفز إلى ما وراء الواقعية، وفرض اللامرئية كواقع ملموس، والاعتقاد المطلق بوجود نقطة في الفكر ينعدم فيها إدراك التناقض بين المتناقضات، كالحياة والموت، والواقع والخيال، والماضي والمستقبل، وما يقبل التواصل وما لا يقبل التواصل، وما يقبل المنطق وما لا يقبل المنطق، والاهتمام بالبحث عن المتضادات وإيجاد الروابط الخفية بينها ونقاط الالتقاء، لهو أبرز ما عُنيت به المدرسة السريالية منذ أواخر العقد الثالث من القرن العشرين، وتباعًا تشكلت أقرب الطرق للكتابة “الآوتوماتيكية” للشاعر المعاصر، فرؤيته لانعدام التناقضات تلغي الروابط الزمانية والمكانية الواقعية لينتقل بعدها مباشرة إلى عالم الفكر والشعور.

 

وإذا ما عمدنا -مبدئيًّا- إلى عنونة النص (أقل من حرب)، نجد أنه وللوهلة الأولى يحملنا ببساطة إلى “النقطة العليا” حيث ينعدم الإدراك ويبدأ الدوران الحسي حول هذه الكتلة اللامتناهية من الأبعاد، وببساطة أيضًا ندرك أننا أمام علامة فنية مميزة في مفهوم الحداثة تقودنا مباشرة صوب الحرفية (الأوتوماتيكية) التي تجوب في أعماق الذات وتجوس عبر الأحلام، فالحرب ليست قليلة البتة، فهي الفناء بعينه. لكنها الحرفية الفنية والاحترافية الساخرة، لحالات الجنون والهذيان التي تستشف همومها في أعماق النفس الواعية واللاواعية وتقهر الواقع عبر المفارقات والتناقضات الساخرة، التي لا تعير أي اهتمام بقواعد المنطق أو اللغة، وهذا الأمر لا يمثل نوعًا من العبث، قدر ما يمثل موقفًا فكريًّا، ورؤية مختلفة نحو العالم والمجتمع.

 

ومما لا شك فيه أن المتكلم هنا تعمد التركيز المكثف على المتلقي منذ البداية ليخبره بأن الشاعر الحقيقي يمكنه أن ينحت في عيون المثقف التقليدي أوسع البوابات إلى “النثرية التلقائية” وبهذا البعد الفلسفي المحض يعمد لبداية حقيقية مغايرة وأسلوب لفكر حداثي بعيدًا عن طبيعة الفكر المتداول ووظيفته بآلية نفسية محضة تتيح للفنان المبدع التعبير بأسلوبه والعمل بعيدًا عن رقابة العقل الجمالي والكتابي المتوارث. وفي إطار النص، يتجاوز الشاعر الحرفية التقليدية ويقدم نصًّا شعريًّا متميزًا يكشف مضمونه اللغوي وطابعه الجمالي عن انحياز مطلق للسلام على أرضية التصدي الدائم للعنف والحرب والكشف الخلاق عن سمات المثقف الشاعر الذي غادر القافلة واختار المواجهة مباشرة مع سلبية الواقع، حين يغادر بحسه الساخر وإمكانياته الشعرية المدهشة مواقع الخلل البنيوي المناهض للحرب، ويختار بمحض إرادته الوقوف في الاتجاه المعاكس، ويكسب الرهان ويبلغ المجد الشخصي حتى المنتهى.

 

وفي هذا السياق يتكون «النص» من ستة مقاطع شعرية رصينة ومتماسكة تنساب جميعها على فكرة “المصادفة الموضوعية” وتسعى بجهد عبر الروابط الطبيعية بين الآلية الذاتية الشخصية والآلية الكلية، أو بين اللاوعي الشخصي الفردي واللاوعي الجماعي واللاوعي الكوني، وبالتالي فالمغامرة هنا تحتاج إلى خلفية ثقافية هائلة ودراية واسعة للغور فيها تفصيلًا، وأعتقد أني أقل من ذلك بكثير، لهذا سأتوجه في الإطار المخول لي وأقف عند الحد المسموح لسقف درايتي، وأتناول الجزء الأبسط من جماليات النص الكلية من حيث:

♦ الانزياحات السريالية والمقاربات الآوتوماتيكية وما إلى ذلك من تتبع الروابط الخفية ونقاط الالتقاء.

♦ الأصوات الديناميكية والصدى الغيبي.

 

وكما نلاحظ في المقطع الأول أن الشاعر يبدأ بالتشبيه المغاير لطبيعة الحال، ملتزمًا بأبرز الأساسيات التي يقوم عليها النص “السريالي” ومركز الثقل في هذا الافتتاح المشار إليه /المدينة/

(كمرآة تعكس حريقًا هائلًا.

تستحم ألسنة اللهب في مساماتها الباردة..

بدت (صنعاء)

في أول سورة القصف

غارقةً وجميلة،

ملاية الدخان

تغطي زرقتها في الأعالي،

وتفتح الكثير من الأسرة الناعمة

في رحم الأرض).

ويدخل بنقيض مباشر وساخر في دهشة المواجهة فهو يبرز كل ما لديه من القدرات ليخلق من المدينة المشتعلة تحت وطأة القصف وأزمة الصواريخ والكوليرا، واجهة زجاجية عملاقة مستلقية بكامل أناقتها، وبنفس الأناقة يتجاوز حالة التشظي المباشرة ويعمد إلى إبراز صورة خفية كاملة ليس لذاته فحسب بل لذات المدينة (صنعاء) ليتوسع بعد ذلك ليشمل ضمير المجتمع عامة كون هذه الأخيرة رمزية البلاد الأولى. وطبيعي هنا أن تتجسد (المرآة) كرمزية للنرجسية المجبولة بالتحدي حسب سياق الرؤيا، لنفسية الشاعر وهذا ما تكشفه الصورة التي عمد إليها (تستحم ألسنة اللهب في مساماتها الباردة) وأكدها الانعكاس كخلفية للرفض المتناقض بالرهبة والصمت (الباردة). وكرمزية للامبالاة وعدم الاكتراث لصورة الحياة المؤقتة والمتحطمة في افتراضية الذات يعمد إلى تجميل المشهد الكارثي المترتب على قبحية الحرب وبالتالي كان لا بد أن يطلق للخيال والتلقائية العنان بعيدًا عن حكم المنطق وسيطرة العقل، وحتى لا يؤطر إبداعه وتعبيره اللامحدود كانت الصورة كما يراها في اللاوعي حيث تتكثف الروابط كمواعيد خفية مع السلام. فالمنطق -حسب هذا النهج- هو أداة تحجيم للإنسان وخياله، وعلى هذا فكل ما يعبر عنه العقل اللاواعي هو الحقيقة الخالصة في الإنسان. ولا يستطيع أن يعبر عنها إلا بقوة خياله الناتج عن أحلامه ولا وعيه.

 

وفي إطار هذا التوظيف البديع للمتناقض واللامعقول تتصدر وبشكل “آوتوماتيكي” وظيفة أخرى تتلخص في قدرة الشاعر على التركيز “الديناميكي” للمتلقي بعيدًا عن الهيمنة العاطفية وأصوات الحوار الداخلي عبر إيجاد قنوات وثقوب متفرقة تجذب المدرك -وبطابع تحريضي- إلى عوالم أخرى مناهضة للحرب، وله أن يتصور حجم التشوهات والخيبات التي حلت بشكل الحياة جراء ذلك الاستحمام المعني بمحاولاته البائسة ورغبته المحمودة في إطفاء الحرائق وإسكات آلة الحرب. وعلى خلاف السورة الأولى التي أخرجت هذه الأمة من دياجير الجهل والتخلف إلى نهارات الحياة والنور، تأتي (أول سورة القصف) بالفناء الحقيقي للأرض والإنسان. وبهذا الرفض المحمود والرغبة الملحة يصور الشاعر شبح الحرب وظلامية الصراع والحرائق المكتظة والمتوالية من بدايات المساء إلى أقصى النهار، بغطاء هش من القماش المعتم، ويحدوه الأمل بسهولة انتزاعه (ملاية الدخان)، بحنكة الاستمرار على قيم الرفض، غير مكترث بعزلة الحياة (تغطي زرقتها في الأعلى)، ولا بطريق العودة المفروضة قهرًا بإرادة الحرب، ولا بحدائقه وأسواقه التي حولتها كالصريم وأصبحت مجرد شقوق ومدافن تستقبل وجباتها السريعة من أبناء جلدته بشراهة لا تنتهي (تفتح الكثير من الأسرة الناعمة في رحم الأرض)، وبهذا المعنى تصبح الوظيفة المهيمنة للقارئ هي وظيفة البحث عن الروابط الخفية بين كتلة التناقض واللامعقول من جهة وبينه وكينونة الشاعر كحالة للضمير الفردي والاجتماعي للوطن الواحد من جهة أخرى.

وفي سياق المواجهة والوصول إلى الغاية المحتومة يتدفق الشاعر في نطاق صنع اللحظة الفنية المكثفة التي تعكس بؤس الواقع وحتمية انتصار قيم السلام، ويتجه صوب الخبرية المحبطة متكئًا على جملة التناقضات اللامنطقية والانزياحات اللاواقعية بين حالة الحرب وحالة الرفض ومناخ الاستحالة الذي يهيؤه الشاعر بلغته السريالية المفرطة.

 

وفي اتجاه التركيز على وظيفة الحوار “الغيبي والصدى” المرتد بين المتكلم والمتلقي في هذا السياق تتظافر الصور الجمالية في تتابعها وهي تؤكد أن المكسب الحقيقي للإنسان لا يتحقق من خلال استمرار الحرب وطواحينها البغيضة التي أصبحت جزءًا من حياتنا اليومية ولا يمكن أن نصل من خلالها إلى حالة السكينة الحقيقية والسلام الشامل لأنها على افتراض الصحبة لم تكتفِ بهذا الدمار الذي ألحقته بالأرض والإنسان بل تعمدت التعسكر في عقول الناس واستنهضت طاقة الشر والجريمة ..

(الحرب ليست غريبة أبداً

إنها صديقتي الوحيدة!

التي حركت الصداع

في رأسي

وأغلقت جحيمها على الأرانب) ..

 

وعلى هذا يتداخل صوتان يمتزجان ويشكلان نموذجاً لحنياً فريداً.

الصوت الأول ينبثق ضمنياً من خلال المعنى الكلي للنص، وهو الصوت الرافض لاستمرارية الحرب.

والصوت الثاني هو صوت الجواب الذي يحشد من خلال البناء اللامعقول واللغة اللامنطقية حالة إبداعية في الحقيقة والمواجهة والتحدي.

 

هذا هو صوت الشاعر «الحرب ليست غريبة» الممتزج بجواب الحقيقة «إنها صديقتي»، وهو الأمر الذي يتكرر معلناً قيم التحدي والرفض لهذه الآلة العبثية التي تصاحبنا بكل أوجاعها وآلامها المزمنة «حركت الصداع في رأسي» باعتبار صوت الشاعر هو صوت الضمير الجمعي في حالة المواجهة «وأغلقت جحيمها على الأرانب».

 

ما يؤكد أن التمازج الصوتي والدلالي بين حالة الحرب والرفض وحالة الصراع والمواجهة، هو ناتج الوظيفة الكتابية المنبثقة من تلقائية النص وهي الوظيفة الشعرية، حيث تتفرع عنها جملة من الأصوات والوظائف الخفية، لا تلغي الوظيفة المركزية للشعر المتمثلة في أنه يقدم أدباً رائعاً يأتي انعكاساً جمالياً لحالة الصراع فيصوغها صوغاً جمالياً على نحو مغاير.

 

وهذا ما نلاحظه في المقطع، فهو يحمل في محتواه الفني والدلالي صوتين لذات واحدة: الصوت الأول ينتمي للزمن الحاضر حيث الحرب في أوج نشوتها، بينما الصوت الثاني ينتمي للماضي وإن كانت الجمل في صيغة ما هو كائن إلا أن دلالة الزمان هنا تتضمن ما قد كان «الحرب ليست غريبة أبداً، الحرب صديقتي الوحيدة». إن وظيفة الصوت هنا تتلخص في كونها تشير إلى مركز الثقل في النص والماضي ببعده الجميل، كان محتوى وإطاراً لحلقة الاقتتال التي تمتد بمواجعها وكوارثها -صداعها- المزمنة حتى اللحظة.

 

وكمدخل للمقطع التالي: نجد أن الشاعر يمتطي وباحترافية فائقة، صهوة الأفكار النابعة من فلسفة الحركة السريالية، ويتفنن في إبراز أسسها وسماتها المتعددة بطريقة توحي بالقلة والطفرة لهذا المحتوى في مشهدنا الأدبي عامة، وهو بذلك لا يساعد نفسه في إنجاز عمله الأدبي فحسب، بالقدر الذي يساعدنا على اكتشاف العوالم الخفية في النص من مقطع لآخر.

 

..

الديار لم تعد كما كانت،

لقد صارت نظيفة،

لا شيء من وسخ الكائنات

فقط ركامها الزاهي

وأنت..!

مع أنك أيضاً لم تعد حقيقياً

أنت رجل ميت

وهذا ظلك ـ فقط ـ

يستقبل العزاء..

 

وحيث كان الاتجاه للغموض في الفن والأدب، هو أحد أبرز الدعامات التي قامت عليها “التلقائية الأوتوماتيكية” كهدف سام لا يمكن الحياد عنه، نجد أن العزاء هو المنوط بحركة الديار.

يتجدد الشاعر هنا بأبجدية مذهلة تمتزج فيها الخبرية المفعمة بإشكاليات المنطق مع أدوات العمل الفني والأدبي، المعنية بتحرير اللغة والأفكار والمعتقدات من قيود العقلانية.

 

فملامح المدينة ستبدو متغيرة بالفعل جراء القصف، ويبدو الحديث عادياً وواضحاً للوهلة الأولى، حسب المثقف التقليدي، لكن بالقليل من التركيز والانسياب مع هذا التدفق المتتالي للأبعاد،

-(صارت نظيفة، وسخ الكائنات، ركامها الزاهي، وأنت، أيضاً، لم تعد، ميت،

ظلك، يستقبل، العزاء) –

 

سأكون على يقين أن هذا الأخير سيمنحنا الدراية الكاملة بأن أحلام الجزء اللاواعي من عقل الإنسان، هو مركز الخيال والقدرة على الإبداع، ومع هذا الوضوح المفترض، يلعب الغموض الدور الأبرز على هذه المكينة العملاقة من اللاوعي الواعي والعقلانية اللامعقولة، فهو من ناحية يفر بنفسه من عمل المنطق المتمثل بضغط وتحجيم خياله الواسع فلا يبدو عاجزاً عن الإبداع والتعبير دون حدود. ومن ناحية أخرى يسحب المتلقي بشفافية تلقائية إلى عوالمه الخفية المتمثلة برغبات الحقيقة المدفونة في الداخل، ويرغمه على تطبيق الأفكار الأولية دون الحاجة لمعالجتها بالمنطق.

 

وكشكل من أشكال النشاط الإبداعي، يسعى الشاعر إلى توحيد أفضل ما لديه بنسج الرؤيا الشعرية خارج إطار التصوير الفوتوغرافي ويكشف عنها بالتقارب “اللاوعي الواعي” ويضيف إليها نسق الخلاص وسفر البسيط اللاممكن.

 

(من قبل كانت يدي عالقة

في فمك كريش سنونو

كلما حاولت

أن أخبرك أن الحرب ليست سيئة

قضمت من أناملي نصاً وأودعته الريح)..

 

إن السياق العام للمقطع يؤخذ على صعيد الصورة الفنية المتكاملة من الاستهلاك إلى الخاتمة، تنمي مجرى الصراع بين الرفض والواقع -الصوت المناهض للحرب وضجيج آلاتها البغيضة- وفي اللحظة التي تعزز انحيازها للرفض تنتهي السكينة وتحقق قدراً من التوتر، فالشاعر هنا يعمد إلى حفر مكونات المحيط علها ترسم خطى الرفض من حيث أنها موجهة ‘للبوق’ المثرثر منذ البداية على مشارف الحرب بغية شده إلى مواقع الرفض والمواجهة، وتكشف الصورة بوضوح عن إنتاج الحرب وبما أفرزتها ورسختها في النفوس باللا جدوى والعدمية لتزخر حركة الحياة بالفوضوية والعبثية العدوانية وبأن لا شيء يستحق أخذه على محمل الجد، وأن كل شيء زائف.

(كلما حاولت

أن أخبرك أن الحرب ليست سيئة

قضمت من أناملي نصاً وأودعته الريح)

..ومن حيث الهدف العام للسريالية المتمثل في تحرير اللغة والأفكار والمعتقدات من قيود العقلانية وحرصها على تقديم كل جديد وحداثي في الأدب والفن من خلال الأفكار المتعددة، التي تظهر الحقيقة وتعمق أسس الواقع، فقد أفصح الشاعر بدقته اللغوية وسرديته التلقائية عن أبرز ما يميز هذا المذهب عن غيره من المذاهب فعمد إلى زمن الرؤيا الشعرية المتجددة وحركاتها نحو المستقبل.

(الحرب الحرب

فلا تجرّب أن تعيش بدونها

كي لا تقع في عزلةٍ من نفسك

وتصير مجرد:

– غابةً عرجاء

تتعكز في الشوارع العامة

على ظلٍ ناقص،

– سعال سفينة هرمة

لم تتمكن العواصف من

انتشالها من قاع المحيط،

– فاصلةً في

قرن قصيدة إسمنتية

خرجت من حظيرة التاريخ

تعوي باسم الذين فقدوا

فحولتهم في السلم،

حسناً أنت لا تصدق..!

جرّب فقط لتتأكد أن الحياة

ليست كما ينبغي بلا

أسلحة

تعدِّل أمزجة المخلوقات،

وتنعش الأرض بنبيذها

الأحمر

ثم تذكَّر (هيروشيما-ناجازاكي)

كيف صعقتهما القيامة

وعادتا بألبسةٍ زاهية)

 

وعلى سبيل الحركة في التكرار والتأكيد هنا (الحرب الحرب) ثمة إشارة حقيقية تتجه إلى الحلم الذي يشع من خلال كل الأشياء الجميلة وهذا الملمح سنجده مباشرة في استمرارية الصورة الفنية الساخرة لكل الأحداث اللامرغوبة بغية تعاطيها مع الإنسان ومشاركتها له رحلة الخلاص من الزيف، فهذا الإصرار بين جدلية التكرارية الساخرة والتأكيدية الرافضة يمثل انزياحاً جميلاً يعربد في سماء الحسن، ويبدو أن هذه الكثافة الجمالية التي تشع من خلال تظافر الصور الفنية اللامعقولة لا تعكس المضمون المتميز للنص فحسب، بل تمتد إلى ما وراء ذلك فالتدفق المركز هنا يتعمد في الاتجاه الذي يجعل المتلقي مركز التأثير الأول وبهذا يصبح البعد الطلبي هو الوظيفة الأساسية التي تستهدف التأثير في اتجاه استنهاض طاقة الضوء والمحبة والسلام.

(فاصلةً في قرن قصيدة إسمنتية خرجت من حظيرة التاريخ تعوي باسم الذين فقدوا فحولتهم في السلم)

 

وينبغي التأكيد هنا

أن الصورة الفنية التي تتكثف في هذا النطاق تتدفق في حالة إسناد المواجهة، لوقف حالة الصد لقيم التجدد، وهذا أبرز ما عنت به “التلقائية السريالية” في نمو الحدث وتسلسله، وهو يكشف عن الضدية الكاملة بين المثقف الظلامي والمثقف المتجدد.

 

وعلى هذا النطاق اللامحدود يستمر الشاعر بالكشف عن عوالمه المترامية من خلال المزج بين الحقيقة الخارجية والحقيقة الداخلية كعنصرين في طريقهما للاندماج مع مع اقتراب التوحد النهائي، على سبيل الرفض والتأكيد والقدرة على التكيف والاستمرارية، باعتبار طرفي النقيض سببًا واضحًا لشقاء الإنسان، وبالتالي يعمد إلى مجابهة هاتين الحقيقتين الواحدة بالأخرى في كل صورة ممكنة، دون أن يجعل لأيهما أهمية أكثر من الأخرى، ولذلك جعلنا نتفحص ما بينهما من تجاذب وتداخل، وفتح لتلاعب هذه القوى المجال الأوسع من المتقاربات والروابط لتصبح في النهاية شيئًا واحدًا في «المشهد الكلي».

 

(الحرب صديقتي

وصديقتي مثلي تمامًا

كما هو الحال في التشكيل،

لا تطيق التشابه في الخلق

ولا تستهوي تكرار الصورة،

فانتازيا الحركة والاشتهاء

قد تسقط أنثى كاملة في رأسك،

ثم تصغي لعوائها يتصاعد من جيب سروالك.

أشياء كهذه تحدث -عادة- في الحمامات العامة والأسواق المزدحمة بعالم الموضة،

حاول -فقط- أن تستمتع

بالمشهد الكلي دونما

تجزئة،

وعوضًا عن صوت فيروز

اعجنه بألوان حجرتك الكسولة

أو اتركه تحت وسادتك

لعلك تنام بعيدًا عن كوابيسك المؤجلة).

فذات الشاعر تبدو ملتحمة تمامًا مع المجتمع المتماثل على طرفي النقيض، وهذا ’الانسجام’ وكما نلاحظ من خلال الكلية الجمالية للصورة، يكشف القدرات الهائلة التي تجاوز من خلالها الشاعر إلى ’خارطة الحلم’ ويبرز براعته المنقطعة و’تلقائيته الأوتوماتيكية’ الفريدة، حيث عمد إلى إسقاط كل الصور الحسية والوسائل التقليدية في طريق العبور معتمدًا على الآلية التجريدية الشاملة والتي تعني الالتحام الكامل دون تجزئة.

وحسب هذا الاتجاه

فإن “الحلم” يحمل دلالات خطيرة ليست بأقل قيمة من دلالات اليقظة، فيقدم صورة دقيقة للحياة الفكرية للمجتمع، وبالتالي هو أهم وسيلة للكشف عن الحقيقة التي يطاردها الأديب لأنه يعطي قدر ما تعطيه حالة اليقظة.

كما أن الخيال قد يتحول إلى واقع، وعليه فلا بد أن تكون الكتابة تعبيرًا تلقائيًا عن نشاط المخيلة، ولا يكون الفن والأدب حقيقيين إلا إذا انطلقا من متاهات الخيال والقوة التخيلية، اللتين توصلانه إلى مرحلة لا يعود يدرك فيها ما هي اللغة والأفكار ولا السبب ولا الوسيلة.

 

(الفكرة لم تكن في ارتطام الموج على الصخر

ولا هي في وجه أمي

الفكرة في الملح يتوسط

كل هذا الغياب!

فما رأيك أن نتسلق الفكرة

من أولها،

أو نخدش الصمت

بالقليل من القذائف.،!

سوف نبدو عاشقين مهمين للغاية،

وندخل في النص دونما

وطن يأكل أخوتنا الكلاب،

وننبح معا في المشهد

القادم من الخراب

ونغني للعتمة في وجه القمر المكسور

صباح الخير “للحب”

بزيادة سكر

وحرف الراء عوضًا عن

الملاعق الأنيقة

نغرزه كما النصل في الخاصرة)!

 

إن الشاعر يصل بالجمال الكامن في الغرابة والنقيض واللامألوف، إلى نشوة التوحد الختامي وهو بهذا يهدف مباشرة إلى إيقاظ بصيرة الإنسان ليرى كل ما هو محيط به بصورة جديدة، ويحطم الألفة بينه وبين الأشياء، حتى يرى ما فيها من أسرار ودلالات.

وحيث أن الحب هو الطريقة الوحيدة لمعرفة العالم، يختتم الشاعر بإيجاد الأفضلية بين الرصاصة والقلم ويحدد نقط الالتقاء لجدلية الحب والحرب، باعتبار الحقيقة المتمثلة بإلغاء كل الضوابط الأخلاقية أمام كليهما، واعتبار أيّ ممارسة خارج إطار الواقع أمر لا بد منه في مجتمع عانى طويلًا من الكبت والحرمان.

ختاماً

إن هذا الكم الهائل من الانزياحات “السريالية” والتناقضات “الأوتوماتيكية” والتلقائية “الدادائية” المفعمة ببنية شعرية متماسكة لا يفقد الشعر جمالياته بل يكسب الرهان على بلوغ ذروة التألق الجمالي، على الرغم أنه يتصدى لممارسة أيديولوجية في حقل الكشف الدائم عن سوءات الحرب، ويخوض في تفاصيل دقيقة دون أن يغامر بالإبداع الشعري.