كتابات

الأولمبياد.. إعادة صياغة تاريخ فرنسا بسرد يناسب ثقافة التعددية

الأولمبياد.. محمد نبيل - انزياحات
محمد نبيل - انزياحات

* محمد نبيل/ كاتب مصري

انتهيتُ من مشاهدة حفل أولمبياد باريس الذي استغرق 5 ساعات، وفي الحقيقة لم أجد به أي شيء يقلل من الأديان أو يعلي من شأنها رغم تحفظي على مثل هذه المصطلحات.

 

فبالنسبة للمشهد المثير للجدل، لم يكن مشهدًا، بل لقطة بسيطة استغرقت ثانيتين وهي لقطة البداية في عرض مسرحي واحد ضمن عدة عروض صُمم فوق كوبري أشبه بكوبري إمبابة لدينا في القاهرة أو كوبري أبو العلا القديم الذي تم إزالته، وهو بالفعل كادر يأخذ التكوين الأفقي للوحة العشاء الأخير، والتي أمامهم ليست ترابيزة بقدر ما هي منصة فرجة على ديفيليه، يعني المشهد كاملاً عبارة عن صفي جمهور مقابلين لبعضهما البعض وبينهما يوجد مسرح لعرض أزياء. بمعنى أن مخرج التليفزيون لو غيّر منظور اللقطة لم يكن أحد سيلمح هذا التكوين، لكن مخرج التليفزيون تعمد إبراز تكوين دافنشي ومخرج المسرح تعمد تلبيس بطلة العرض الطوق الفضي هذا فوق رأسها كي يشبه هالة الضي المقدسة، وبهذا يصبح التناص غاية في المباشرة. وليس هذا التناص تناصًا مع لوحة دافنشي لأن دافنشي لم يرسم هالة الضياء حول رأس المسيح، بل كان معروفًا من لوحته أن المسيح هو الذي في المنتصف، لكن المخرج لبس البنت الطوق الفضي كي يؤكد على أنه بيشتبك مع المسيحية وليس مع لوحة دافنشي، فلم يأخذ من لوحة دافنشي سوى التكوين الأفقي فقط، وهذا التكوين تم هرسه في أكثر من عمل فني، حتى في مصر صممه داود عبد السيد في فيلم مواطن ومخبر وحرامي عندما كان شريف المربوشي الحرامي يغني على المسرح ويقف في منتصف كادر يمتد فيه المسرح بطول الشاشة، وعلى يسار المربوشي الرقصات الشعبيات ببذلاتهن وعلى يمينه أيضًا، وفي نظري كان مشهدًا أكثر عبقرية وتفجيرًا للدلالات من المشهد الفرنسي. ومع ذلك لم يستطع أحد أن يقل عنه شيئًا نظرًا لتعدد تأويلات المشهد وعدم مباشرته. ورغم أن مشهد المسرحية -عكس ذلك- مباشر، إلا أنني أيضًا أتساءل أين الإهانة في هذه المباشرة؟ فالمسيح كلمة والكلمة تستحيل أي شيء؛ في المجتمع الأسود ممكن أن يكون المسيح أسودًا، وفي الأبيض من الممكن أن يكون أبيض، وفي الأصفر من الممكن أن يكون أصفر وهكذا. مع ذلك، إنجيل يوحنا شدد على جنس وطبيعة هذه الكلمة، فهي مذكر عاقل، فرغم أنها مؤنثة في العربية إلا أن ضمير الفاعل “هو” هو الضمير المرافق لها، ورغم أنها غير عاقلة في الإنجليزية إلا أن ضمير الفاعل He هو الضمير الذي يأتي معها. وكأن يوحنا المرسل قد تنبأ بأن هناك مجتمع سيأتي بعده ويحاول اللعب في جنس الله ويجعله أكثر مطاطية وبراحًا، وبالفعل جاء هذا المجتمع وهو مجتمع الكويريين الذي كانت بطلته الممثلة في العرض التي ارتدت رمز هالة الضياء. وهي ليست ممثلة فقط، بل هي أيضًا زعيمة ونجمة في مجتمع المثليين والمتحولين. إذن قد يمجد العرض مجتمعًا جديدًا له دين جديد، هذا الدين يشبه المسيحية في بعض أو كل الأشياء ما عدا في جنس الله.

 

الحقيقة أن هذا عرض واحد ضمن عروض كثيرة تحدثت كلها عن إعادة صياغة تاريخ فرنسا بسرد يناسب ثقافة التعددية التي تتبناها وتمولها السلطة الغربية المعاصرة العميقة، وهذه السلطة كأي سلطة تعمل على تدجين يسارها حتى تستقر الأمور. هذه الأفكار والمجتمعات نشطت من الهيبيين الأمريكيين في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي وانتشرت في كل بقاع المجتمعات الغربية. لكن الهيبية كانت حركة تحررية واسعة ترفض الإمبريالية والديكتاتورية والفاشية والنازية وإسرائيل وقمع النساء والاعتداء عليهن والتقليل من مشاركاتهن الاجتماعية، وترفض قمع المثليين والعنصرية ضد السود. وظهر منهم ميشيل فوكو ليرفض كل أشكال السلطة الجنسية ويبيح كل أشكال الجنس بما في ذلك السادية والمازوخية وعلاقات الكبار والأطفال كما علاقة بريجيت وماكرون. ونادى الهيبيون أيضًا بحرية العاملات والعاملين بالجنس وحرية تداول المخدرات، كما كانوا ضد الفساد ورفض الاشتراك في بيروقراطية مؤسسات الدولة، فأغلب رواد الهيبية في أمريكا رفضوا استكمال تعليمهم العالي. كانوا مؤمنين بالنقائية لأقصى مدى، لذا ظهرت من بينهم حركات فنية محورية كالتبسيطية والموجة الجديدة في السينما والتفكيكية في الأدب، كما ظهرت من بينهم جماعات عنف من أجل التحرر الوطني ارتكبت أعمالاً ضد السلطة والساسة المجرمين ودعموا جبهة التحرير الفلسطينية في جميع أعمالها ضد إسرائيل.

 

فلم يكن طريق أمام البرجوازية الغربية إزاء استفحال هذا التيار سوى بتدجينه، عن طريق اقتطاع جزء منه ودعمه بالمال والسلطة والنفوذ ليهدأ العملية ويقضي على ما تبقى. وبالفعل اختفى الهيبيون، لم يتبق منهم سوى جيل جديد من مطبقي رغبات السلطة يسبح سباحة في الدولارات والسلاح والنفوذ، هم رمز للسلطة الإمبريالية قبل أن يكونوا رمزًا للهيبية أو اليسار ويظهرون دائمًا في معظم المحافل ليبشروا ببعض أفكار الهيبيين المقتطعة من سياقها وماضيها ومن كمالها فيظهرون متسامحين مع علم إسرائيل ومؤتمرات وحفلات ومهرجانات الحكومة والسلطة وتليفزيونها الرسمي، ويأخذون من مصطلح اليسار شعاراً لهم وتحرص الحكومة على لصق هذا المصطلح بهم لتثبت أن قلبها كبير ويسع الجميع (يتبع اللواء عبد الفتاح هذا النهج أيضًا حينما يصطحب الإعلامي يوسف الحسيني في جميع افتتاحاته ويسأله بما إنك يساري يا يوسف ليؤكد على أن يوسف هو رمز اليسار المصري الذي تحتضنه السلطة وتمنحه أهم برنامج في تليفزيونها الرسمي، بس كل مجتمع على أد يساره يعني). لكن السؤال الذي يجب طرحه على السلطة الغربية هو: أين تلك التعددية الجنسية؟ أين الساديون مثلاً أو المازوخيون، لماذا لم يتم الترويج لهم في الحفل الذي يؤمن بالتعددية والحريات؟ أين التعددية في الترويج لكيان مثل إسرائيل يقتل آلاف الأطفال والنساء بدم بارد ويتم دعوة رئيسه المجرم باعتباره رئيس دولة وترفرف أعلامها في كل أركان باريس ويخصص لوفدها قوات خاصة للتأمين تختلف عن كافة القوات المؤمنة لباقي الوفود، ويصدر لها رئيس الجمهورية الفرنسية ترحيب رسمي مخصوص؟

 

إن تبني السلطة الغربية للهيبية والحريات والتيارات اليسارية، هو محض أكاذيب وأوهام من أجل نهب الشعوب وترويع حياة الغلابة. حفل خمس ساعات من الملل مروا عليّ كأنني أستمع إلى خطبة من خطب السادات. فمن المثقف غير الفرنسي الذي يحتمل أن يشاهد خمس ساعات تروي تاريخًا سطحيًا لفرنسا (وهي بلد لا تخصه) بعد مئات الكتب التي قرأها عن تواريخ فرنسا في الجنس والطب والفلسفة ليصل إلى معنى معين لم يكن سيفهمه لولا بمعرفة هذا التاريخ؟

 

هنالك فقرات جيدة في الحفل لكن إذا تم اقتطاعها من سياقها وشوهدت كعمل فني مستقل بذاته. فقد أعجبني العرض الذي أحيا البيتلز وكان عبارة عن بيانو يسبح فوق المياه وهو يحترق، كما أعجبتني فكرة مسرحة تلك المساحة الشاسعة من باريس ومسرحة الزمن أيضًا عندما تتحول الأشخاص في الفيديوهات إلى مجسمات تظهر على أرض الواقع بنفس أحداثها في الفيديوهات. وحتى هذا الجمال هو جزء من سلطة التدجين.. تدجين للفن وتدجين للبيتلز فريق الهيبيين المفضل.

 

وبالتأكيد أيضا هناك مقاهٍ ومطاعم في باريس كانت مخصصة للهيبيين ويساريي الستينات يحتسون فيها الكونياك بأسعار زهيدة في الماضي، واستولت عليها الآن السلطة والبرجوازيون ورفعوا سعر الكأس الواحد لخمسين يورو أو ربما مئة، مثلما يحدث حاليًا في بارات وقهاوي وسط البلد والإعلامي يوسف الحسيني.